الأربعاء، 28 مارس 2012

ظاهرة الجزر المتباعدة


حتى نتطور ونتقدم في الفكر فإن المنهجية العلمية تقتضي على د/ السويدان أن يقوم بالإجابة على ما أثير حول فكرته من إشكالات .وما أقامه المخالفون له من أدلة شرعية يرون فيها مخالفة صريحة لفكرته عن الحرية .
سلطان العميري - جامعة أم القرى
أريد أن أتحدث في هذه الورقة اللطيفة عن ظاهرة شائغة في سجالاتنا الفكرية , وهي ما يمكن أن نسميه بـ
( ظاهرة الجزر المتباعدة ) .
وأقصد بها : أن الحوار في قضايا الاختلاف لا يسير بطريقة تراكمية بحيث يدور حول حقيقة الفكرة وما أقيم لها من أدلة ما قدمت حولها من اعتراضات .
وإنما يصبح صاحب كل قول يكرر فكرته من غير التفات إلى ما أثير حولها من اعتراضات وما قدمه المخالفون له من أدلة تنقض قوله .
وكأن كل واحد من المتحاورين يعيش في جزيرة وحده , أو أنه يتمنى ألا يعيش معه أحد إلا موافقا له على أقواله !!
ويدخل في ظاهرة الجزر المتباعدة من يرد على بعض الاعتراضات والأدلة ويترك البعض الآخر , ثم يقول : إني قد أجبت كل ما يرد على قولي .
إن الدفاع عن القول لا يكون بمجرد الرد على بعض الأدلة وتركها بعضها , وإنما لابد فيه من الجواب عن كل ما يقدح في صحته ويقف في طريق انتشاره .

وهذه المنهجية ( الجزر المتباعدة ) خاطئة ومضرة على الفكر , وخاصة في القضايا الشرعية , فإن الاقتناع بالأفكار لا يتأسس إلا بأمرين : وهما : 1- إقامة الأدلة الصحيحة , 2- والإجابة عن الأدلة والاعتراضات المخالفة للفكرة .

والأفكار الصحيحة لها واجبات وحقوق على أصحابها , ويجب أن يقدرها ويحترمها ويعلي من شأنها , وهذا الحال يتطلب من صاحب الفكرة أن يقوم بطرحها في أجمل صورة , وأبهى حلة .
ومن أجمل الحلل التي يلبسها الفكرة هي أن يحوطها بالأدلة المؤيدة لها , وخاصة الأدلة الشرعية فهي زينة وجمال وتعطي الأفكار هيبة في النفوس .
ومن حقوق الأفكار الصحيحة على أصحابها أن يقوم بالدفاع عنها , ولا يكون ذلك إلا بالجواب عن الاعتراضات والأدلة التي يقدمها المخالفون لها .
ومن قدم الفكرة الصحيحة ولم يقدمها في حالتها الجميلة , ولم يشرح للناس أدلتها , أو لم يجب عما ينقضها , فهو في الحقيقة لم يحترم فكرته , بل يدخل في عداد الخائنين لها .
وفضلا عن ذلك فإنا الفكر لا يتطور ولا ينمو بمجرد طرح الأفكار والنظريات , وإنما لابد فيه من الحوار والنقاش حول الأدلة والحجج والبراهين .
فعلم الفقه والعقيدة وأصول الفقه وعلم النحو , كل هذه العلوم كانت أقوى الأسباب في تطورها ووصولها أعلى درجات النمو هو أن المختلفين فيها كان يدور حوارهم حول الأدلة والبراهين , ولم يكن كل واحد منهم يطرح قوله من غير التفات إلى أدلة المعارضين له .
وكذلك الحال في الفكر الغربي , فإن المناهج الفلسفية المختلفة فيه لم تتطور بمجرد طرح الأفكار , وإنما بالتحاور والنقاش حول الأدلة والبراهين .
فإن من المعلوم أن الفكرة لا قيمة لها بمجردها , وإنما القيمة الحقيقة المؤثرة في صحتها هي في الأدلة , فهي التي تعطيها الوزن الثقيل !!
وإن لم يكن حوارنا في القضايا الاختلافية قائم على إقامة الأدلة الصحيحة على الفكرة والإجابة عما يعارضها =
فإنا لن نقدم للفكر شيئا ولن نتطور , وسيكون حوارنا عبارة عن سعي حثيث في دوائر مفرغة لا يقدم نفعا للفكر والمعرفة.
ثم إن الشباب المتطلع للمعرفة والمتابع للسجالات الفكرية في تويتر وفي غيره لم يعد بسطا في وعيه ولديه إدراك كبير لمنهجيات الإقناع بالأفكار .
فتأسيس الاقتناع بالفكرة عنده لا يكون بمجرد طرحها ولا بمجرد اسم الشخص الذي طرحها ولا بالشعارات التي تحملها .
وإنما ينظر إلى المؤثرات الحقيقية في صحة الفكرة ووجاهتها , وهي الأدلة المقامة حولها , وطريقة الجواب عن الأدلة المخالفة .
والأمثلة على ظاهرة (الجزر المتباعدة )كثيرة جدا , ولكني سأقتصر على مثال واحد فقط , وهو :
قبل سنة تقريبا تحدث د/ طارق السويدان عن الحرية , وقرر أفكارا عديدة حولها وساق أدلة يرى فيها تأييدا لما طرح .
وحينها قام الأستاذ فهد العجلان بالرد على ما طرحه السويدان , وبين ما في فكرته من مضامين مخالفة للشريعة .
وقدم أدلة عديدة يرى فيها معارضة ظاهرة لما قرره السويدان ورصد إشكالات عديدة حول فكرته عن الحرية .
كنا نحن المتابعين حينها ننتظر جوابا من د/ السويدان أو أحد من المقتنعين بفكرته حتى نحدد مواقفنا من الفكرة , ولكن ذلك لم يحدث .
وقبل أيام يعود د/ السويدان ويطرح نفس الأفكار عن الحرية , وأحيانا بنفس الألفاظ , وكأنه لم يقدم أحد حول فكرته أي اعتراض !!
ولا أريد هنا أن أحدد من المصيب ومن المخطيء , ولكن ألا ترون معي أنا بمثل هذه الطريقة نقع في الدوان في الدوائر الفارغة .
ولن نتقدم نحو النضج المعرفي , ولن نقدم لأجيالنا حوارات تراكمية مفيدة ,ونصبح نعيش في جزر فكرية متباعدة عن بعضها !!
حتى نتطور ونتقدم في الفكر فإن المنهجية العلمية تقتضي على د/ السويدان أن يقوم بالإجابة على ما أثير حول فكرته من إشكالات .
وما أقامه المخالفون له من أدلة شرعية يرون فيها مخالفة صريحة لفكرته عن الحرية .
في تصوري أن الساحة لم تكن في حاجة إلى أن يكرر د/ السويدان فكرته من جديد , وإنما في حاجة إلى أن يقدم أجوبة عما أثيرها حولها من اعتراضات .
ما ذكرته هنا مجرد مثال , وهناك أمثلة أخرى كثيرة تمر بنا بين الفينة والأخرى في كثير من السجالات الفكرية بيننا .
ربما يعترض معترض على فكرة ( الجزر المتباعدة ) ويقول : لماذا أشغل نفسي بالاعتراضات؟! , والواجب علي أن أطرح فكرتي =
ومن غير التفات إلى المخالفين لي فإنهم سيقطعون علي الطريق ويشغلوني عن بناء فكرتي ومشروعي .
وهذا الاعتراض أجبني عن المنهجية العلمية الصلبة , التي لا تقبل للخلل والنقص أن يتخلل نتائجها , ويمكن أن نجيب عليه بالأمور التالية :
أ- الفكر البشري لا يقوم إلا بالتقرير والرد , ولا توجد فكرة مهما كانت أهميتها إلا ويوجد لها مخالف , حتى قضية وجود الله , وبالتالي لا بد لصاحب الفكرة أن يصدق مع فكرته فيقدم الجواب عن كل ما يعارضها وإلا فإنه سيكون خائنا لها ومقصرا في خدمتها.
ب- لنا في القرآن أسوة حسنة , القرآن لم يقرر دعوته إلى عبودية الله فقط , وإنما مع ذلك أجاب عن كل ما يورد حولها من اعتراضات .
ج- نحن لا نقول اترك بناء الفكرة وانشغل بمواقف الآخرين , فهذا لا شك خطأ كبير , وإنما نقول لا بد من الجمع بين الأمرين , كما فعل القرآن .



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..