الثلاثاء، 20 مارس 2012

مناقشة مفهوم الحرية عند محمد حامد الأحمري

( 1)

كنت في جمع من المعارف، ممن يستغرقهم الحديث في الشأن السياسي العام، وكان حديثهم عن المثقف الإسلامي محمد الأحمري، عرجوا فيه على لقاء ذكروا أنه
قديم أجرته معه قناة «الجزيرة»، وتُليت فيه آيات الإطراء والثناء على أفكار سياسية وتحليلات تاريخية تتعلق بالحرية كان أبداها في ذلك اللقاء، ظنوا أنها جديدة وفريدة.

وكان أكثر ما لفت انتباهي افتتانهم بفكرة - حسب ما رووا - تقول إن صلة الحاكم بالمواطن في العالم العربي هي صلة «مساكنة» لا صلة «مواطنة» وعندما رووها، وصاروا يقلبون النظر فيها، انفسحت صدورهم وغلبت عليهم النشوة، يكاد الواحد منهم يميد من الطرب.

ولما كان اللقاء مع الدكتور الأحمري في قناة «الجزيرة» قد فاتتني مشاهدته، كنت أصغي لحديثهم الجذل عنه باهتمام، وحين أتوا على حديثه من كل جوانبه، علقت بالقول:

إن الأفكار والتحليلات التي نقلتموها عنه ليس فيها جدة ولا فرادة. فهي من أفكار الإسلاميين العادية والمكرورة، وتمثل الجانب الملتوي والمخاتل في خطابهم عن الحرية، وأشك أن الدكتور محمد قال بتلك الفكرة على النحو الذي تروونه، حاشاه أن يستعمل كلمة «المساكنة» في وصف علاقة الحاكم بالمواطن، ربما كان نقلكم غير دقيق، وربما أن الكلمة جاءت على لسانه من سبق القول.

فردوا: أنه قال بتلك الفكرة وأن الكلمة لم تكن من سبق القول، إذ كررها وهو يشرح فكرته، وسألوا مستغربين: لماذا تستبعد أن يقول بتلك الفكرة؟! ولماذا تنزهه عنها بـ«حاشاه»؟!

قلت: الدكتور محمد قبل أن يكون طالبا في قسم التاريخ في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ومكملا للدراسة في هذا القسم في الولايات المتحدة الأميركية ثم تحوله إلى إتمام دراسته العليا في قسم العلوم السياسية في هذا البلد وفي بريطانيا مُعرق في نسبه بالإسلاميين كما يفهم مما رواه الشيخ عائض القرني في ذكرياته عنه التي تبين لنا فيها أنه من أترابه في الصحوة. والإسلاميون إجمالا يتوخون الحشمة في ألفاظهم وعباراتهم ولا يخفى عليه أن كلمة المساكنة في المصطلح الإسلامي، تتضمن فيما تتضمن تورية جنسية.. فالمساكنة علاقة كاملة لا تكون إلا بين زوجين أو رجل وامرأة. ولا يليق أن تطلق في وصف علاقة الحاكم بالمحكوم.
قالوا: لقد أبعدت النجعة فهو يقصد بالمساكنة علاقة الجيرة، وليس صلة الزيجة.

قدر لي بعد انفضاض الجمع وذهاب كل واحد منا إلى بيته أن أشاهد المقابلة التي كانت مشاهدتها قد فاتتني.

شاهدتها على «يوتيوب» وكانت ضمن برنامج «في العمق» الذي يقدمه علي الظفيري. وكانت الحلقة التي تم استضافة محمد الأحمري فيها، هي عن الحرية في الفكر الإسلامي.

وبعد أن شاهدت الحلقة تيقنت من صدق تأكيد ذلك الجمع أنه استخدم كلمة المساكنة وأنه كان يعني بها الجيرة، وأنها لم تكن زلة أو هفوة لسان.

المحبط أن التوفيق لم يجانبه في استعمال تلك الكلمة في الفكرة السياسية التي أراد أن يعبر عنها وحسب، بل جانبه في أكثر أفكاره وتحليلاته.

مساكنة لا مواطنة

لنتعرف على فكرة المساكنة التي جعلها الأحمري نقيضا لفكرة المواطنة، بنقل ما قاله في ذلك اللقاء، بحذافيره.

يقول الأحمري: «حقيقة نحن نستخدم كلمة المواطنة ولا نعرف معناها، نحن في حالة المجتمع العربي ليس عندنا مواطنة بأي نوع، لأن المواطنة تعني المشاركة في مسؤولية الوطن في حقوقه وفي واجباته. نحن في الوطن العربي في المناطق المستبدة في حالة اسمها مساكنة يسمح الحاكم بأن نسكن في جواره. يسمح لنا بأن نعمل ولكنه يمكن أن يصادر كل حق في أي لحظة، وبالتالي هذه ليست مواطنة. ولا يجوز أن نلقي على المساكنة هذه - أي جواز أن تسكن هذا البلد أو ذاك - تسمية المواطنة، لأنه من الممكن أن يسجنك الحاكم ويأخذ مالك ويعاقبك في أي لحظة، هذه مساكنة وليست مواطنة، المواطنة تعني أن لك حقوقا وعليك واجبات، وللحاكم نفس الأمر، وهذا أمر يتم بالتبادل والمشاركة وهذا حق غائب في المجتمع العربي، وهذا يشمل الجميع».

وأقول تعليقا على كلامه:
نشأت في الغرب مع منتصف القرن الماضي ظاهرة اجتماعية، أصبحت في ستيناته ملموسة، لعوامل كثيرة، هي التعايش على طريقة الأزواج من دون عقد ديني أو مدني. وهذا التعايش لا يترتب عليه عند الانفصال أو وفاة أحد الطرفين تبعات قانونية، وكانت الأدبيات الإسلامية تطلق على تلك الظاهرة: المخادنة (المخادنة إحدى صيغ النكاح عند العرب قبل الإسلام، والخدين هو الصاحب أو الرفيق)، وحينا تطلق عليها اتخاذ الخليل والخليلات.

وفي سنوات متأخرة، تحديدا من بداية المنتصف الأخير من عقد التسعينات الميلادية أطلق اللبنانيون على الكلمة Cohahabitation (سكن مع، وهي من أصل لاتيني) التي تعبر عن تلك الظاهرة باللغتين الفرنسية والإنجليزية، مع بداية نشوئها في بلدهم على نطاق ضيق – وما زال الأمر كذلك – تعبيرا قرآنيا، هو المساكنة. المفارقة الطريفة هنا، أن اللبنانيين بمسيحييهم وعلمانييهم كانوا أدق في استعمال المصطلح الإسلامي من إسلامي، أصيل المنبت في إسلاميته، كالدكتور محمد الأحمري!

إن المساكنة - حسب المصطلح الإسلامي - التي أنزلها أو سحبها إسلامينا المثقف على صيغة العلاقة القائمة ما بين الحاكم والمحكوم في العالم العربي، لا تمنحه المعنى السلطوي التخويفي الإرهابي الذي أراده. فمن معانيها القرآنية: الاستقرار والهدوء والطمأنينة والصلة الروحية والجسدية التي ينشأ عنها المودة والرحمة واستمرار النسل.

ولا بد للمتأمل في كلامه - بمعزل عن الفهم القرآني لكلمة المساكنة وبالتركيز على معنييها اللغوي والاجتماعي العام - أن يقع في حيص بيص.. إذ لن يفهم كيف تأتى للحاكم أن يسجنك ويأخذ مالك ويعاقبك في أي لحظة، مع أن الصلة به صلة مساكنة والعلاقة به علاقة جوار!

أشير إلى هذا الأمر، لأبين قدر الاضطراب في الكلمة التي رأى فيها نقيضا لفكرة المواطنة.

لست أشك في أن الأحمري يعلم بأن ما يقابل كلمة المواطنة هو كلمة الرعية، وأن كلمة المواطنين حلت محل الرعايا، التعبير المستخدم في ما قبل العصور الحديثة، وأن المواطنة هي النقيض التاريخي للرعية لكنه تحاشى استخدام التعبير القديم لما يحمله من ظلال دينية، ونزع إلى اجتهاد في غير موضعه، بل هو خاطئ وسقيم.
خاطئ وسقيم، لأن المواطنة لا تتناقض والمساكنة، فالوطن في «صحاح الجوهري»: المنزل تقيم به. وفي «القاموس المحيط» للفيروزآبادي: منزل الإقامة. وفي «لسان العرب»: المنزل تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله، وقد خفّفه رؤبة في قوله: أوطنت وطنا لم يكن من وطني لوم لم تكن عاملها لم أسكن بها، ولم أرجن بها في الرجن. وفي «المنجد في اللغة والأعلام»، وهو معجم ألف في العقد الأول من القرن الماضي: منزل إقامة الإنسان. ولد فيه أو لم يولد. وإضافة الجملة الأخيرة: «ولد فيه أو لم يولد» لم ترد في معاجم اللغة العربية القديمة. وهذه الإضافة مستخلصة من رجز رؤبة الذي قال فيه ابن منظور: «وقد خفّفه»، ومن قول ابن بري الذي أورده ابن منظور في أن الذي في شعر رؤبة:

كيما ترى أهل العراق أنني
أوطنت أرضا لم تكن من وطني

ومستخلص من بعض معاني اشتقاقات وطن في المعاجم اللغوية العربية، ومن أن هذه المعاجم لا تنص في معنى وطن على مكان الولادة، فهي كلها تذكر منزل ومكان ومقر الإقامة.

هذه الإضافة المستخلصة جاءت بتأثير من الثقافة الغربية في عصر النهضة العربي الذي ألجئ إلى وضع اشتقاقات لغوية عربية جديدة تقابل كلمات في اللغة الفرنسية والإنجليزية، كالوطنية والجنسية وغيرها من كلمات أخرى.

المواطنة: هذا الاشتقاق مثله مثل اشتقاق الوطنية، لا يرد في المعاجم اللغوية العربية القديمة، فهو من المولد الجديد. وفي «المنجد» المواطن هو: الذي نشأ معك في وطن واحد أو الذي يقيم معك فيه.

وهذا التعريف - كما نلاحظ - للمواطنة وللوطن لا يحمل معنى الدلالة الاصطلاحية للمواطنة وللوطن التي توصل إليها الغرب قبل قرون من تأليف هذا المعجم، مع أن أصحاب هذا المعجم مطلعون على الثقافة الغربية، لا سيما الثقافة الفرنسية.

أما المساكنة، وهي اشتقاق جديد لم يرد في معاجم اللغة العربية القديمة فمصدرها سَاكَنَ (بفتح السين والكاف والنون) وجذرها سكن. في «المنجد»: ساكنه في دار واحدة: سكنها وإياه. تساكنوا في الدار: سكنوها معا. سكن – سكنا وسكنى الدارين في الدار: أقام فيها.

وجاء في «لسان العرب»: سكن: السكون ضد الحركة. سكن الشيء يسكن سكونا: إذا ذهبت حركته. السكن: كل ما سكنت إليه واطمأننت به من أهل وغيره. وربما قالت العرب: السكن لما يسكن إليه، ومنه قوله تعالى: «وجعل الليل سكنا»، والسكن: المرأة لأنها يسكن إليها.

ومن مرادفات كلمة سكن: أقام، قطن، استقر، توطن، استوطن.

والسكان جمع لساكن، وهي اشتقاق عربي قديم، جذرها سكن تستخدم في التعبير العربي المعاصر، مرادفا لكلمة المواطنين.

مما تقدم يتبين أن كلمة الموطن لها ذات الدلالات اللغوية لكلمة المسكن، فالمواطنة لا تتناقض لغة مع كلمة المساكنة، وفي اللغات الأجنبية المواطنة لا تتناقض لا لغة ولا اصطلاحا مع كلمة المساكنة.

والحاكم الذي يمكن «أن يسجنك ويأخذ مالك ويعاقبك في أي لحظة» لا يجعل من البلد الذي يحكمه لا موطنا ولا مسكنا، بل هو ينسف معنيي «الوطن» و«المسكن». فالوطن هو المسكن. أليس «المسكن» هو، بحسب جمع ما بين ما قاله صاحب «اللسان» وصاحب «المصباح المنير»: «ما سكنت إليه واطمأننت به من مال وأهل وغيره»؟ وكذلك هو الوطن.

أوهام لغوية واصطلاحية

لا بد أن نلتمس للأحمري العذر في اجتهاده الخاطئ والسقيم في وضع المساكنة نقيضا للمواطنة بأسباب، هي كالآتي:

- نسي أن Cohahabition هي التعايش أو المعاشرة، وبخاصة على طريقة الأزواج.

- جهل أن التساكن أو التعايش أو المساكنة بعد ذلك صارت اصطلاحا في الاجتماع السياسي الثقافي تطلق على مجتمعات متعددة دينيا أو مذهبيا أو قوميا تعيش في مكان واحد، ترفض الاندماج والانصهار، وترفض المواطنة بمعناها العلماني الكامل. ولبنان هو المثال البارز للمجتمعات المختلفة دينيا ومذهبيا المتساكنة والمتعايشة على مستوى التاريخ. ومثاله البارز - على مستوى الحاضر - في التساكن والتعايش الطائفي ورفض بناء الدولة والمجتمع على أساس علماني شامل.

- جهل أن المساكنة أو المعاشرة صارت منذ عام 1986م اصطلاحا سياسيا وقد سكَّ هذا الاصطلاح في هذا العام عندما اضطر فرانسوا ميتران لتعيين جاك شيراك رئيس الوزراء (1986 - 1988)، وهما من حزبين متعارضين؛ الأول اشتراكي والآخر يميني. وتمثل المساكنة عمليا أيضا مساكنة ميتران مع لادوارد بالادور (1993 - 1995) ومساكنة شيراك للاشتراكي ليونيل جوسبان. والمساكنة في السياسة تحصل في النظام شبه الرئاسي. وفي الأغلب أن المساكنة أو المعاشرة، كما في التواريخ المبينة مدتها قصيرة.

- جهل أن المساكنة كلمة مستخدمة في القانون المصري، فيما يتعلق بعقود الإيجار.

- جهل أن الفقهاء المعاصرين لديهم اصطلاح اسمه: مساكنة المعتدة ولهم كلام في تعريفه وحكمه!

الردة والذمية
يسترعي الانتباه، أن إجابة الدكتور الأحمري التي أوردناها بنصها، كانت إجابة عن سؤال غير مطروح عليه أصلا من قبل محاوره علي الظفيري، وأنها جاءت للتهرب من الإجابة عن السؤال الأصلي، كما أنها جاءت ضمن سلسلة من الإجابات التهربية التي قدر أنها تحقق له الالتفاف على أسئلة موجهة له بصدد قضية هو يراها مركزية، ألا وهي قضية الحرية في الفكر الإسلامي.

التهرب بدأ منذ أن سأله الظفيري عن حرية الردة في البلاد الإسلامية وحرية غير المسلمين فيها.

السؤال كان من الواضح أن المقصود به الوضع المعاصر، ومن الجملة الأخيرة فيه كان من الواضح أيضا أنه يطلب رأيه هو بصفته مثقفا إسلاميا متعلقا بقضية الحرية، يقدمها على ما سواها من قضايا في الفكر الإسلامي.

الأحمري في إجابته عن هذا السؤال تجاهل الجزء الأول فيه، ويمم شطر الجزء الثاني، ليقول معلومة ابتدائية يعرفها حق المعرفة المسلم وغير المسلم، مفادها أن «قضية حرية الدين في المجتمع الإسلامي مضمونة..».

السؤال لم يكن عن ما هو موقف الإسلام حينما جاء أو الرسول حينما بعث من واقع التعددية الدينية، ولا هو عن حدود التسامح الديني مع المرأة اليهودية أو المسيحية المتزوجة من مسلم في الفقه الإسلامي، ومع هذا فإن إجابته انصرفت إلى ملامسة شيء سطحي من هوامش هذه التخوم التاريخية والفقهية.

الظفيري بعد استطراد يسير معه، تنبه إلى أنه لم يجب عن سؤاله، وأنه خاض في شؤون أخرى، فطلب رأيه في حد الردة.

استمر الحال بينهما طويلا، ما بين كر من السائل وفرّ من المجيب ولم يسفر الكر المتواصل عن الظفر بإجابة عن موقف المجيب من حد الردة ومن إجابة عن موقع غير المسلمين في الدولة التي تستند في بنائها إلى الديمقراطية، التي يلح المجيب على المطالبة بها، إلى أن أتت تلك الإفادة التي ناقشناها أعلاه، من حيث صحة انطباقها في وصف علاقة الحاكم بالمحكوم، فتوقف الكر وهدأ الفر، وانعطف النقاش إلى مجرى واسع، ليس فيه تحرّج أو مراوغة.

حصيلة الكر من الإجابات في القضيتين المشار إليهما، هي: أن الردة، ردة الفرد وليس الجماعة فيها بحث، وأنها عند الفقهاء مجال نقاش، منهم من يرى الحد ومنهم من لا يراه، وأن النقاش فيها موجود منذ القديم.

إلى أي الرأيين يميل، أخبرنا أنه ليس مفتيا.

أعطى مثلا لقضية مبدأ حرية المجتمع في قضية الردة وفي قضية مخالفة الحاكم بذكر أن «أحد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير البيعة لأبي بكر وبقي إنسانا مكفولا له الحرية والكرامة والاعتراض والذهاب والمجيء».

الصحابي المشار إليه هنا، سعد بن عبادة، وقد تعمد الخلط بين قضيتين مختلفتين تماما، هما: حرية الردة وحرية رفض البيعة للخليفة، فضرب مثالا للثانية، وأغفل إعطاء مثال للأولى.

أما قضية «المواطنة الذمية أو مواطنة الدرجة الثانية لغير المسلمين»، بحسب ما ورد في سؤال الظفيري، فاكتفى فيها بالقول إنها «تحتاج إلى نقاش».

هذه الإجابات المتحرجة المنقوصة المراوغة لا تتسق وحديثه في مبتدأ اللقاء غير المتردد وغير الهياب عن أهمية الحرية وضرورتها لنا في العالم العربي. ولا تتسق مع ما نعاه على ذلك الأستاذ الجامعي الذي كان يرغب في قراءة فاكس مرسل من معارضة عربية، لكنه خائف أن تبقى بصماته على الورق، فكان يأخذ منديلا ويرفع الورقة فاصلا بينه وبين الورقة الأخرى. هذا الأستاذ الجامعي المسكون بالخوف إلى هذه الدرجة نعى عليه هذا الأمر ووجه إليه وإلينا أسئلة تقريعية، فقال: أي أمانة علمية أي موقف فكري أي موقف ثقافي يمكن أن يؤديه؟ أي مجتمع يعيش هذه الحالة؟!

ولا تتسق مع ما حدده لدور الحرية بالنسبة للإنسان العربي، وهي: أن يستطيع أن يتحدث وينتقد أو يقول ملاحظاته أو يصلح أي شيء.

كان من المفترض به أن يقدم إجابة واضحة عن هاتين القضيتين اللتين طرحهما عليه سائله ولا يكتفي بالقول بالنسبة للأولى إنها «مجال نقاش»، والأخرى بأنها «تحتاج إلى نقاش»؟

مخاتلة وحيدة

كان من المفترض به أن يفعل ذلك لأنه داعية سياسي إلى دولة إسلامية جديدة مفعمة بالحرية ومشبعة بالديمقراطية.

لن أتشدد مثله وأسأل بحدة: أي أمانة علمية أي موقف فكري أي موقف ثقافي يمكن أن يؤديه؟ لكن سأسأله بهدوء:

لماذا اقتصرت جمل من مثل: «فيها بحث» و«مجال نقاش» و«تحتاج إلى نقاش» و«لست مفتيا» و«أنا لا أفتي للناس، وبالتالي لا أفتي لنفسي» التي فيها قدر من التحرز العلمي والورع الديني على تلك القضيتين، ولِمَ لم يشمل بها قضايا أخرى مع أنها هي محل بحث ومجال نقاش وليس مجالها مجال فتيا؟

إن إجاباته المخاتلة على هاتين القضيتين تبين أن أولوية الحرية عند الفكر الإسلامي لم تصمد أمام هاتين القضيتين. فما دام أن القضية الأولى«فيها بحث وأنها عند الفقهاء مجال نقاش» لماذا لم يقل إنه لا يرى قتل المرتد؟ وله فسحة في ذلك، فلقد قال بهذا مشايخ وفقهاء ومثقفون إسلاميون منذ ما يزيد على القرن. وفي القضية الثانية: وضع غير المسلم في الدولة الإسلامية، لماذا لم يفصح أن الذمية كان لها موجباتها الموضوعية في فترة إسلامية خلت، وأنه لا يرى استئنافها مجددا، وأن غير المسلم هو مواطن، مواطنة كاملة؟ وله فسحة أيضا في ذلك بأن ثمة إسلاميين ذهبوا إلى هذا الرأي. لا شك أن هؤلاء - وبعضهم أسماء عتيقة - الذين تتوفر فيهم فسحة ألصق بمفهوم الحرية من صاحبنا الذي آمن بهذا المفهوم - كما يقول أوائلنا - بآخره. كما أنه دون ما هو حاصل في كثير من الدول العربية الإسلامية بكثرة، فهي لا تقتل المرتد، ولا المغير لدينه الإسلامي، ومن فيها من غير المسلمين هم مواطنون مواطنة كاملة. وهو دون - بمقدار كبير - ما تضمنه «خطي شريف كلخانة 1839» و«خطي شريف همايون 1856» وهما أشهر مراسيم الإصلاح الدستوري في الدولة العثمانية. لذا فإني أجزم بأن غير المسلمين في هذه الدول يرهبون دولة الأحمري الإسلامية، الذي حينما سأله الظفيري عن موقعهم فيها من حيث المساواة مع المسلمين: أجاب بعد تلكؤ: إنها تحتاج إلى نقاش!

من الواضح أن للحرية عنده مجالا محددا، وأن إلحاحه عليها في السنوات المتأخرة جاء لغرض معين وهو ما سنتطرق إليه في موضع آخر.

* غدا: الأحمري وطاعة ولي الأمر وحق الملك الإلهي المقدس

http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&issueno=12162&article=668321

2

الأحمري وطاعة ولي الأمر وحق الملك الإلهي المقدس(2)علي العميم



نواصل الحديث هنا حول بقية الملاحظات فيما يخص مفاهيم الدكتور محمد الأحمري حول الحرية وقضايا المواطنة.

إن أعجب ما قاله في لقائه مع علي الظفيري في برنامج «في العمق» والمشار إليه في الحلقة السابقة، وبدافع تسييسي هو أن طاعة ولي الأمر في الفكر السني وبخاصة السلفي، تأثرت برافد مسيحي بريطاني. لم يحدده تماما وإنما اكتفى بالإشارة إلى نشوب صراع بين الملك في بريطانيا والبرلمان، حينما قويت شوكة البرلمان. لأن الملك الذي لم يسمِّه، كان يريد الاستبداد بالسلطة. فتداعت مجموعة من المنافقين - كما سماهم - في الكنيسة إلى القول: طاعة ولي الأمر نهائية وهي من طاعة الله، وطاعته يستمدها من الله مباشرة.

قوله العجيب هذا، هو في رأيه الرافد الثاني، أما الرافد الأول، هو أن الفكر السني، وبخاصة السلفي، تأثر بـ«قضية المواجهة مع فكرة الإمامية حيث نقلوا إلى المجتمع السني والسلفي أفكار الإمامية في تقديس الحاكم». واعتبر هذا التأثر «قضية غزو للمجتمع السلفي بأفكار الإمامية»، وكانت نتيجتها أن «سموها طاعة ولي الأمر وبالغوا فيها بطريقة لم يسبق في الثقافة الإسلامية ولا في الثقافة السنية أن وجدت».

كما اعتبر طاعة ولي الأمر إدخالا للوثنية في الإسلام باسم الشعارات الإسلامية، رغم أنها - كما قال - ليست إسلامية في الأصل. فهذه المسألة - مسألة طاعة ولي الأمر - عنده «إما أن تكون وافدة من المسيحية أو وافدة من طوائف منحرفة».

علي أن أشير إلى أن أقواله هذه ساقها ضمن جمل احتمالية مترددة فهو فيما يتعلق بالرافد المسيحي البريطاني بدأها بجملة قال فيها: هناك فكرة (يقصد بها طاعة ولي الأمر)، لعلها فعلا قادمة من المجتمع في الغرب. وفي جملة ثانية تساءل: هل الطائفة (يقصد بها السلفيين ومن ضمنهم الحنابلة) التي بالغت في طاعة الحاكم أخذت أفكارها من الإسلام (يقصد به الإمامية أو الشيعة الاثني عشرية وليس القرآن) أم أخذتها من الطائفة المسيحية التي واجهت البرلمان في بريطانيا؟ وفي جملة ثالثة تساءل: هل المجموعة (يقصد بها السلفيين) التي بالغت في تعبيد الناس للحكام أخذت من المسيحية (يقصد بها المسيحية عامة) هذا المفهوم أم أخذته من المسيحيين في بريطانيا الذين واجهوا البرلمان أم أنها فعلا بالغت وأخذت من الإمامية المزيد؟ وفي جملة رابعة «توقع» أن طاعة ولي الأمر إما أن تكون وافدة من المسيحية أو من طوائف منحرفة (يقصد بالطوائف المنحرفة الشيعة الاثني عشرية).

أما فيما يتعلق بالرافد الأول، الرافد الشيعي، فلم يسقه ضمن جملة احتمالية وإنما ساقه بجملة قطعية. ولاحقا عند ذكره للرافد المسيحي، تردد - كما يتضح من السطور السابقة - هل هذا الرافد يسبق التأثير المسيحي (المسيحي العام) أم يتلوه؟

وعلي أن أشير أيضا إلى أن الذين - حسب زعمه - تأثروا في مسألة طاعة ولي الأمر برافد مسيحي بريطاني أو مسيحي عام، وبرافد شيعي إمامي يقصد بهم السلفيين والحنابلة وليس الفكر السني عامة. وهذا الأمر تكشفه ثلاث عبارات قالها. ولحسابات بعينها لجأ إلى التعميم وشيء من التخصيص. ومع إدراكي لمقصوده الحقيقي فإني سأتعامل مع ما قاله وفق الصياغة المراوغة التي لجأ هو إليها.

الأقوال التي ساقها جزافا تستند عنده إلى أمر واحد، لا يصح القياس عليه، هو: أن أصحاب الرسول (صلى الله عليه وسلم) كانوا يناقشونه ويردون على قوله...
لنتوقف عند أقواله

* يفهم مما قاله أن الزمن الذي تأثر فيه الفكر السني، وبخاصة السلفي، في مسألة طاعة ولي الأمر بالرافد المسيحي البريطاني هو الزمن الذي شهد صعود نظرية الحق الإلهي المقدس للملوك في أوروبا في القرنين السادس عشر والسابع عشر.

ومن المقطوع به أن طاعة ولي الأمر مفهوم إسلامي أصيل وليس ناشئا لسبب داخلي أو خارجي في التاريخ الإسلامي. إذ نجد أصله في القرآن وما اختلف فيه المسلمون هو في حدود طاعة ولي الأمر. والمسلمون عندهم ثلاث نظريات سياسية كبرى، وهي: نظرية الخوارج والنظرية الشيعية والنظرية السنية. تختلف كل واحدة منها عن الأخرى.

وطاعة ولي الأمر مفهوم خاص بالإسلام. ولا نجد ما يماثله في الفكر المسيحي وفي تاريخه اللاهوتي والسياسي حتى يصح الافتراض أن الفكر السني، وبخاصة السلفي تأثر به.

وما يختلف الإسلام فيه عن المسيحية على نحو دقيق، من دون خوض في التفاصيل، أن الرئاسة الدينية والرئاسة السياسية كانت بيد الخليفة، ذلك لأن الرسول جمع بينهما. بينما في المسيحية هناك بنيتان مؤسسيتان متمايزتان، هما: الكنيسة والدولة، تكون السلطة العليا والشاملة للأولى.

ونظرية الحق الإلهي للملك هي الفصل الأخير من الشد والجذب والتنازع والصراع ما بين الكنيسة والدولة. وكان لها مسببات لاهوتية وتاريخية مختلفة. وهي من الناحية الدينية والسياسية تمرد وخروج على نظرية السيفين (السيف الروحي والسيف الزمني) التي صاغها برنارد كليرفو في القرن الثاني عشر والتي هي الأخرى فصل من الصراع الطويل ما بين الكهنوت والإمبراطورية منذ أن حضرت المسيحية في السلطة أو تحولت إلى سلطة.

إن الأمر ليس كما صوَّره الأحمري باختزال مشوه مشين. فلقد صوره بأن نزاعا نشب في جلسة برلمانية بين ملك يريد الاستبداد بالسلطة وبرلمان قوي يريد الحد من سلطته، فهب منافقون من الكنيسة لنصرة حق الملك المطلق في السلطة، فقالوا: إن طاعة الملك من طاعة الله، وإنه يستمد سلطته من الله مباشرة..!

يتفق المؤرخون أن نظرية الحق الإلهي المقدس للملوك في مبتدئها وفي الزمن الذي سادت فيه كانت خطوة تقدمية في التاريخ الأوروبي. فهي ألغت الازدواج الصريح بين سلطة الكنيسة وسلطة الدولة، فمنحت الملك أن يحكم بمشيئة الله مباشرة بعد أن كانت هذه المشيئة لا بد أن تمر بواسطة البابا، وهو ما يجعل سلطته هي الأعلى وسلطة الملك أو الإمبراطور هي الأدنى.

أن يكون للملك أو الملوك حق إلهي مثل البابوات أعطى شرعية لانفصالهم عن البابوات الذين كانوا باسم الحق الإلهي - الذي هو حكر عليهم وحدهم - يتدخلون في شؤون الممالك أو الدول السياسية. هذا الانفصال نجم عنه دولة مستقلة سياسيا ودينيا، بكنائسها الوطنية عن حكم البابا. وحصر السلطة ومركزتها في شخوصهم بعد أن كانت تشاركهم فيها الارستقراطيات الإقطاعية التي كانت لها سلطات مطلقة في إقطاعياتها بتفويض إلهي من البابوات. وهذا أدى إلى وحدة في الدولة وأضعف سلطات الأرستقراطيات الإقطاعية.

إن الحق الإلهي للملك كان الخطوة الأولى في الطريق إلى تحديث الدولة وبناء الأمة في أوروبا. فهذا الحق واتجاه الشيع البروتستانتية إلى بناء كنائسها الخاصة كان المرحلة الجنينية لنمو الشعور بالقومية (أو الوطنية) والانتماء للدولة. ومهد لما أصبح يصطلح على تسميته بالمواطنة والدولة القومية. فالبابوية أو الكاثوليكية بطبيعتها كانت عالمية وكانت مناوئة للوطنية أو للقومية، ولا تعترف بالانتماء إلى الأرض وإلى جماعة قومية لغوية ثقافية وإلى دولة ما. فالانتماء مقصور على الكنيسة الجامعة. أي الكنيسة الكاثوليكية والأخوية هي أخوية في الدين. أي أخوية في الكاثوليكية.

كما أن هذا الحق مع نشأة طبقة ثالثة (ثالثة لأنها لا تنتمي إلى طبقة الأرستقراطية الإقطاعية التي ينتمي إليها الملك ولا إلى طبقة الإكليروس) هي البرجوازية ونموها واتساع مقاعدها في البرلمان، ساعد على نحو ما إلى انزياح متدرج من الحق الإلهي، إلى مشاركة إرادة أخرى مع الإرادة الإلهية، وهي إرادة الشعب وموافقته على اختيار العناية الإلهية للملك. هذا الانزياح المتدرج أفضى إلى مرحلة جديدة وهي أن مصدر السلطة هو الشعب وأن أساسها بشري عقلاني وليس إلهيا غيبيا. هذه المرحلة - التي ساهم فيها مثقفون وفلاسفة وموسوعيون - انتهت إلى قطع مع النظام القديم الذي ساد في أوروبا قرونا مديدة.

وكان من بين الاختزال المشين هو وصف رجال دين من الكنيسة في إنجلترا الذين أيدوا حق الملك الإلهي بالسلطة بالنفاق، مع أنهم أيدوا حقه هذا عن قناعة واقتناع وإيمان وتدين. فإن كانوا من الشيع البروتستانتية في ذلك الزمن الذي نفهم من روايته للحادثة أنها حصلت فيه، فهم لا يرضون إلا بملك ينتمي إلى دينهم، بما يمثله هذا الدين من طائفة وكنيسة. وإن كان الملك كاثوليكيا فسينصره الكاثوليك عن اقتناع وتدين لا عن نفاق. فهم لا يرضون إلا بملك كاثوليكي ينتمي إلى كنيسة إنجلترا المنفصلة عن الكنيسة الأم في روما.

إن هذا الوصف غير متسق مع المرحلة التاريخية في الحادثة التي رواها. فرجال الدين ينتمون إلى طبقة الإكليروس. وطبقة الإكليروس من حيث القوة والنفوذ موازية لطبقة الأرستقراطية التي ينتمي إليها الملك. وهم يستمدون قوتهم ونفوذهم من الطبقة التي ينتمون إليها، وبالتالي فهم ليسوا بحاجة إلى نفاق الملك.
خيال وافتراض

* أتخيل عندما زجَّ الأحمري ذلك الوصف في الحادثة التي رواها، أن الظفيري ذكّره بأن مارتن لوثر كان من الداعين إلى إطاعة السلطة المدنية للملوك والأمراء، إطاعة مطلقة، وأتساءل: هل سيتورع عن زجه أيضا في زمرة المنافقين من رجال الدين؟!

قلت أتخيل ولم أقل أفترض. لأن هذا أمر ممتنع وقوعه! فالظفيري - لعلِّة لا نعلمها - اختار أن يكون مماشيا لا محاورا، رغم أن ضيفه كان يقدم إجابات عن قضايا لم يطرحها عليه، للالتفاف - كما قلت سابقا - على أسئلة وجهها إليه، والتهرب من الإجابة عنها.

إن للحق الإلهي المقدس للملوك - كما حاولنا أن نبين - سياقا لاهوتيا وتاريخيا خاصا بالمسيحية. وهذا السياق يختلف كلية عن السياق الديني والتاريخي لمفهوم الطاعة وعلاقة الحاكم بالمحكوم في الإسلام. فالتأثر الذي زعمه الأحمري لا يقوم على أي شاهد أو قرينة أو دليل حتى لو كان ضعيفا، وإنما هو قائم على: «لعلها - أي الفكرة - قادمة من المجتمع في الغرب»، وقائم على تخمين، فهو «يتوقع» أنها إما أن تكون وافدة من المسيحية، أو من طوائف منحرفة. ولقد ساق ادعاءه هذا من أجل أن يماثل طاعة ولي الأمر عند السلفيين بالحق الإلهي المقدس للملوك في أوروبا المسيحية، للحط من شأنها وتهوينها في معتقد السلفيين، ليسهل - من الناحية الدينية - التمرد عليها والخروج عنها. وللغرض السياسي والثوري نفسه ادعى أن طاعة ولي الأمر منقولة عن مفهوم الإمامة عند الشيعة.

من حق الأحمري أن يختار الطريق السياسي الثوري في فهم التاريخ والدين. ومن حقه أيضا أن يعيد النظر في مسألة سياسية دينية، كطاعة ولي الأمر جملة أو على نحو تفصيلي، حيث إن في هذه المسألة سعة، فالسنة أو السلفيون من ضمنهم يختلفون في حدودها لكن ليس من حقه - لغاية تخدم الطريق الذي اختاره - أن يترخّص ويجوِّز لنفسه التلفيق.

الشيعة وروح التقارب

* فلنتغاض برهة عن توجهه العميق والأصلي - وهو توجه إسلامي أصولي - ولنستحضر روح التقارب الإسلامي من الشيعة التي أعلنها في مقاله «خدعة التحليل العقدي» وفي مقال تلاه هو «من حصاد التحليل العقدي» اللذين كتبهما في أثناء حرب تموز وأكدها مقاله «رؤية في المعضلة الشيعية» الذي كتبه بعد مضي فترة من الزمن من كتابته للمقالين السابقين. ونستحضر أيضا الروح الليبرالية التي باح بها بعد فوز أوباما في انتخابات الرئاسة الأميركية، لنستحضر هاتين الروحين اللتين حلّتا به بعد مضي سنوات على عودته للسعودية من أميركا بعيد الحادي عشر من سبتمبر، لنستحضرهما، ونسأل:

هل تتوافق الروح الليبرالية وروح التقارب الإسلامي مع وصف الشيعة بالطائفة المنحرفة؟!

لنفترض أن السنة والسلفيين نقلوا فكرة الإمامة إلى نسيج منظومتهم العقدية بسبب المواجهة مع هذه الفكرة، فهل يتلاءم والروح الليبرالية وروح التقارب الإسلامي، وصف أمر كهذا بـ«الغزو»، غزو المجتمع السلفي، كما قال؟! كيف يكون «غزوا» والسنة والشيعة كانوا يعيشون في مجتمع إسلامي واحد، هو المجتمع العباسي، وفي مدينة واحدة، هي بغداد؟!

التحول إلى التقارب الإسلامي وإلى الليبرالية

* لنأخذ الآن بعين الاعتبار توجهه العميق الأصلي، التوجه الإسلامي المذهبي.

الدكتور محمد الأحمري قبل أن يتحول إلى خطاب التقارب وبعده إلى خطاب أوسع، خطاب الحرية، ينتمي إلى التيار السروري، والتيار السروري أشد أصولية من تيار الإخوان المسلمين، رغم أنه متمخض عنه.

وقد اقتضى منه هذا التحول إلى خطاب التقارب أن يتجه إلى نهج عند الإخوان المسلمين يقوم على تجاوز التمايزات المذهبية والبعد عن الملاحاة العقدية بين الشيعة والسنة، لرص صفوف المسلمين في كتلة سياسية واحدة، تحقيقا لدولة إسلامية موحدة.

كما اقتضى التحول إلى خطاب الحرية مع بقائه على رأس منبر فكري لهذا التيار، وأعني به مجلة «العصر»، أن يأخذ بشيء من فكرة برزت عند المثقفين المسلمين المصلحين بسبب تحدي الثقافة الغربية لثقافة الإسلام والإغضاء من شأنها.

هذه الفكرة هي أن الإسلام في أساسه الذي هو الإسلام الحقيقي، يتضمن كل ما في الحضارة الغربية من أفكار حديثة. ومن هذه الأفكار الحديثة: الحرية وحقوق الإنسان.

وأن يشغف بكتاب «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» لعبد الرحمن الكواكبي، فيصبح الاستبداد عنده أنظومة تفسيرية شاملة وحصرية يعلل بها كل أمر. ورغم تعلقه بمقولة الكواكبي حول الاستبداد، فإنه لم يذهب مع الكواكبي إلى الحد الذي وصل إليه في إصلاحيته وتجديده الإسلامي.

هذه الفكرة وذلك النهج كان في التيار السروري مدانا ومرفوضا بشدة.

ولأنه أخذ بشيء من فكرة الإسلاميين الإصلاحيين، رأى الأحمري أن الحرية أصل في الإسلام الحقيقي. والذي ألغى هذا الأصل ولم يسمح له بالاستمرار والتطور هو السياسي أو الحاكم في الإسلام، بدءا من معاوية بن أبي سفيان الذي قال عنه إنه صادر جوانب الحرية وقضايا الحكم، وأنهى الحوار السياسي وقضية الحرية السياسية.

والسياسي والحاكم عنده هو المسؤول عن إضعاف الاهتمام بقضية الحرية في الفقه الإسلامي، وجعل الفقهاء يتحركون في قضايا فرعية أخرى.

والسياسي أو الحاكم المستبد يفسد الدين أولا، ويفسد الناس ويفسد أخلاقهم ثانيا.

وفيما يتعلق بحرية الفكر، رأى علي الظفيري، أننا نحن (؟) في أحايين كثيرة نركز على السلطة السياسية ومنعها وقمعها للحريات، وذكر بجملة خجولة مبهمة مقطوعة، علماء الدين، يفهم منها أن لهم دورا فيما تعرض له بعض المثقفين المعاصرين من قمع، فسأله عن كيفية ضبط التعامل مع المفكرين المجتهدين وحرية التفكير؟

ومع أن الظفيري كان يسأله عن الوقت الحاضر وعن علماء الدين اليوم في البلدان العربية، فلقد شرد بإجابته إلى الماضي القديم، فذكر أن الحسن البصري كان من تلاميذه مشايخ المعتزلة، وأن أبا حنيفة كان تلميذا لجعفر الصادق. وعلّق القضية برقبة الحكومة التي تحتاج - كما قال - إلى عصبية معينة من مذهب معين، فتقمع الحرية.

وبمثل ما برأ علماء الدين بطريقة ملفوفة، برأ المجتمع، فالمجتمع المفتوح الحر - كما قال - لا توجد لديه مشكلة مع حرية الفكر. ونحن نعلم وفق تفسيره للأمور - أن الذي يجعل المجتمع ليس مفتوحا ولا حرَّا هو الحاكم أو الحكومة أو السلطة السياسية، إذ هي - وهذا ما يريد قوله - علة موقف المجتمع الديني (بمؤسساته وفعالياته وتياراته) المتزمت من حرية الفكر.

ومما لاحظته أنه يشتد على علماء الدين في حالة واحدة، هي موالاة السلطة وفي زمن بعينه، هو زمننا هذا. أي إنه - حسب المعيار الذي اتخذه وهو معيار متناقض - لا يشتد على علماء الدين الموالين للسلطة في العصور الإسلامية الوسيطة وفي الفترة الإسلامية المبكرة.

وفي ما عدا ذلك يدافع عن علماء الدين. فلقد دافع عنهم بطريقة ملفوفة - كما مر بنا - في موقفهم الغليظ من حرية الفكر، مع أن علي الظفيري كان يقول له نحن (ربما يقصد بنحن نفسه وضيفه الأحمري والتيار العريض الذي ينتمي إليه الأخير) نركز على السلطة السياسية ولمح من بعيد إلى شاهد من الشواهد، ورغم هذا الشاهد أعاد الأحمري التركيز مرة أخرى على السلطة. أي إن السلطة عنده عنزة ولو طارت!

والصحيح أنه لا يركز على السلطة، وإنما يرى أن السلطة الجاني الوحيد الذي لا شريك له في كل قضية عرض لها في ذلك اللقاء مع علي الظفيري.

ودافع عن العلماء عندما قاطعه الظفيري بأن مفردة الحرية تثير نوعا من الحساسية والتخوف لدى كثير من التيارات الإسلامية وعدَّ منها التيار السلفي فرأى أن المسؤول عن هذه الحساسية والخوف هو الغرب (مبارك للسلطة هذه المرة: إفراج!). لأنه - كما قال - «الغرب لما جاء احتلنا. وسمى احتلاله حرية. أعطونا الكلمة لكنها تعني الاستعباد. فخاف العلماء. السبب الآخر لخوفهم أن الغرب نشر المجون والخلاعة وسماه حرية وسمى التفلّت حرية».

وكان نسي أنه قبل مقاطعة الظفيري له مباشرة قال ضمن إجابة سابقة: «لما صب علينا الاحتلال الغربي والاستبداد المحلي (السلطة قبل الإفراج عنها!) خرجت علينا محاولات فقهية معاصرة وحركة من العلماء كبيرة تهتم بحرية الناس لدرجة أن علماء العصر الحديث عدو الحرية أحد مقاصد الشريعة الإسلامية». والعلماء، علماء الدين في مقام غير دفاعي، وإنما مقام تزكية وإشادة «في نهاية الدولة العثمانية، كانوا ضدها وكانوا يخالفونها، وكانت عندهم أسماء سرية وكانوا من أسباب ضرب الخلافة المستبدة، خلافة السلطان عبد الحميد».

والذي دعاهم إلى مخالفة الدولة والعمل ضدها والسعي إلى إسقاطها هو غياب الحرية الذي هو في رأيه من «الأسباب الأساسية لإسقاط الدولة العثمانية».
لضرورة الاختصار، ولأن الرد يقتضي تفصيلا، أجمل الرد بأن: كل ما تقدم من أحكامه وتعليلاته ودفوعاته يتفاوت ما بين عدم الدقة، والاضطراب والتناقض، وعدم الصحة.

المقال القضية: «خدعة التحليل العقدي»

* التحول إلى نهج الإخوان المسلمين في تجاوز الطائفية داخل الإسلام، خصوصا مع الشيعة الاثني عشرية (تجاوز الإخوان المسلمين للطائفية مقصور على الإسلام. وفي الإسلام هذا التجاوز - فيما يتبدى لي - مقصور على الاثني عشرية وعلى الإباضية) فلقد أعلنه مقاله «خدعة التحليل العقدي» الذي كتبه في خضم حرب تموز بين حزب الله اللبناني وإسرائيل، والذي أكسبه صيتا ثقافيا عاليا عند بعض الإسلاميين وبعض الصحافيين في السعودية. وصاروا ينظرون له على أنه إسلامي متفتح، ومثقف رفيع في ثقافته العربية والإسلامية وفي ثقافته الغربية.

أثار المقال جدلا عند بعض مثقفي التيارات الدينية في السعودية وخارجها. وانقسم الجدل إلى مختلف مع صاحبه برفق وإلى مؤيد له بقوة.

الاختلاف معه ومع المقال برفق، رغم حساسية ما جاء في المقال عند التيارات السلفية عامة، سببه الرفقة الأيديولوجية في المنظور للشيعة بينه وبينهم سابقا، ولأنه كان كادرا تنظيميا نشطا في العمل الإسلامي السروري الحركي في الولايات المتحدة الأميركية.

وبما أن الجدل حول المقال انحصر في الخانة السياسية المذهبية ولصلة ما جاء فيه بموضوع نقاشنا في أكثر من جانب، سأقف عنده هذه الوقفة:

ينبغي أن أذكر في البداية أن مقال الأحمري الذي بولغ في قيمته ليس مقالا بالمعنى الصحافي أو الأدبي، فالمقال أراده صاحبه أن يكون ورقة فكرية أو بحث تنظيري. وينبغي أن أذكر أيضا أن المقال هو أو مقال لصحوي سعودي يبرز فيه صاحبه عوامل أخرى غير العامل الديني وهذا من أسباب الالتفات للمقال والاهتمام به، وصدور ردود عليه. وأن المقال هو أول مقال لافت كتبه في حياته.

وفيما يلي بعض الملاحظات على المقال:

- تسمية المقال خاطئة. فالعنوان يشير إلى أن موضوعه التفسير الأيديولوجي، لأن العقيدة والعقدي تقابل الأيديولوجية والأيديولوجي، في حين أن موضوعه كان التفسير أو الرؤية الأيديولوجية. وفي ثنايا المقال اتضح أنه يقصد بالتحليل العقدي التفسير الديني الطائفي. وأن العقدي هنا نسبة إلى عقيدة السنة بدرجة كبيرة واضحة ونسبة إلى عقيدة الشيعة بدرجة أقل كثيرا من الأولى وغير واضحة.

وعقيدة السنة وعقيدة الشيعة لا تتضمن تفسيرا للسياسة ولا للتاريخ، ناهيك عن أن تتضمن تحليلا فيهما. والتاريخ الإسلامي كما كتبه مؤرخونا الأوائل لا يتضمن تفسيرا أو رؤية طائفية حتى عند المؤرخين ذوي المنحى السلفي. وإنما يمكن القول إن عقيدة الشيعة في أساسها تروي أحداث التاريخ الإسلامي وتفهمها على نحو طائفي، نتيجة لتلازم التاريخ مع العقيدة تلازما لاهوتيا لا فكاك فيه في الفكر الإسلامي الشيعي.

- لا يوجد في الإسلام شيء محتواه تحليل عقدي، للسياسة والتاريخ، وإنما يوجد فيه تفسير ديني للتاريخ. وهذا التفسير مستقى من القرآن. وهو مشترك بين السنة والشيعة. والتفسير الديني للتاريخ هو تفسير واحد في الإسلام والمسيحية واليهودية، مع اختلاف في بعض الجوانب. كما أنه - بالدرجة الأولى - تفسير أخلاقي غائي.
- خلط في عنوان المقال وفي تضاعيفه بين التحليل والتفسير. والفرق بين التحليل والتفسير فرق كبير وكان عليه أن يستخدم في العنوان تعبير «تفسير» لأن ما تناوله في متن مقاله التفسير لا التحليل.

- لم يحرر موضوع مقاله، فكان المقال سائحا بلا قوام أو مضمون محدد. وضم أمورا مختلفة ومتنافرة، رغم أن المقال غير طويل، مما جعله أشبه ما يكون بالمزودة الصغيرة.

- تجاهل في مقاله أن التفسير السياسي الطائفي إزاء الشيعة مرتبط ارتباطا عضويا بنشأة الفكرة السرورية وتبلورها كتيار متمايز عن التيار الأم، تيار الإخوان المسلمين. وتجاهل أن التيار السروري هو الذي أشاع هذا التفسير وروجه في المجتمع السعودي وفي مجتمعات عربية وفي التجمعات الإسلامية السنية وفي أوساط الطلبة السنة العاديين في أميركا وفي أوروبا. ولم يذكر أنه كان من المتبنين لهذا التفسير بكامله. فمعلومة كهذه تنص على إعادة النظر والمراجعة الداخلية حتى لو كانت جزئية، لها وقع تأثيري أكبر على الجمهور العام الذي يستهدف من مقاله إقناعه بوجهة نظره الجديدة، بل أوهم القارئ الذي لا يعرف التيار الذي ينتمي إليه أنه يتحدث عن تفسير - هو بالنسبة له تفسير خارجي - لا يمت إليه بصلة، مع أنه عاش في كنف هذا التفسير وترعرع ردحا طويلا من الزمن.

* غدا: الأحمري.. خدعة التحليل العقدي والسرورية

http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&issueno=12163&article=668459
الأحمري.. خدعة التحليل العقدي والسرورية

علي العميم




* لماذا استحضر التفسير الآيديولوجي وزج بالشيوعية وتاريخ سعد بن عبادة

* نواصل الحديث هنا حول الملاحظات الخاصة بمفاهيم الدكتور محمد الأحمري عن التحليل العقدي والسرورية.

لبس ووهم

تأمل في قوله هذا الملبس والموهم:
«قد يكون العامل العقدي في لحظة ما صحيحا، بل وحاسما، وهناك أدلة عليه، ولكن القول باطراد العامل العقدي مؤثرا وحيدا في أحداث التاريخ ينتهي بخطأ شنيع في النهاية. ويجب الحذر من جعله مدار التحليل السياسي. وهذا لب المراد في هذه اللحظة، فالمشايخ الذين يفسرون الحرب في لبنان على أنها مشكلة شيعية، وانحراف وتوريط، نجد تفسيرهم عقديا جزئيا وخاطئا، وبهذا فهو يؤيد الذين هم على الطرف الآخر الذين يرون سبب الإرهاب والقتل والدمار في العراق هم السنة مثلا. أولئك الذين لم يتفهموا بزعمهم الموقف الشيعي الذي يزعم أهله أنه حصيف».

في هذا القول العامل العقدي (لاحظ أن العقدي هنا نسبة إلى عقيدة الطائفة سنة وشيعة) في لحظة ما صحيح، بل وحاسم. وهذه اللحظة ربما تكون سنوات الثمانينات الميلادية وما قبلها بسنوات قليلة التي نشأ في ظلها هذا التفسير وراج. وغير صحيح في لحظة أخرى، هي حرب تموز، تبعا لتغيير موقفه السياسي والعقدي الطائفي من حزب الله والذي له وشيجة بتغير محور النقد والمنازعة مع الحكومة السعودية عند بعض كتاب المقالات والمحللين السياسيين في مجلة «العصر» الذين انزاحوا تدريجيا بعد مقتل رفيق الحريري إلى تأييد سوريا، عدوهم اللدود.

أما المشايخ الذين يفسرون الحرب في لبنان على أنها مشكلة شيعية - وهذا هو الجانب الموهم - إن كانوا تقليديين، فهم تبع لأصل، وهم ليسوا أس مشكلة التفسير السياسي الطائفي. ويجب هنا للإيضاح أن نفرق بين موقف طائفي تقليدي وتنظير آيديولوجي تاريخي قام على أساسه التفسير السياسي الطائفي، صنعه التيار السروري وتولى كبره، كما يجب أن نذكر أن هذا تفسير محدث وجديد في السعودية ودول الخليج ترجع انطلاقته إلى كتاب ألفه الشيخ محمد سرور بن نايف زين العابدين نشر سنة 1980م.

إن الأحمري في مقاله لم يقدم لنا أي شيء عن محتوى هذا التفسير. ولا - ولو بإلماحة مختصرة - ظروف نشأته وملابساتها السياسية والفكرية ومصادره. ومما يجدر ذكره أن من مصادره تيار لا يصنف عادة على أنه إسلامي، ومصادر ثقافية غير إسلامية!

- يخلط بين التفسير الطائفي (أو ما سماه بالتحليل العقدي) والتفسير الديني وتفسيرات أخرى إلى حد التخبط والتخليط. فلا نعلم عن كنه التفسير الذي يتحدث عنه حديث الناقد شيئا. ناهيك عن أن تعرف صفاته العامة وصفاته الخاصة التي تميزه عن غيره. فالتفسير العقدي عنده يقوم على قاعدة «هم خطأ ونحن مصيبون، وهم ضالون ونحن مهتدون، فنحن منتصرون، وهم مهزومون».

هذه القاعدة لا تميز التفسير الطائفي، فهي من الصفات الأساسية في التفسير الديني في الأديان السماوية الذي ينقسم فيه الناس إلى ثنائية أطهار وأنجاس، خيروّن وأشرار، ضالون ومهتدون.

ومن أبرز النماذج المهمة عنده عالميا لمعرفة خطل التحليل العقدي وخداعه لأهله «ما حدث من ثقة علماء الإسلام في تركيا من أن الإسلام حق، والله ناصره، والتقنية عند الغربيين لن تنتصر لأنهم كفار ولن يجعل الله للكافرين على المسلمين سبيلا. ومن الأمثلة التحليل النازي الذي زعم أن الجنس الجرماني لا يغلب، ولن يطاوله جنس في العالم».

ما حدث في تركيا من قبل علمائها في تلك الحادثة التي ذكرها هي أيضا تدخل في نطاق التفسير الديني، مطلق التفسير الديني. وهذه الثقة مصدرها وعد إلهي عند المسيحيين واليهود والمسلمين.

وفي الفترة التاريخية التي حصلت فيها تلك الحادثة استشرى عند المسلمين تمادٍ وتوسع وغلو في فهم هذا التفسير إلى حد التفريط في الأخذ بالأسباب، تواكلا ودروشة.

ولصق المثال الثاني أو ما سماه بالتحليل النازي، بالمثال الأول اللذين اعتبرهما نموذجين عالميين لمعرفة خطل التحليل العقدي وخداعه لأهله، مثال ساطع للربط بين أمرين لا يوجد بينهما محل ربط. كما أن التفسير الإسلامي الطائفي المحدث لا يوجد بينه وبين الاعتقاد النازي الذي زعم أن الجنس الجرماني لا يغلب، ولن يطاوله جنس في العالم أدنى رابط.

من مآخذ الأحمري على التفسير الآيديولوجي أنه يجد أن «المحلل العقدي ينهي الموقف بلوم العقائدي المخالف ويحملّه جرائم العالم، كالقول بأن المشكلات أو الهزيمة سببها عبد الله بن سبأ قديما، أو الشيعة حديثا، أو المعتزلة أو الشيوعية أو الوهابية أو الصوفية أو الرأسمالية أو الصهيونية، ويغفل تماما أي بنية للمشكلة من الطرف الذي هو فيه، والعقديون المضادون إن كانوا في مستوى عقله ردوا عليه بالطريقة نفسها، وبهذا تضيع الحقيقة».

تحميل عبد الله بن سبأ أوزار الفتنة الكبرى والحرب الإسلامية الأهلية التي حصلت في أواخر دولة الراشدين، والقول بأن عبد الله بن سبأ اليهودي أس التشييع، وأن الشيعة متآمرون مع أعداء الإسلام حديثا وقديما وأنهم سبب المصائب والنكبات التي تعرض لها المسلمون في عصورهم القديمة إلخ.. يدخل في نطاق التفسير التآمري للتاريخ. والتفسير التآمري يشكل العمود الفقري للتفسير السني الطائفي عن تيار ديني محدث بعينه، وهو التيار الذي أراد أن يناقشه الأحمري في مقاله. هذا التيار هو التيار السروري الذي ينتمي هو إليه.

الشاهد على أنه يتحدث عن هذا التيار هو قوله في الفقرة الثانية من المقال - والتي سبقت النص أعلاه المستشهد به مباشرة - : «حديثنا هنا هو عن أثر العقيدة في الوصول إلى أخطاء تحليلية فادحة.. وقد يسمى موقفه (يقصد المحلل العقدي، كما يسميه) موقفا مؤصلا صحيحا شرعيا».

وكما نلاحظ في المثال الأول (ابن سبأ) والمثال الثاني (الشيعة حديثا) وقع في الأخطاء التالية وهي: أن التيار السروري أو ما يسميه بالمحلل العقدي، لا يقول بهذه الطريقة المخففة أن ابن سبأ سبب «المشكلات أو الهزيمة» التي تنبئ عن أنه كان مشاغبا و«مشكلجيا» في الأولى، أو قائدا عسكريا أخرق أو متخاذلا، بل يقول إنه متآمر وحاقد على الإسلام بدافع من يهوديته وأسلم ليكيد للإسلام وأهله وينفذ مؤامرته التي انتهت بنحر الخليفة عثمان بن عفان وحرب الجمل إلخ.. وأن هذا التيار لا يقول إن الشيعة حديثا سبب المشكلات والهزيمة. إنه لو كان يقول بهذا - بحسب عبارته غير الدقيقة - لهان الأمر. فهذا التيار يحمل الشيعة المصائب والنكبات التي حلت بالمسلمين قديما وأنهم في بعضها كانوا علتها وفي بعضها الآخر كانوا متواطئين فيها. وهذا التيار لا يكتفي بتوجيه اللوم - بحسب عبارة أخرى له غير دقيقة -، بل يربطهم بابن سبأ ويربط ابن سبأ بهم في حبل متين من الإدانة والتشنيع. ويرى - بحسب تفسيره التآمري - أن الشيعة حديثا مستمرون في حبك المكائد والتربص بأهل السنة الدوائر إلخ..

التفسير الآيديولوجي والمعتزلة والشيوعية!

أما بالنسبة للأمثلة الأخرى، كالمعتزلة والشيوعية والوهابية والصوفية والرأسمالية والصهيونية، فهي أمثلة غير مطردة للقول بأن كل واحدة منها تمثل عند هذا التيار سببا مضخما للمشكلات أو الهزيمة - بحسب تعبيره - ومضطربة ومهتزة وغير صحيحة في سياق الفكرة التي ضرب فيها هذه الأمثلة. وكذلك فإن قوله إن العقائديين المضادين (أي عقائديي المعتزلة والشيوعية والوهابية والصوفية والرأسمالية والصهيونية) إن كانوا في مستوى عقله ردوا عليه بالطريقة نفسها، غير مطرد ومضطرب ومهتز وغير صحيح في تلك الفكرة المشوشة التي قدمها.

- التفسير الآيديولوجي أو ما سماه هو بالتحليل العقدي ليس له أداة أو أدوات معينة تستخدم فيه للفهم والتفكير والبحث والتعليل، بل هو عبارة عن كلمة فضفاضة ومطاطة. ولتوضيح هذا الأمر سآتي من مقاله بنصين يتحدث فيهما عما سماه بالمحلل العقدي.

في النص الأول يقول: «إن المحلل العقدي يؤمن بأنه على الحق دائما، وأن النصوص معه تؤيده وتحفزه وتحدد أطراف المعركة بدءا بالتوراة والإنجيل ثم القرآن إلى نصوص ماركس. ويعاني من استسلام غير واعٍ للنصوص وللأفكار التي يسيء فهمها».
وفي النص الثاني، يقول: «المحلل العقدي المتزمت لطائفته سواء أكان شيوعيا أم شيعيا أم سنيا، فإنه لا يرى العالم إلا من خلال عقيدته».
يطلق على التفسير الذي ينطلق من التيار أو المذهب سواء أكان دينيا أم غير ديني الذي يؤمن به الفرد، تسمية تفسير آيديولوجي. ويطلق على الذي لا يرى العالم إلا من خلال عقيدته، اسم آيديولوجي أو عقائدي.

ويطلق على التفسير الذي ينطلق من آيديولوجية الجماعة المدروسة ويكون صاحبه من آيديولوجية أخرى مضادة أو مذهب أو دين آخر مختلف، تفسير آيديولوجي. ويطلق على الشخص الذي لا يرى العالم من خلال عقيدته وحسب، وإنما يراه بتفتح من خلال رؤى عقائدية أو آيديولوجية مختلفة، ويعطيها الثقل في الفهم والتفسير، اسم آيديولوجي أو عقائدي.

أشرح هذا الأمر البسيط لأوضح للأحمري أن التفسير الآيديولوجي لا يسير باتجاه واحد محدد، كما توهم.

وفي النص الثاني هناك عبارة توحي بأنه يعتبر الشيوعية مثلها مثل الشيعة والسنة طائفة، وهذا خطأ شنيع. فالشيوعية ليست طائفة.

قد يقول إنه استخدمها بالمعنى اللغوي لا الاصطلاحي. أي يعني بها جماعة. هذا التخريج لا يستقيم مع حديث في المقال عن الشيوعية بالمطلق، وجعلها في المقال بشكل أساسي موضوعا للمقارنة مع التفسير الطائفي الديني الإسلامي، والمثال الأبرز لما سماه بالتحليل العقدي.

والحق أنه زج بالشيوعية في مقاله من دون مبرر نظري ولا مسوغ منهجي. فما علاقة الشيوعية بالتفسير الطائفي الديني الإسلامي أو على نحو أكثر تحديدا ما علاقتها بالتيار السروري وتفسيره الطائفي.

إنني أعلم أنها في الغرب منذ ما قبل منتصف القرن الماضي شبهت بالبيوريتانية (التطهرية) تلك النحلة المنشقة عن البروتستانتية في جوانب عدة، كعقيدة الاختيار والاصطفاء وأنهم نتيجة لهذا الاختيار والاصطفاء يرفلون بنعمة لا حد لها، وأن إنكار عقيدتهم الأساسية رجس من الشيطان. وأن الازدراء الشيوعي البلشفي للمعرفة البرجوازية يماثل تماما الريبة التي تملأ نفوس رهبان طائفة البيوريتانيين نحو المعرفة العلمانية. وأن اعتماد البلاشفة على نصوصهم التي يأخذونها من ماركس ولينين وستالين يطابق تماما اعتماد المتطهرين على آيات الأسفار المقدسة إلى آخر ما قاله هارولد لاسكي في التشابه بينهما.

وأعلم أن الشيوعية شبهت بالدين في يقينياته وقطعياته أو في دوغماه. وأعلم أنه نظر إليها بوصفها دينا مقلوبا.

وأعلم أن ثمة تشابها ما بين الإسلاميين والشيوعيين في بعض زوايا النظر وبعض الجوانب التطبيقية لكن المقال لم يكن يحلل التفسير الديني ولا يتحدث عن الدين بحد ذاته ولا يحلل أفكار الإسلاميين المعاصرين وممارستهم العملية.

وزيادة على هذا الزج غير المبرر قدم الشيوعية أو الماركسية لا من خلال نهجها التفسيري الأساسي، وإنما من خلال هوامشها ونوافلها.

يقول في المقارنة الأولى: «إن التحليل الشيوعي في روسيا، كانت عقدته ثقته العقدية، فقد اكتشف جورج كينان نقطة الضعف هذه، في العقلية السياسية الشيوعية ورصدها بدقة واستمرار للمعرفة والمراجعة، ثم حدد مرض الحزب الشيوعي بأنه: (الثقة العقدية)، فالعلمية التاريخية والحتمية التاريخية، التي تنصر الطائفة المنصورة - وقد ورد ذكرها في الكتاب المقدس لدى النصارى (انظر كتاب طارق متري، /مدينة على جبل/) - سوف تنتصر دائما. وهي التي تحدد اتجاه العالم ومصيره وأنه سيكون دائما في خدمتها، حالا ومآلا. فكان الشيوعيون يرون أن مستقبل العالم وتوجهه سوف يكون نحو الشيوعية، وذلك كان خداعا للنفس وقصورا في التحليل».

يقدم هنا - وهو التقديم الأول للشيوعية القائم على مقارنة - التحليل الشيوعي من خلال نقطة ضعفه، وهي الثقة العقدية، التي اكتشفها جورج كونان!

مما هو مشتهر عند المثقفين أن الثقة العقدية ليست خاصة بالشيوعية في روسيا، فهي من لوازم الإيمان بالشيوعية في كل مكان. وأظنها مسألة لا تحتاج إلى اكتشاف لأنها ظاهرة وبارزة وليست باطنية مضمرة. فهي مسألة لم يكتشفها جورج كونان. كما أنها ليست اللب والجوهر في التفسير والتحليل الماركسي. وأن المستقبل - بحسب مقتضيات العلمية التاريخية والحتمية التاريخية - للشيوعية وربطها بفكرة دينية أخروية مسيحية عند إحدى الشيع البروتستانتية، (لعلها البيوريتانية)، التي تؤمن بأنها الطائفة المنصورة ربط لم ينفرد به جورج كونان. فلقد قام بهذا الربط وهذه المماثلة وقال أيضا بالثقة العقدية - كما مر بنا - هارولد لاسكي بمقالات ومحاضرات جمعت في كتاب صدر سنة 1942، اسمه: «تأملات في ثورات العصر».

وجورج كينان الذي أورد الأحمري من أحد كتبه الاقتباس القصير السالف، ظهر أول مقال له عن الاتحاد السوفياتي سنة 1947 من دون اسم والذي اشتهر باسم المقال المجهول.

إن الاقتباس القصير الذي نقله عن جورج كينان غير ذي بال بالنسبة للشيوعية وغير مفهوم الغرض منه في موضوع مقاله. لنحاول أن نفهم هذا الغرض وفق المعطيات التالية:

أولها: المقال كتب في أثناء حرب يوليو (تموز) التي شنتها إسرائيل على لبنان.

ثانيها: المقال يناقش - وإن عمّى على ذلك وموّه - تصورا سلفيا طائفيا إحدى ثوابته، المفاصلة النظرية والعملية مع الشيعة والصراع العقدي معهم على مستوى التاريخ وفي دنيا الحاضر، وبالتالي رفض فكرة التقارب الديني والتحالف السياسي بين الشيعة والسنة.

ثالثها: جورج كينان دبلوماسي وسياسي أميركي. ومن السياسيين الواقعيين المشاهير في العالم. وهو صاحب فكرة احتواء الاتحاد السوفياتي داخل مناطق نفوذه لا مواجهته، والتي دعا إليها في المقال المشار إليه أعلاه والذي نشره في مجلة «الشؤون الخارجية» تحت عنوان «مصادر التحكم بالاتحاد السوفياتي» ونظرا لأنه صاحب هذه الفكرة أو النظرية عدّ مهندس الحرب الباردة وسيحاول الأحمري أن ينقل نظريته إلى مجال سياسي ديني مذهبي. فالغاية من الاقتباس ليست الاقتباس نفسه، بل نظرية المقتبس منه.

رابعها: نقله عن جورج كينان مماثلته حتميات الشيوعية العلمية والتاريخية بمعتقد البيوريتانيين الأخروي المسيحي بأنهم هم «الطائفة المنصورة» يشير من بعيد إلى معتقد أخروي إسلامي يقوم على بضعة أحاديث مروية بعبارات مختلفة اختلافا طفيفا ومعناها واحد منها:
عن معاوية بن أبي سفيان: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم - يقول: «لا يزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتيهم أمر الله».
عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة».
وعن عمر بن حصين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال».

هذه الأحاديث التي تنبئ عما سيحصل في آخر الزمان حاضرة عند التيارات السلفية ومنها التيار السروري بقوة، واستنادا إليها يرون أنهم هم «الطائفة المنصورة».
وقوله: إن التحليل الشيوعي في روسيا كانت ثقته العقدية هي عقدته ونقطة ضعفه ومرضه إشارة غير مباشرة إلى أن ثقة التحليل العقدي عند السلفيين هي أيضا، العقدة ونقطة الضعف والمرض.

وهذه الثقة العقدية في التحليل الشيوعي في روسيا هي عنده سبب هزيمة الاتحاد السوفياتي أمام أميركا وسبب سقوطه وسقوط الشيوعية معه.
وهو بهذا الكلام الموجه للسلفيين يريد أن يمرر لهم نصيحة عملية بأن لا يركنوا - فقط - إلى الثقة العقدية وإلى أنهم هم الطائفة المنصورة فيكونوا كالشيوعيين، فيلقون المصير نفسه الذي انتهى إليه الشيوعيون.

ويدعوهم إلى أن يكونوا كأميركا التي اتبعت سياسة الاحتواء التي دعا إليها جورج كينان الخبير في السياسة السوفياتية. فيتبعوا مثلها هذه السياسة مع الشيعة ويتخلوا عن سياسة المواجهة معهم.

هذا هو الغرض من الاستعانة باقتباس نص قصير لجورج كينان غير ذي بال، فهو كان يريد أن يطرح على جمهور ديني داخلي ينتمي هو إليه، نظرية الاحتواء ويقنعهم بها. وهذا هو الغرض أيضا من زجه للشيوعية في موضوع مقاله.

ولكي يقنع الأحمري الجمهور الديني الداخلي الذي ينتمي إليه أتى بنبأ عظيم هو أنه: «بعد مراقبة ذكية للعقلية العقدية الشيوعية، عرف خصومهم أن هذه العقيدة هي مفتاح التغلب عليهم، والسيطرة على أفكارهم من خلال تركهم يتمادون في هذه التفسيرات، وقد قامت مراكز بحث وتوجيه للمعرفة والسياسة تهتم بصحة هذا التحليل (عقدة الثقة العقدية) لنفسية العقديين، وإمكان الاستفادة من ضعفها، ثم تنفيذ خطة تنتهي بالفشل الكبير للموقف الذي لا يناقش ولا يصحح نفسه، وقد كان!».
إنه يزعم هنا أن أميركا بعد مراقبة ذكية للعقلية الشيوعية اكتفت بإقامة مراكز بحث وتوجيه تهتم بصحة تشخيص مرض الشيوعية النفسي، وتركت الشيوعية تتمادى في تفسيراتها ثم نفذت خطة انتهت بالفشل الكبير للشيوعية الذي سببه الأساس الثقة العقدية.

إنها - وأيم الله - فرية، وفرية دعوية!

الزج بسعد بن عبادة
هذه الدعوية، دعوية ذات محتوى سياسي دعائي. ولأنها كذلك فلقد زج بأمر سعد بن عبادة مع خلافة أبي بكر في حديث له عن ملامح التفكير الشيوعي وتفسيره العقدي، بغرض الإسقاط السياسي والفكري.

يقول: «من ملامح التفكير الشيوعي وتفسيره العقدي أنه كان يلزم أفراده بصحة النتائج التي يصل إليها تحليلهم، وهذا قضاء على العقل والمعرفة ينتج فشلا ذريعا في المستقبل، فإن اتخاذ حكومة ما أو حزب موقفا لا يعني أن تلقي عليه ظلال الصحة فضلا عن العصمة بل قد ينفذ كما ينفذ الجندي القرار، ولكن يجب أن يبقى له حرية التفكير والتعبير عن رأيه المخالف. فقد وسع سعد بن عبادة ألا يبايع ولا يوافق على خلافة أبي بكر، وبقيت له مكانته واحترامه، لأنه لم يقد عسكرا للانتقام لفكرته ولكن الشيوعيين كانوا يقتلون على الهواجس والأوهام. بعد أن يمطروا المخالف بالنقائص والتهم. وويل للحق الموجود خارج الحزب وللأسف كثيرا ما يكون كذلك لأن الولاء الحزبي يحمي غالبا الرعاع».

ويتمم كلامه هذا بفقرة تالية هي قوله: «زد على ذلك، أن المفسر العقدي غالبا يلاحظ توجه الحكومة أو الأتباع، ويتخلى عن المعرفة والعقل في سبيل إرضاء الغوغاء، ويبدأ يسترضي ويجامل الغوغائية حتى تصبح الغوغائية والعواطف الشعبية هي المسيطرة على تفسيره، وتلك علة أكبر، تنتهي بالفشل وتنتهي بالبعد عن الحق والبعد عن الأمانة ويتسلم العقدي حكوميا بوقا قديما ينفخ فلا يستجيب أحد، ثم يهدم الناس جدار برلين، ويخرجون من دوائر الرعب والزيف المعاد».

هاتان الفقرتان تلتا أربع فقرات، كان يتحدث فيها عن التحليل الشيوعي والعقلية السياسية الشيوعية التي أوردنا منها قسما من فقرتيها، الأولى والثانية فيما سلف، وهاتان الفقرتان كانتا استرسالا في الحديث عن التحليل الشيوعي والعقلية العقدية الشيوعية. وبما أن الأمر كذلك يصبح غير ذي سياق - بالنسبة لحكومة الاتحاد السوفياتي وحكومات المعسكر الشيوعي إبان وجودهما - أن يحاججهما - على سبيل الإلزام الليبرالي - فيقول في البداية برهافة ليبرالية: إن اتخاذ حكومة ما أو حزب موقفا لا يعني أن تلقى عليه ظلال الصحة، فضلا عن العصمة. ثم يصعد نبرته الليبرالية، فيندد بأن الموقف المتخذ قد ينفذ كما ينفذ الجندي القرار. ثم على نحو غير متوقع عقب تصعيد النبرة، يطالب بفظاظة ليبرالية بحرية التفكير وحرية التعبير عن الرأي المخالف.

وغير ذي سياق أيضا، بعد أن حاججها بما يعتبرانه مقارنة بأنموذجهما السياسي الآيديولوجي الحربي الذي يقوم على المركزية الديمقراطية، ترهات برجوازية شكلية ديماغوجية وميوعة ليبرالية متفسخة، أن يحاججهما بإسلامية، زمِّيتة وأصولية، مفاضلا بخشونة بينهم وبين الخلافة الراشدة في عهدي أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، ومذكرا الرفاق الشيوعيين بحكومة الاتحاد السوفياتي وحكومات المعسكر الشيوعي بما نسوه أو تناسوه من أن أول خلافة في الإسلام، الخلافة الراشدة، وسع سعد بن عبادة سيد الخزرج فيها ألا يبايع أبا بكر بالخلافة لأنه غير موافق على استخلافه، وبقيت له مكانته واحترامه، لأنه لم يكن - وهذه إضافات من عندي تتناسب وهذا الزج الفج لسعد بن عبادة - انقلابيا عسكريا فاشيا، ولم يتهم بالتحريف لإفراغ العقيدة من محتواها الصحيح ومن موضوعاتها الأساسية لصالح البرجوازية، ولم يوصم بأنه باكونيني فوضوي مغامر، ولم ينف إلى سيبيريا.

كما أنه غير ذي سياق في الدولة الشيوعية قوله: «إن المفسر العقدي غالبا ما يلاحظ توجه الحكومة ويتخلى عن المعرفة والعقل في سبيل إرضاء الغوغاء» لأن الحكومة والمثقف والعامة في هذه الدولة كيان واحد، فهي لا تقوم على ثنائية أو تعددية حزبية. وفي هذه الدولة لا يوجد ما سماه «بالعقدي حكوميا (الذي) يتسلم بوقا قديما ينفخ فيه فلا يستجيب أحد». ذلك لأن الحزب هو الحكومة والشعب. والحزب هو الدولة والدولة هي الحزب.

ولكيلا يتهم مبلغه من العلم في الشيوعية التي طلب العلم فيها مؤخرا عن طريق ما كتبه جورج كينان عنها في كتبه، سأميط اللثام عن إسقاطه السياسي والفكري على الواقع المحلي.

الأحمري - بما جاء في تينك الفقرتين وبما جاء في مقالته كلها كان يخاطب - كما أسلفت - جمهورا دينيا داخليا. وهذا الجمهور، جمهور سني سلفي عام. ويخاطب ضمن هذا الجمهور، جمهورا حزبيا وعاما، هو الجمهور السروري الذي هو أحدهم.

الشاهد على ذلك استدعاؤه لما كان من أمر سعد بن عبادة مع خلافة أبي بكر.

فالخلافة الراشدة إلى عثمان بن عفان عند الشيعة هي اغتصاب للسلطة. وموقف سعد بن عبادة من خلافة أبي بكر وما جرى له بعدها يقدمونه على نحو آخر مختلف ونقيض للطريقة التي قدمها هو. فهذا الموقف لسعد وما جرى له بعدها يستعملونه من بين أمور عدة، لخدش أنموذج الخلافة الراشدة عند السنة والنيل منها والطعن في نظرية عدالة الصحابة أو مبدأ أن الصحابة كلهم عدول في الفكر السني.

أما طريقته هو أو الغاية منها، هي ليس تبرير المعارضة وحسب، وإنما تبرير حرية عدم الاعتراف الديني بشرعية الحكم. وتسويغ ذلك للجمهور الديني السني، وبخاصة في السعودية، استنادا إلى أن الخلافة في الفكر الإسلامي السني هي الأنموذج والمرجع والحكم والموئل واستنادا إلى نظرية عدالة الصحابة، فسعد بن عبادة صحابي أسلم مبكرا وحضر بيعة العقبة الثانية، وكان أحد النقباء الاثني عشر، وحامل راية الأنصار في المشاهد كلها، ولم يبايع أبا بكر على الخلافة وترك حرا ولم يلزم بالبيعة.

وقد قلت: تسويغ ذلك للجمهور الديني السني، خاصة في السعودية، لأن الحكم السياسي فيها يتكئ إلى حد كبير على شرعية إسلامية سنية سلفية تقليدية. ففي البلدان العربية الإسلامية عندما يستدعي مثقف إسلامي أمر سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة مع خلافة أبي بكر وعمر ويمنحه بعدا ليس فيه، لا يتعدى الأمر كونه مفاخرة تاريخية بليبرالية سياسية مزعومة، ذلك لأن هذه البلدان لا تتكئ على الشرعية الدينية بالصورة التي عليها السعودية.
شرطه لحرية عدم الاعتراف بشرعية الحكم - من خلال استدعائه لموقف سعد الرافض لبيعة أبي بكر - هو ألا يكون عدم الاعتراف هذا، مقرونا بعمل حربي أو عسكري.

زبدة القول في إسقاطه هذا، أنه كان يحاجج الحكومة السعودية والعلماء والمشايخ التقليديين والمشايخ والمثقفين والكتاب الصحويين في موقف سياسي بعينه. وكانت المناسبة حرب تموز التي شنتها إسرائيل على لبنان. أما العقدي الحكومي صاحب البوق القديم، فيعني به الكاتب والمثقف الموالي للحكومة موالاة تامة والموالي لها موالاة نقدية.

موقف سعد بن عبادة الرافض لمبايعة أبي بكر بالخلافة وما صحبه من تفسير والذي استند فيه كسابقة تاريخية أولى على جواز رفض البيعة وشرعية المعارضة في الخلافة الإسلامية الراشدة وهو الموقف الذي كرر الاستشهاد به في لقائه مع علي الظفيري في قناة «الجزيرة» الذي دار حول الحرية في الفكر الإسلامي، يحتاج إلى تعليق.

سعد بن عبادة بعد هذا الموقف اعتزل الناس أو الناس اعتزلته لأن الأنصار في مبتدأ حادثة السقيفة بايعوه ثم تراجعوا عن بيعته بدءا بالأوس ثم تبعهم الخزرج قبيلته الذي هو زعيمها. وكان يحج ولا يفيض مع المسلمين بإفاضتهم. ولم تسعه المدينة فنفى نفسه في آخر حياته في حوران إلى وفاته. ولم يختلفوا أنه وجد ميتا في مغتسله. ويقال: إن الجن قتله.

وقوله محللا: وسع سعد بن عبادة ألا يبايع، وبقيت له مكانته واحترامه، لأنه لم يقد عسكرا للانتقام لفكرته، تعليل غير دقيق لعدم إلزامه بالبيعة. والتعليل هو أنه زعيم الخزرج والمتحدث باسم الأنصار في مؤتمر السقيفة الذين خذلوه في مطمحه تباعا، وكان شيخا كبيرا طعن في السن. فإكراهه على البيعة يؤلب عصبته القبلية، الخزرج، ويؤلب أبناء عمومتهم الأوس، على قبيلة قريش بأجمعها.

وأحسب أنه لم يكن متيسرا له أن يقود عسكرا حتى لو فكر في ذلك لأن الأنصار بايعوا - كما المهاجرين - أبا بكر بالخلافة، ورضوا بعمر خليفة من بعده.

إن بوسع الأحمري أن يبرر لشرعية المعارضة السياسية داخل الدولة الإسلامية وحق عصيانها بسوابق إسلامية تاريخية أخرى، لكن ليتجنب اتكاءه الوحيد على رفض مبايعة سعد بن عبادة لأبي بكر الصديق لأنها لا تخدم فكرته من جهة، وتعتبر اتكاء غير حصيف من جهة أخرى.

التحول نحو خطاب الحرية

إننا في حالة الدكتور الأحمري أمام تحولين: تحول إلى فكرة التقارب الإسلامي وإلى خطاب الحرية، وقد جاء هذان التحولان في وقت متقارب. وكنا نتمنى أن يكون هذا التحول تحولا فكريا لا تحولا محدودا بالسياسة وتحالفاتها التي تكون مؤقتة وراهنة وتدور مع المنافع والمصالح.

إن للحرية عنده مجالا محددا ونطاقا ضيقا. وهذا ما لمسناه في صدر المقال، رغم زعمه أنها قضية مركزية في فكره، ومركزية في الفكر الإسلامي عموما، القديم والحديث.

في لقاء «الجزيرة» عندما طلب منه الظفيري تعريف الحرية حار لأن لها - كما أخبرنا - ما يزيد على المائتي تعريف أحصاها أحد المفكرين الكبار. وانصب ناظره على حرية السجين ولم يقدم تعريفا مرضيا. لكن في حمأة دفاعه عن أن التيارات الإسلامية وعلماء الدين الذين تثير عندهم مفردة الحرية نوعا من الحساسية والتخوف - كما قال الظفيري - وفي مجابهة الغرب الذي هو عنده سبب حساسيتهم وتخوفهم من الحرية قدم تعريفا، فقال: «إن الحرية هي قدرة العالم والمثقف وجميع طبقات المجتمع في تطوير ذاتها وفي تطوير مجتمعاتها والخلاص من القيود السياسية وغيرها من القيود الفكرية».

هذا التعريف أحسن قليلا من التعريف الأول للحرية التي عرفها بأنها «هي إطلاق قدرات الإنسان ومكوناته الإنسانية وفكره وعقله ليعيش هذه الحياة بشكل طبيعي. وهذا هو الأصل في الحرية».

أشك (مع أنه في تنظيره للحرية لم ينص على حرية الشك) أن يكون هذان التعريفان من بين التعريفات التي أحصاها أحد المفكرين الكبار، وأشعر أنهما تسربا إلى قاموس الحرية من إحدى الدورات الإدارية الروتينية المملة في تطوير الذات!

ولا عجب في هذا، فالديمقراطية - عندما سأله الظفيري عن أنموذجها الغربي - رأى أنها «وسيلة إدارية. ليست عقيدة. ليست دينا» وشدد على أنها «طريقة إدارية لإدارة المجتمعات» وليؤكد صحة رؤيته الإجرائية التي تقوم على عزلها عن أنموذجها في الغرب وإفراغها من محتواها الآيدولوجي ضرب مثالا مستمدا من قسم المحاسبة!

نظرة ثورية تبسيطية

أخلص من هذا النقاش إلى انطباع مجمل عن الأحمري، هو أن يغلِّب النظرة السياسية الراديكالية ويحصر ثوريته ومعارضته في الشأن السياسي سواء أكان هذا الشأن يتعلق بالعهود الإسلامية القديمة أو يندرج في العهود الحديثة.

مشكلة هذه النظرة وهذا الحصر، تكمن في اختزاليتها وتبسيطيتها وأنها تشجع على التهييج العاطفي والتطرف السياسي والفكري ذي الطابع الديني، ولا تساعد على الفهم التاريخي النابه والتأمل الفكري الحر. وينطبق عليها ما قاله هو في وصف المحلل العقدي. فـ«المحلل العقدي ضيق الأفق، قريب المرمى، محدود الأبعاد في التفسير، ويأنس لرؤيته وموقفه أولئك المحدودون الذين لا يتحملّون تعدد مجالات الرؤية».

قفز إلى ذهني - وأنا أكتب هذه السطور - من قبو الذاكرة عبارة جدا قصيرة، أذكر أني أول مرة قرأتها شغفت بها سنين عددا. هذه العبارة تقول: «لا علم إلا التاريخ».
آراء الأحمري وتفسيراته وتنظيراته التي ناقشنا بعضا منها، تعاند هذه العبارة بإصرار وتحدٍ، وتوحي بأن «لا علم في التاريخ» رغم أنه دارس لعلم التاريخ ومن تيار في العالم العربي، منغمس في مطالعة التاريخ لكن من دون - هو وتياره - حصاد نظري معمق ونابه في فهم واستيعاب حركة التاريخ وتعليلها تعليلا جدليا!

http://www.aawsat.com/leader.asp?section=3&article=668479&issueno=12164

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..