الثلاثاء، 20 مارس 2012

رسالة من القلب للدعاة والمحتسبين




د. توفيق بن عبدالعزيز السديري *
    يموج الواقع الدعوي والاحتسابي في المملكة بآراء واجتهادات نحت به مناحي خطيرة قد تؤدي إلى انزلاقات ومآلات لا تحمد عقباها، لذا فنحن في حاجة إلى إعادة
المسار الدعوي والاحتسابي لأصله الشرعي، فالدعوة إلى الله درجة عالية المكانة، يقول الله عز وجل فيها: «ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين» (فصلت/ آية: ٣٣) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه فرب مبلغ احفظ من سامح) (ابن ماجه/ مقدمة: ص١٨)، وفي رواية (فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه) (الحاكم في المستدرك ج١ - ١٦٢)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئاً) (رواه مسلم)، وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دل على خير فله مثل أجر فاعله) (رواه مسلم).
ويكفي أن الدعوة وظيفة الرسل خير البشر، وهي شرف لمن حملها، وسار على نهجهم إلى يوم الدين، ان الدعوة إلى الله ينبغي أن تكون على بصيرة حتى تؤتي ثمارها، يقول الله على لسان مصطفاه صلى الله عليه وسلم: «قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني» (يوسف/ آية: ١٠٨) قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: (العامل على غير علم كالسائر على غير طريق، والعامل على غير علم ما يفسد أكثر مما يصلح).
ومن ثم فهناك أصول ينبغي أن يذكرها الداعية، ويعمل على تمثيلها، وقديماً قيل: (من سلك طريقاً بغير دليل ضل، ومن تمسك بغير أصل زل).
والدعوة إلى الله تهدف إلى نشر الدين الحق بعقيدته الصحيحة الصافية التي هي الهدف من خلق الكائنات «وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون» (الذاريات ٥٦)، «وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء» (البينة ٥)، وهي الهدف من إرسال الرسل وإنزال الكتب.
يحرص الداعية على توضيح العقيدة. لماذا؟ لأنه مع فساد المعتقد والانحراف في جانب التوحيد تضيع أعمال الإنسان الأخرى «وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً» (الفرقان ٢٣) «قل هل ننبؤكم بالأخسرين أعمالاً. الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً» (الكهف ١٠٣ - ١٠٤).
لذلك لما أخبر الله نبيه بعد أن ذكر له عدداً من الأنبياء قال: «ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون» (الأنعام ٨٨)، فبإشراكهم حبطت كل أعمالهم مع أنهم أنبياء الله، فكذلك الداعية يرسم أمامه هذا الأصل وهو عبادة الله على عقيدة سليمة.
والدعوة إلى التوحيد هي سبيل الرسل عليهم الصلاة والسلام ووظيفتهم، وهي وظيفة الدعاة من بعدهم من علماء الأمة ومن سلك سبيلهم، فالتوحيد هو الأساس الذي تبنى عليه سائر الأعمال، فلا يصح ولا يقبل عمل من الأعمال إلا بعد توحيد الله عز وجل، وما من رسول أرسل إلى قومه إلا دعاهم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له وحده، فعقيدة التوحيد هي أصل الدين وجوهر الايمان ورسالة النبوة كما قال تعالى: «وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون» (الأنبياء ٢٥)، وليس المراد بالتوحيد مجرد توحيد الربوبية بل لابد أن يجتمع نوعا التوحيد توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد الطلب والقصد، فالأول إثبات حقيقة ذات الرب وصفاته وأفعاله وأسمائه وتكلمه بكتبه وتكليمه لمن يشاء من عباده وإثبات عموم قضائه وقدره، والثاني إفراد الله بالعبادة وهو توحيد الله بأفعال العباد بمعنى أفعالنا التي تصدر منا من دعاء واستغاثة وتوكل وذبح ونذر.. إلخ من أنواع العبادة، فنفرد الله ونخصه بها، فهو سبحانه المستحق للعبادة وحده.
كما أن دعوة الداعية إلى هذا الدين تكون وفق كلياته الخمس، والتي جاء الشرع الحنيف لحفظها، وهي: (حفظ الدين - وحفظ النفس - وحفظ العقل - وحفظ النسب - وحفظ المال) وكلها ضروري، يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: (ومجموع الضرورات خمسة، وهي حفظ الدين والنفس والنسل والمال والعقل. وهذه الضرورات إن فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج (أي: اختلاط)، وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين) (الموافقات ٢/٨).
ومن خلال معرفة الداعية ل(غاية الدعوة) يكون شمولياً في دعوته، فاهماً لفقه الأولويات، عارفاً بترابط الحياة الدنيا مع الآخرة، متفهماً الصلة بين مسائل الدين.
إذاً وبمقتضى الدعوة إلى الله على بصيرة يتبين لنا أن الدعوة إلى الله علم، فلا يقبل من أحد أن يدعو إلى شيء لا يعلمه، والعلم هو زاد الدعاة في طريق الدعوة إلى سبيل الحق والخير والنور.
«فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك» (محمد ١٩)، فبدأ الحق تبارك وتعالى في هذه الآية بالعلم قبل العمل.
إن التعرف على المنهج النبوي في الدعوة يمكن الدعاة من ترتيب أولويات دعوتهم من غير اعتساف لخطوات المنهج أو قفز على المراحل، ومن هنا يتبين أن الدعوة إلى الله رسالة لابد من إيصالها إلى الناس، ولما كانت هذه الرسالة ربانية فإن منهج تقديمها للناس رباني بالضرورة ولمعرفة هذا المنهج لابد من النظر في أسلوب الداعية الأول الذي نزلت عليه الرسالة فقد كانت سنّة الرسول صلى الله عليه وسلم هي التطبيق العلمي لهذا الدين، والمجتمع يريد من الداعية إلى الله أن يكون مراعياً لمقاصد الدعوة، فلا يكون بعزلة عن وقائع المجتمع وما تتطلبه ظروف الحياة.
ففي هذا الزمن يكون من الاهمال والتقصير من الداعية مثلاً أن لا يرى له مشاركة في تبصير الناس بواجبهم تجاه وطنهم وتماسكه وحفظ أمنه، وتجاه ولاة أمرهم خصوصاً في زمن الفتن وكثرة الشبهات مع استفاضة الأخبار بلزوم الجماعة وطاعة ولي الأمر، وقد لا يستشعر بعض الناس أهمية الحديث عن مثل هذه المواضيع إلا في مثل هذه الأوقات؛ لأنه في وقت الفتن يعرف الناس بالمشاهدة فائدة هذه النصوص المتكاثرة في مسألة السمع والطاعة والجماعة ووحدة الصف.
ويعرف الناس وقت ورود بعض الخلل الأمني الأثر الحسن للتلاحم بين الحاكم والمحكوم، وقت فقدان الأمن يعرف المجتمع أهمية الأمن، وأنه بدون الأمن فإنه مهما أوتي المرء من متاع الحياة، فهي لا تساوي شيئاً، يقول صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه - أي نفسه - معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا) (الترمذي/ برقم: ٢٣٤٦).
ومن المعلوم أن الدعوة لا تنمو إلا في ظل دولة تحوطها وتؤازرها وتؤيدها مما يوجب عليه الالتزام بالمنهج الشرعي في علاقة المسلم بولي الأمر التي مبناها على السمع والطاعة بالمعروف في العسر واليسر والمنشط والمكره حتى ولو حصل من ولي الأمر ما يكرهه، والاستهتار بولي الأمر أو إظهار ما يشعر الآخرين بمخالفته له عواقب لا تحمد ونتائج لا يفرح بها إلا من كان في قلبه زيغ أو هوى، وما نراه اليوم من فتن وما عايشناه في فترة مضت من أحداث إرهابية مفجعة نتيجة طبيعية للتخلي عن المنهج الشرعي في ضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم والراعي والرعية، فخرج من خرج عن السمع والطاعة فكان ماذا؟ كان القتل والتدمير والترويع ومحاولة إدخال البلاد في نفق مظلم من الفوضى وكأننا لم نستوعب ما سجله التاريخ الإسلامي من أحداث كان رائد مرتكبيها الإصلاح وشعارهم نصرة الدين وكأننا لم نحسن قراءة ما حصل في دول أخرى كالصومال والعراق وغيرهما.
إن منازعة السلطان في سلطانه أو سلوك منهج غير شرعي في مناصحته خدمة عظمى لأعداء الأمة المتربصين بها الدوائر وحين نقر الجرأة على ولي الأمر - من أي إنسان كان - فإننا لا نخدم الدين ولا نخدم الوطن ولا نخدم حتى مصالحنا الخاصة وإنما نخدم القوى العالمية الباغية التي تريد زعزعة أمن بلدان المسلمين وتفريق أهلها وتدمير نظمها حتى تمهد لها الطرق لاستغلالها ونهب خيراتها أو حتى احتلالها، وهي لن تستطيع تحقيق ذلك إلا بإثارة الشحناء بين أبناء البلد الواحد وإذكاء نار الفتنة بينهم ولو برفع شعار الإصلاح أو الدعوة أو محاربة المنكرات أو التقدم أو رفع الظلم... إلخ، فلنكن من ذلك على حذر، ولنقطع الطريق على كل معتد اثيم من أي جنس أو لون، ولنجتث جذور نبتة الفتنة في بلادنا ولنضع أيدينا في أيدي ولاة أمرنا صفاً واحداً ويداً واحدة لا نصدر إلا عن آرائهم ولا ندين بالسمع والطاعة إلا لهم، وكوننا نخضع لولي أمر مسلم مهما كان من قصور خير من أن نخضع لكافر بغيض أو منتسب للإسلام زوراً وبهتاناً، فكيف إذا كان لهذا الإمام المسلم من صحة الاعتقاد واتباع السلف ولهم من الأعمال الإسلامية الجليلة والجهود المباركة في الدفاع عن الدين وخدمة المسلمين ونصرة قضاياهم وإغاثة منكوبيهم ما هو محل الفخر والاعتزاز من كل منصف، بل هو وإخوانه سلالة شجرة كريمة وأسرة عريقة لها فضل بعد الله في توحيد هذه البلاد، وإخراجها من ظلمات الشرك والجهل والتمزق، إلى نور التوحيد والعلم والوحدة والأمن.
ولنستحضر أنه في الوقت الذي يغرس بعض أبنائنا خنجره في ظهر أمته وخاصرة وطنه تزداد الحملات المسعورة ضد هذه البلاد وقيادتها تتهمهم بأنهم متطرفون وأصوليون وأن هذه الدولة دولة دينية متشددة فانظروا أيها العقلاء كيف تتلاقى المصالح وكيف يخدم بعض أبناء الإسلام من أبنائنا بحماقتهم وجهلهم أعداء الإسلام وكيف يخالفون الدين باسم نصرته كيف يسعون في الأرض فساداً بدعوى أنهم يريدون الإصلاح ألا ساء ما يحكمون ويقدرون ويقولون «إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين» (الأعراف ١٥٥).
ثم إن لين الجانب، ولطافة الفعل، والأخذ بالسهل هو الرفق، وأولى الناس حرصاً على الرفق كسباً للقلوب هم الدعاة، وفي الحديث: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه) (مسلم/ برقم: ٢٥٩٤)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله) (البخاري ١٠/٤٤٩)، ويدخل في عموم الرفق صور تجد العنف بادياً فيها، منها الفظاظة والغلظة في التعامل مع المدعو من الناس، بإكفهرار الوجه، وتقطيب الجبين، وتخشين القول.. والناس لا تصبر على معاشرة أولئك، وإن كثرت فضائلهم، ورجيت فواضلهم، بل يتفرقون ويذهبون ولنا في سيدنا القدوة رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتداء، ففي قصة الأعرابي الذي بال في المسجد جهلاً منه، فنهره أصحابه، فنهاهم النبي صلي الله عليه وسلم عنه، فلما قضى بوله دعاه وقال له: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن) (مسلم ١/٣٨٢)، قال النووي رحمه الله تعالى: (وفيه الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف ولا ايذاء) أ.ه (شرح مسلم ٣/١٩١).
ومنها التشديد على المدعوين مع ظهور المشقة بوضع العزائم في محال الرخص، كمن قتلوا صاحب الشجة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم لمن يرفق بأمته ويرحمها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم من رفق بأمتي فأرفق به، ومن شق عليهم فشق عليه) (أحمد، وصله في مسلم: برقم ١٨٨٢)، وفي الحديث: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) (أبوداود والترمذي)، وفي الصحيحين: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء).
ومن أمثلة مخالفة الرفق بالمدعوين مسألة الفتوى بخلاف ما عليه العمل في البلد، فقد كان من دأب السلف الصالح أن لا يخرج الشخص عن الفتوى التي يسير عليها أهل البلد الذي يدعو فيه إلى الله، وبخاصة إذا كانت تلك الفتوى مؤيدة من قبل الحاكم، أو صدرت بموجبها أمور لها ارتباط بحياة الناس، ومن الغالب على مثل هذه الفتاوى أن تكون مراعية لحال المجتمع من جوانبه السياسية والاجتماعية والدينية، فمما يسبب المشقة على المدعوين أن يكون الداعي إلى الله منفرداً برأيه عن رأي العلماء فيأتي برأي مخالف لعمل البلد فيغلب على رأيه الشدة والنظرة الفردية فهذه من المشقة التي ينبغي أن يحذر منها الداعي إلى الله.
فكونوا أيها الدعاة ميسرين غير معسرين، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا) (البخاري ١/١٦٣) و(مسلم ٣/١٣٥٩).
فلئن كنت أيها الداعية تملك ناصية البيان وزمام الحجة فإن أزمة القلوب بين يدي علام الغيوب والنفوس لها حظوظ ورغبات والشيطان ينزع وليس كل أحد قادر على طرح حظوظ نفسه ودفع نزعات الشيطان، وللفهم في الاستيعاب حظه في التفاوت بين المتلقين، فعليك إذن أن تهتم بما يعين على تحقيق الاستجابة ويبعث في النفوس القبول من خلال العناية بمفاتيح القلوب، فعليك مراعاة أحوال المدعويين والفروق الفردية بينهم ومداركهم وبيئاتهم وعاداتهم وطرائق تفكيرهم، والاجتهاد في أن يكون الخطاب في غاية الحسن كما قال تعالى: «وقولوا للناس حسناً» (البقرة ٨٣)، والناصح الحصيف يبتعد عن ما يصد من قبول الحق من لفظ أو فعل أو إشارة أو انفعال، والحرص على إعطاء انطباع ايجابي لدى المتلقي بالابتسامة الصادقة التي تختصر المسافات (وتبسمك في وجه أخيك صدقة) (الترمذي ١٩٥٦)، وإفشاء السلام، والرفق واللين والتؤدة والحلم والأناة والرزانة واحترام عقول المتلقين ومراعاة مشاعرهم، وأخيراً توقير أهل العلم ومحبتهم وإجلالهم وعدم التوهين من أقوالهم وتوجيهاتهم.
* وكيل وزارة الشؤون الإسلامية لشؤون المساجد والدعوة والإرشاد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..