الاثنين، 19 مارس 2012

اللغة الصينية حول العالم

  العدد: 169   التاريخ: 19/03/2012    
          يعود عمر اللغة الصينية إلى 3 آلاف سنة على الأقل، وهي تتمتع بقدرة فائقة على التكيّف مع أحداث التاريخ وتغيّرات الأزمان، كما فعلت في العصور المختلفة. وعلى الرغم من بطء تغلغل تعليم الصينية في بلدان العالم أجمع، يجري تعليم الصينية الحديثة (اللغة الرسمية في الصين) اليوم في أكثر من 100 دولة في العالم. ومع أن تعليم الصينية في المدارس الثانوية في فرنسا لا يشمل أكثر من 1% من الطلاب، فإن وزارة التربية والتعليم الفرنسية أنشأت مفتشية خاصة بتعليم الصينية في المدارس الفرنسية، كما يقول جويل بلاّسيم Joël Bellasem أستاذ الصينية في "معهد اللغات الشرقية" (inalco) في فرنسا، وواضع كتاب "منهج لتعليم الصينية والكتابة بها" (Méthode d’initiation à la langue et à l’écriture chinoise).

كما يقول بلاّسيم أيضاً إن الكتابة الصينية واحدة، على الرغم من اختلاف لهجاتها، التي قد يعجز أحياناً المتكلّمون بها عن التفاهم في ما بينهم؛ فلهجة الشمال الصيني هي اللغة التي يتكلّم بها أكبر عدد من الصينيين (850 مليون صيني) وما اللغة الرسمية المعتَمَدَة في الصين وسنغافورة وتايوان (وتسمّى باللاتينية "مانداران" mandarin) إلا منوّع من هذه اللغة، في حين أن اللهجة التي يتكلم بها أبناء شنغهاي، وتُسمّى "وو" (wu)، فيبلغ عدد الناطقين بها حوالى 80 مليوناً. أما الصينية التي يتكلّم بها أبناء هونغ كونغ وماكاو فيبلغ عدد الناطقين بها حوالى 70 مليوناً. وثمة لهجات صينية أخرى، مثل لهجة الـ"غان" (gan) السائدة في جيانغسي، ولهجتَييّ"هاكا" (hakka) و"مين" (min) التي يتكلّم بها أبناء مقاطعات غوانغ دونغ وفوجيان وتايوان. وثمة أيضاً مجموعات لغوية صينية أخرى، كمجموعة "مينان" أو "هوكيين"، التي تضمّ اللهجة التايوانية والتشيووية والهينانية، ومجموعة "مينبييّ" التي تضمّ، في ما تضمّ، اللهجة التي يتكلم بها أبناء مقاطعة هونان، وغيرها من المجموعات اللغوية الصينية..

قبل نصف قرن كان الذهاب إلى الصين بمثابة سفر إلى القمر أو إلى المريخ، إذ يستحيل التخاطب مع أيّ صيني إلا بالإشارة والإيماء. والحق، إن الفكرة الشائعة بأن اللغة الصينية معقدة، وأن تعلّمها "مستحيل" هي مجرّد وهم. فواقع الأمر، أننا إذا أخذنا في الحسبان التكلّم بالصينية لا كتابتها، نكتشف أنها لغة سهلة يسيرة التعلّم. علاوةً على أن قواعد اللغة الصينية فريدة في سهولتها وبساطتها: فالأفعال لا تتصرّف، والأسماء والصفات لا تتغيّر مطلقاً، سواء في التذكير والتأنيث، أم في الإفراد والجمع، وسواء كانت في محلّ الفاعل أو المفعول به. قاعدة النحو الأساسية في الصينية هي الجملة البسيطة التالية: الفعل + الفاعل + المفعول به. ويكفي وضعها جنباً إلى جنب مع مراعاة بعض الأنظمة في وضعها. كلّ الأهمية تنحصر في نبرة اللفظ والنطق بالكلمات تبعاً لنظام التصويت. ولعلّ "الخوف" من الإقدام على تعلّم الصينية ناتج عن مسألتين جديدتين تماماً على المتعلّم العربي أو الغربي، يراهما المتعلّم حاجزاً لا يمكن تخطّيه فيُحجِم عن اقتحامه، وهما: "غرابة" صور الكلمات، وغرابة اللكنة أو لهجة النطق بالمصوّتات الصينية. ولكن ما إن يبدأ بـ"اقتحام" سور اللغة الصينية، حتى يشعر بأن هذا السور لم يكن سوى وهم خالص.

يقول ديفيد بينازيراف David Bénazéraf في مقالة بعنوان "الصينية لغة العالم مستقبلاً" (Le chinois, future langue mondiale) إن "الكتابات الأولى باللغة الصينية تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد" (راجع مجلة Sciences Humaines آذار/ مارس 2012) ويُضيف بينازيراف أن الغربيّين يرون في هذه الكتابة سلسلة من الصور المتشابهة، حتى لتكاد تكون واحدة، متجاهلين الاختلاف البادي في كلّ صورة منها عن الأخرى؛ وذلك خلافاً للكتابة باللغات الأبجدية. فالصينية لغة صورية لا أبجدية، والفارق بين اللغة الصينية واللغات الأبجدية أن الحرف في اللغة الأبجدية يُنطَق ويُلفَظ فيوحي اللفظ بمعنى محدّد، في حين أن الصورة في الكتابة الصينية لا توحي بهذا المعنى وإنما يوحي به النطق بها عند قراءتها.

وتقول فيفيان ألتون Viviane Alton صاحبة كتاب "الكتابة الصينية وتحدّي الحداثة" (L’Ecriture chinoise. Le défi de la modernité) الصادر بالفرنسية عن دار "ألبان ميشال" (Albin Michel) إن ليست هناك أبجدية صينية بالمعنى المتعارف عليه سواء في اللغات السامية أم في اللغات الهندوروبية. فالأبجدية في هذه اللغات مؤلفة من الحرفين الأوليين "ألفا بيتا" في الإغريقية، و"ألف باء" في السامية. وكلّ حرف في هذه اللغات ليس له بمفرده معنى خاص. أما الصينية فليست فيها حروف، بل علامات أو صور ـ إذا جاز التعبير ـ لكلّ منها "معنى" أو "تصوّر" أو دلالة على شيء. وأكثر ما يقرِّب الصينية من اللغات الأوروبية والسامية هو المقطع الذي يتألف غالباً، في هذه اللغات، من حروف صامتة (consonne) وأخرى مصوّتة (voyelle)؛ ففي الصينية الحديثة هناك حوالى 400 مقطع يتألف كلّ منها من عنصرين: الأول، يُسمّى "شنغمو" ( ) والثاني "يونمو" ( ). القسم الأول من المقطع الصيني (شنغ) هو "الحرف" الصامت، يليه على الدوام مقطع ثان غالباً ما يكون مصوّتاً. أحياناً يشكّل الـ"يون" وحده مقطعاً قائماً بذاته، وفي بعض الأحيان يتشكل المقطع الواحد من 2 "يون" مثل "أ ا" (أي آ) أو "وو" أو "يي" أو "إي" أو "أو" ..إلخ. وفي الصينيّة 21 شنغاً و38 يوناً، بينها 4 "يون" هي الأكثر شيوعاً واستعمالاً ويمكن للمتعلّم المبتدئ أن يلتقطها بسهولة خلال بضعة أيام فقط من التمرين على نطقها. وقد تكون الكلمة الواحدة مؤلّفة من مقطع واحد أو أكثر من مقطع.

المقطع ( ما ) المؤلَّف من (م) و (آ) هو المثال الأكثر سهولةً والمستعمَل تقليدياً لتعليم الفارق بين أربع مصوّتات. فالمصوتة ( أَ ) أو ( آ ) ـ كما يقول أستاذ الصينية بلاّسيم ـ تتعدّد بتعدّد نبرة الصوت (خافتة أو عالية، صادحة أو ناعمة) وتختلف باختلاف المدّة الزمنية التي يستغرقها لفظها (خطفاً أو إطالةً). وللدلالة على اختلاف التصويت الذي يؤدّي إلى معانٍ مختلفة نذكر أربعة أمثلة متشابهة التصويت إذ يُنطَق بها جميعاً نطقاً متشابهاً (ما ) أو (ma) وتنتهي جميعاً بالمصوّتة ( آ ) المعادلة للحرف المصوِّت بالفرنسية (A) الذي يسهل وضع علامات عليه (فوقه) تدلّ على مدى اختلاف نبرة التصويت وعلوّ النطق بها أو خفوته، أكثر من وضع هذه العلامات على الحرف العربي: فالصورة التالية (妈 ) التي تعني ( أُم ) تصويتها مطوَّلٌ ā، في حين أن الصورة (麻 ) التي تعني ( قنَّب ) تصويتها يكون بنبرة عالية á، وعلى الرغم من أن الصورة التالية ( 骂 ) تعني (زمجر ووبّخ) فإن لفظها مصوّتةً يكون بصوت خافت وهابط à، والصورة التي تعني حصان ( 马 ) تصويتها يبدأ عالياً ثم ينخفض فجأة ويهبط كثيراً ǎ. إن اختلاف نبرة التصويت يؤدّي إلى معانٍ مختلفة. والاعتياد على الفروق القائمة بين مختلف درجات النطق بها يتمّ اكتسابه عبر التمرين اليومي بتكراره وإعادته حتى إجادته واكتسابه وحفظ النطق به عن ظهر قلب.

لا تُطرَح مسألة صعوبة الكتابة بالصينية قبل أن نعرِف مقدار الفعل الذي أحدثته القوة الغربية في القرن التاسع عشر على اللغة الصينية. ففي العام 1905 أُلغِيَت الامتحانات باللغة الصينية الكلاسيكية في المدارس، فكان ذلك بمثابة ضربة أليمة للّغة الصينية التقليدية. ثم كان الانتقال إلى اللغة الصينية المحكية شبيهاً بالانتقال الذي حدث في أوروبا، بدءاً من العام 1920، من اللاتينية إلى اللهجات المحكية العامية في مختلف البلدان الأوروبية. لكن الصينيّين استطاعوا في مطلع القرن العشرين أن يحدّثوا لغتهم، على نحو ما ذكرنا أعلاه، وقد حذا اليابانيّون حذوهم، في ما بعد، متأثرين بالتجربة الصينية. الآخذة بالتوسع والانتشار على مدى انتشار البضائع الصينيّة التي يُنتَظَر- بحسب توقعات الغربيّين- أن تبلغ نصف منتجات العالم قاطبةً مع حلول منتصف القرن الجاري؛ فالثقافات- واللغات عمادها- يحملها الناس في شخصهم وفي ما يُنتحونه من بضاعة وسلوك.

لقد أدرك الغربيّون، وربما منذ ما قبل أن يكتب الفيلسوف الفرنسي روجيه كايّوا Roger Cailloit كتابه "نهر آلفي" (La fleuve d’Elphy) أهمية اللغة الصينية، وشرعوا في إدخالها برامج التعليم في مدارسهم؛ أما في البلدان العربية، فعلى الرغم من تجربة الهادي العلوي، وقد عاش متنقلاً بين الصين وسوريا ولبنان ولندن، ودعا إلى تعلّم اللغة والحضارة الصينيّتين، في كتابه "المستطرَف الصيني"، الذي شرح فيه الحضارة الصينيّة لأهل المشرق العربي، وأراد منهم أن يعرفوا من ثقافة الشرق ما يعادل معرفتهم بثقافة الغرب، وكلّه أمل في أن يستعيدوا اكتشاف أنفسهم لا من خلال تراثهم فقط، بل من خلال الثقافة الشرقية التي هي من نسيجهم نفسه أيضاًـ فقد بقيت تجربة الهادي العلوي فريدةً، ولم تلقَ صداها المطلوب في العالم العربي. وعلى الرغم من كثرة جمعيات الصداقة العربية- الصينية فيها، وبخاصة في لبنان، فإن هذه "الصداقة" لم تُفضِ بعد إلى المرجو منها وهو البدء في تعليم الصينية - ولم لا؟- على نطاق واسع.


نشرة أفق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..