مضى على «الكارثة» 57 عاماً وبقيت ذكرى سيئة لجيل لم يعرف المستحيل
آثار السيول اجتاحت عددا من قرى وهجر المملكة قبل أكثر من خمسين عاماً
تبقى سنة 1376ه رغم مضي قرابة (57) عاماً
إحدى السنوات التي ظلت وستظل زمناً طويلاً محفورة بذاكرة النجديين الذين
عاشوا أحداثها بكل مرارة، أو نُقلت لهم بكافة تفاصيلها، وتحديداً عندما
انحل وكاء السماء وغمرهم الطوفان (طوفان نجد الكبير) على مدى (58) يوماً تواصل هطول المطر ليل نهار؛ فحاصرتهم الأودية، وتجاوز السيل أعتاب المباني فانهار أكثر البيوت والمساجد والمتاجر على كل ما فيها من أنفس ومتاع، وأغلبها إن لم يكن جميعها من الطين؛ فغادر الناس بيوتهم في المدن والقرى هرباً إلى الاماكن المرتفعة، ولجأوا إلى ما تبقى عندهم من بسط وزوال رفعوها فوق أغصان الشجر للاحتماء تحتها من زخات المطر المباشر.
استمر هطول الأمطار «ليل نهار» على مدى 58 يوماً وانهارت أكثر البيوت والمساجد والمتاجر
توثيق تاريخي
عُرفت هذه السنة ب"سنة الهدام" أو "الغرقة"، وشملت بعض مناطق الجزيرة بمعدلات متفاوتة، إلاّ أن الضرر الأكثر تركز على القصيم وسدير، وكانت بريدة وما جاورها من مدن وقرى هي المتضرر الأكبر، وكان ضمن من كان موجوداً في قلب الحدث في بريدة فضيلة الشيخ "إبراهيم بن عبيد العبدالمحسن" -رحمه الله- الذي رصد هول الحادثة وما جرى بها ضمن كتابه (حوادث الزمان)، وقال عن بعض تفاصيلها:
لما كان في 12/5 /1376ه ( في أول المربعانية) من هذه السنة هطلت أمطار على القصيم واستمرت طيلة ذلك اليوم ومن الغد وبعد الغد وهكذا خمسة أيام لم يتوقف نزول الماء؛ حتى (انماعت) رؤوس الحيطان وجعلت تنهار من كثرة نزول مياه الأمطار.
ومضى على الأمة خمسة أيام متوالية والأهالي في القصيم ينتظرون بفارغ الصبر أن يمسك الله السماء عنهم، وبما أن بريدة وضواحيها لا تزال مهددة من خطر السيول؛ نتيجة (120) ساعة لم تتوقف الديمة عنها، وكانت سائر القصيم كذلك، غير أن شدة وقعه كانت على بريدة وضواحيها كان مما يعجب له خوف أوقعه الله في القلوب من سكنى البيوت، حيث كانوا يتوقعون أنها ستنطبق عليهم، وفي يوم الأربعاء 17 جمادى الأولى هطلت أمطار وسيول زيادة عما هم فيه من الديمة المتواصلة؛ فتعطلت الدراسة منذ ذلك اليوم ولم يستطع البشر الجلوس داخل المنازل؛ لشدة خرير السقوف، ولما كان في 18 /5 خرجت الأمة إلى البراري خوفاً من سقوط البيوت، وأصبحوا مهددين بالأخطار، هذا ولا تزال السماء منطلقة الوكاء تصب المياه صباً، وكان قد أنخاط الجو وأظلمت الدنيا لفقدهم ضياء الشمس، وكان القوي من يملك بساطاً يرفعه بأعواد فيجلس وعائلته تحته!.
الشيخ «العبدالمحسن» وثّق أحداث القصيم لحظة فرار الأهالي من منازلهم واللجوء إلى الجبال والشجر
وفي ليلة 19 ليلة الجمعة أقبلت سحب متراكمة وجعل البرق يخرج من خلالها زيادة على ما هم فيه وقعقعت الصواعق ولمعت البروق وجعلت البيوت تتساقط يسمع لها دوي عظيم كصوت المدافع، ولما أن اشتدت الضربة ووقعت الكربة وضاقت الحيلة فتح المسلمون أبواب البيوت وفروا هاربين إلى الصحراء لا يلوي أحد على أحد، وذهلوا أموالهم ونسوا أولادهم وهنالك لا ترى أحداً يلتفت إلى أحد، وعجّت الخليقة إلى ربها وفاطرها فلا تسمع بإذن من الصراخ والبكاء والضجة، واختلط الحابل بالنابل، وقام ضعفاء الناس متشوشين فصعدوا إلى رؤوس المنائر وجعلوا يكبرون وينادون بالأذان في منتصف الليل، وسمعت ضجة عظيمة للخلائق هذا يؤذن وذاك يصرخ والآخر يئن ويصيح من البلل وشدة البرد، ونزلوا في الفضاء والتجؤوا إلى شجر الأثل الذي لا يغني عنهم شيئاً يهطل عليهم الماء من فوقهم ويفيض من تحتهم، والقليل منهم التجؤوا إلى ظل خيام صارت أشبه شيء بزرائب الحيوانات من كثرة من ينطوي تحت سقوفها، وكنت لما ذهبت إلى مسجدي لصلاة الفجر وجدت القوم صفوفاً في رحبة المسجد تهطل الأمطار عليهم فلما استفهمت منهم أجابوا بأن العوائل من النساء والأطفال في الخلوة، والمصابيح لا تغني شيئاً من الخرير، ولما خرجت الأمة إلى الصحاري افترشوا الغبراء فكان غالبهم الأرض فراشهم والسماء غطاؤهم بعد التقلب على الأرائك الأثيرة، وأصبحوا جياعاً بعد التلذذ بصنوف المأكولات، وأصبحت منازلهم أطلالاً بعدما كانت قصوراً شامخة، وانقطعت بهم السبل فلا السيارات تصلهم ولا الطائرات تهبط عليهم، هذا وقد تهدمت مساكنهم على أموالهم وأثاثهم وأرزاقهم، وأصبحوا معدمين إلاّ من رحمة الله، ثم عطف حكومتهم وبني جنسهم ممن لم يصابوا بمثل مصيبتهم.
جريان الأودية والشعاب استمر أكثر من شهرين في «سنة الهدام»
مواطنون يساهمون في تصريف السيول إلى مجاري الأودية
استمرار هطول الأمطار
واستمر هطول الأمطار إلى يوم 27/ 5، ثم أعقب ذلك ظل وغيوم، وما كان الناس يستطيعون دخول البيوت إلاّ لأخذ الطعام ثم يعودون، وهجرت البيوت والمساكن وظلت خاوية على عروشها، وحاول البريد الجوي الهبوط في مطار بريدة فلم يستطع إلى ذلك سبيلا وانقطع البريد، وبعثت الحكومة بعض الخيام والمأكولات إلى المنكوبين في غرة جمادى الثانية، واستمرت السحب متلاحمة قد أنخاط الجو كقطعة من حديد ويتوقف المطر ثم يعود.
واستمر المطر والظل إلى 18/ 6 ولما كان في 21/ 6 الموافق ليوم الثلاثاء اشتد البرْد وتراكم السحاب ثم نزل في غده جليد وبرْد لم يعهد مثله ثم في 4/ 7، وتراكمت الغيوم وهطلت أمطار واشتد البرْد ثلاثة أيام، فشهران سوى يومين لم تر الشمس فيها.
قوة السيول أجبرت الأهالي على الفرار من منازلهم إلى الجبال المحيطة
وتقدر البيوت التي سقطت من هذه السيول في بريدة نفسها بثلاثة آلاف بيت، وجرى وادي الرمة وكان جرياً عظيماً، وكان لا يجري إلاّ إذا عظم هطول الأمطار، كما أن الوادي الذي كان مجراه في قلب الخبيب جرى ومنع الداخلات والخارجات من السيارات.
وقد كثر نزول الأمطار في سائر الجهات، وكانت غالب مدن القصيم قد نُكبت بخسائر من هذه السيول كعنيزة والرس والبكيرية وغيرها، كما هطلت أمطار على الزلفي من تاريخ نزول الأمطار على القصيم 12/ 5 إلى تاريخ 2/ 6 فنتج عنها ما لم ير مثله منذ عشرات السنين من أضرار بالغة في المباني والأموال، فقد انهار كثير من البيوت والدكاكين وغيرهما.
كما هطل في يوم الأحد الموافق 28/ 5 صيبٌ من الأمطار على الغاط وضواحيها سالت على إثر ذلك جميع الأودية، وقبله في 14/ 5 استمرت الأمطار لمدة ثمانية أيام وحصلت بعض الأضرار على المزارع والسدود، أما البيوت فقد خرج الكثير من أهالي البلدة عن مساكنهم نظراً لما حصل من سقوط الكثير من المنازل، وبعثت الحكومة من الخيام والطعام لمنكوبي السيول الذين أصبحوا بلا مأوى ولا طعام، كما بعثت لجنة لتقويم الخسائر التي نجمت عن تلك الكوارث.
«سنة الهدام» في الكويت عام 1353ه تكررت في بعض مناطق وقرى المملكة عام 1376ه
منزل يقبر أسرة
وعاشت الأسياح -التي يصب بها أكثر من ثلاثة عشر وادياً، بالإضافة إلى وادي الرمة العملاق- أيام هطول المطر ال (58) فيها، وإن كان أغلبهم ممن يمتلكون بيوت شعر خرجوا بها إلى البراري في الأيام الأولى، إلا أن الآخرين حاصرتهم السيول وقطعت إمدادات الغذاء لصعوبة الوصول اليها، وتهاوت كثير من البيوت على من فيها، ويتذكر كبار السن ما حصل لامرأة تسكن مع ابنتها في إحدى القرى الجنوبية داخل غرفة من الطين غمرتها السيول وسقطت ليلاً على المرأتين ولم يتمكن المنقذون من الوصول إليهن إلاّ بعد بضعة أيام.
وفي عين "ابن فهيد" سقطت غرفة على أسرة من سبعة أفراد، وكان من بينهم عروس لم يمض على زواجها سوى أيام قليلة بعدما أنقذت القدرة الإلهية زوجها الذي جاء إلى المنزل بعد صلاة العشاء ليبات مع عروسته كالعادة في الروشن المخصص لهم (غرفة علوية)، حيث كان من العادات آنذك أن تبقى العروس في منزل أهلها، ويتردد عليها الزوج في غرفة تخصص لهم في المنزل لفترة من الزمن، وفي تلك الليلة جاء العريس وصعد إلى الروشن، ثم طلب عروسته فترجته والدتها أن يسمح لها للمبيت معها هذه الليلة ويبات هو في الروشن أعلى الغرفة فحقق لها رغبتها، إلاّ انه ترك المنزل وعاد ليبات في منزل أسرته، وفي منتصف الليل سقط الروشن على الغرفة التي يبات فيها أفراد الأسرة السبعة وماتوا جميعا -رحمهم الله-.
سنة هدامة الكويت
وفي سنة 1353ه هطلت أمطار غزيرة على أجزاء من الصمان والدبدبة والمناطق الحدودية مع دولة الكويت، وتضررت الكويت العاصمة بشكل كبير بعد أن بلغت كمية المطر في الساعة والنصف الساعة الأولى 300 مللتر، وهو رقم قياسي لم يسبق أن حدث في الكويت، واصطلح الكويتيون على تسمية سنتهم تلك بسنة (هدامة) بعدما تهدمت مئات المنازل وشرد الآلاف الذين فتحت أمامهم المساجد والمدارس كدور إيواء، ونزل كثير من الكويتيين بمساعدة من سيارات شركة النفط كمتطوعين لنزح المياه من الشوارع.
وتناول وصف الحادثة بعض شعراء الكويت الكبار ومنهم الشاعر "محمد الصابري" في قصيدة تقريرية على وزن المربوع وثّق من خلالها صفة وحجم الكارثة، وذكر ضمن ما ذكر أن السيل داهمهم ليلاً على حين غرة في شهر رمضان المبارك؛ فكان المنقذ لهم بعد الله قيامهم للسحور وخروجهم من المنازل في هذا الوقت، وقال ضمن قصيدة طويلة:
جانا هدام السيسان
اللي كونه ما قد كان
جانا بدخول رمضان
على أول يوم صمناه
لو ما حنا بالسحور
ما بقي منا مرور
قبرنا من غير قبور
كل بيته صار غطاه
مزنةٍ ماها حقوق
جتنا من جبلة تسوق
نوها ما فيه افتوق
وامطرت بامر الاله
امطرت من غير سوق
زلزلت فيها ملوك
واستوت دك ودكوك
ماهقينا بالحياه
شفنا شي ماكد صار
ما حكوا فيه الكبار
سوت بالنفود ابحار
شفنا شي ما شفناه
السكيك الها هدير
من مشى فيها خطير
كن في وادي حمير
اليا صار اليا هي هواه
غبة من كل صوب
يوم هبت بالهبوب
كلن نار بطرق الثوب
ما تصرف بالعباه
واللي بيته بالشعيب
ما حوله ملجاً قريب
كنه في زرق الغبيب
لولا الهوري محدن جاه
الف بيت من الاسلام
كلهم راحو عدام
ما نعد الا الخراب
اللي حدريه واعلاه
البيوت الها طحيح
والورعان كلن يصيح
والحريم الهن فحيح
نايراتٍ للصفاة
زابنين اهل العشاش
كلن زابنهم منحاش
هجوا داهشهم دهاش
شالهم بأول ممشاه
واهل البطي وكيفان
قشهم طب الخيران
واصبحوا مثل الفيران
اللي في رووس النباه
واللي عنده راس مال
اصبح يركض للدلال
جاب خيام وجاب حبال
حطه بالحوش وبناه
والتجار الميسورين
اعذروا من بيت الطين
عقب ما شافوا بالعين
ما يبون الاّ فرقاه
انحل وكاء السماء وغمرهم الطوفان (طوفان نجد الكبير) على مدى (58) يوماً تواصل هطول المطر ليل نهار؛ فحاصرتهم الأودية، وتجاوز السيل أعتاب المباني فانهار أكثر البيوت والمساجد والمتاجر على كل ما فيها من أنفس ومتاع، وأغلبها إن لم يكن جميعها من الطين؛ فغادر الناس بيوتهم في المدن والقرى هرباً إلى الاماكن المرتفعة، ولجأوا إلى ما تبقى عندهم من بسط وزوال رفعوها فوق أغصان الشجر للاحتماء تحتها من زخات المطر المباشر.
استمر هطول الأمطار «ليل نهار» على مدى 58 يوماً وانهارت أكثر البيوت والمساجد والمتاجر
توثيق تاريخي
عُرفت هذه السنة ب"سنة الهدام" أو "الغرقة"، وشملت بعض مناطق الجزيرة بمعدلات متفاوتة، إلاّ أن الضرر الأكثر تركز على القصيم وسدير، وكانت بريدة وما جاورها من مدن وقرى هي المتضرر الأكبر، وكان ضمن من كان موجوداً في قلب الحدث في بريدة فضيلة الشيخ "إبراهيم بن عبيد العبدالمحسن" -رحمه الله- الذي رصد هول الحادثة وما جرى بها ضمن كتابه (حوادث الزمان)، وقال عن بعض تفاصيلها:
لما كان في 12/5 /1376ه ( في أول المربعانية) من هذه السنة هطلت أمطار على القصيم واستمرت طيلة ذلك اليوم ومن الغد وبعد الغد وهكذا خمسة أيام لم يتوقف نزول الماء؛ حتى (انماعت) رؤوس الحيطان وجعلت تنهار من كثرة نزول مياه الأمطار.
ومضى على الأمة خمسة أيام متوالية والأهالي في القصيم ينتظرون بفارغ الصبر أن يمسك الله السماء عنهم، وبما أن بريدة وضواحيها لا تزال مهددة من خطر السيول؛ نتيجة (120) ساعة لم تتوقف الديمة عنها، وكانت سائر القصيم كذلك، غير أن شدة وقعه كانت على بريدة وضواحيها كان مما يعجب له خوف أوقعه الله في القلوب من سكنى البيوت، حيث كانوا يتوقعون أنها ستنطبق عليهم، وفي يوم الأربعاء 17 جمادى الأولى هطلت أمطار وسيول زيادة عما هم فيه من الديمة المتواصلة؛ فتعطلت الدراسة منذ ذلك اليوم ولم يستطع البشر الجلوس داخل المنازل؛ لشدة خرير السقوف، ولما كان في 18 /5 خرجت الأمة إلى البراري خوفاً من سقوط البيوت، وأصبحوا مهددين بالأخطار، هذا ولا تزال السماء منطلقة الوكاء تصب المياه صباً، وكان قد أنخاط الجو وأظلمت الدنيا لفقدهم ضياء الشمس، وكان القوي من يملك بساطاً يرفعه بأعواد فيجلس وعائلته تحته!.
الشيخ «العبدالمحسن» وثّق أحداث القصيم لحظة فرار الأهالي من منازلهم واللجوء إلى الجبال والشجر
وفي ليلة 19 ليلة الجمعة أقبلت سحب متراكمة وجعل البرق يخرج من خلالها زيادة على ما هم فيه وقعقعت الصواعق ولمعت البروق وجعلت البيوت تتساقط يسمع لها دوي عظيم كصوت المدافع، ولما أن اشتدت الضربة ووقعت الكربة وضاقت الحيلة فتح المسلمون أبواب البيوت وفروا هاربين إلى الصحراء لا يلوي أحد على أحد، وذهلوا أموالهم ونسوا أولادهم وهنالك لا ترى أحداً يلتفت إلى أحد، وعجّت الخليقة إلى ربها وفاطرها فلا تسمع بإذن من الصراخ والبكاء والضجة، واختلط الحابل بالنابل، وقام ضعفاء الناس متشوشين فصعدوا إلى رؤوس المنائر وجعلوا يكبرون وينادون بالأذان في منتصف الليل، وسمعت ضجة عظيمة للخلائق هذا يؤذن وذاك يصرخ والآخر يئن ويصيح من البلل وشدة البرد، ونزلوا في الفضاء والتجؤوا إلى شجر الأثل الذي لا يغني عنهم شيئاً يهطل عليهم الماء من فوقهم ويفيض من تحتهم، والقليل منهم التجؤوا إلى ظل خيام صارت أشبه شيء بزرائب الحيوانات من كثرة من ينطوي تحت سقوفها، وكنت لما ذهبت إلى مسجدي لصلاة الفجر وجدت القوم صفوفاً في رحبة المسجد تهطل الأمطار عليهم فلما استفهمت منهم أجابوا بأن العوائل من النساء والأطفال في الخلوة، والمصابيح لا تغني شيئاً من الخرير، ولما خرجت الأمة إلى الصحاري افترشوا الغبراء فكان غالبهم الأرض فراشهم والسماء غطاؤهم بعد التقلب على الأرائك الأثيرة، وأصبحوا جياعاً بعد التلذذ بصنوف المأكولات، وأصبحت منازلهم أطلالاً بعدما كانت قصوراً شامخة، وانقطعت بهم السبل فلا السيارات تصلهم ولا الطائرات تهبط عليهم، هذا وقد تهدمت مساكنهم على أموالهم وأثاثهم وأرزاقهم، وأصبحوا معدمين إلاّ من رحمة الله، ثم عطف حكومتهم وبني جنسهم ممن لم يصابوا بمثل مصيبتهم.
جريان الأودية والشعاب استمر أكثر من شهرين في «سنة الهدام»
مواطنون يساهمون في تصريف السيول إلى مجاري الأودية
استمرار هطول الأمطار
واستمر هطول الأمطار إلى يوم 27/ 5، ثم أعقب ذلك ظل وغيوم، وما كان الناس يستطيعون دخول البيوت إلاّ لأخذ الطعام ثم يعودون، وهجرت البيوت والمساكن وظلت خاوية على عروشها، وحاول البريد الجوي الهبوط في مطار بريدة فلم يستطع إلى ذلك سبيلا وانقطع البريد، وبعثت الحكومة بعض الخيام والمأكولات إلى المنكوبين في غرة جمادى الثانية، واستمرت السحب متلاحمة قد أنخاط الجو كقطعة من حديد ويتوقف المطر ثم يعود.
واستمر المطر والظل إلى 18/ 6 ولما كان في 21/ 6 الموافق ليوم الثلاثاء اشتد البرْد وتراكم السحاب ثم نزل في غده جليد وبرْد لم يعهد مثله ثم في 4/ 7، وتراكمت الغيوم وهطلت أمطار واشتد البرْد ثلاثة أيام، فشهران سوى يومين لم تر الشمس فيها.
قوة السيول أجبرت الأهالي على الفرار من منازلهم إلى الجبال المحيطة
وتقدر البيوت التي سقطت من هذه السيول في بريدة نفسها بثلاثة آلاف بيت، وجرى وادي الرمة وكان جرياً عظيماً، وكان لا يجري إلاّ إذا عظم هطول الأمطار، كما أن الوادي الذي كان مجراه في قلب الخبيب جرى ومنع الداخلات والخارجات من السيارات.
وقد كثر نزول الأمطار في سائر الجهات، وكانت غالب مدن القصيم قد نُكبت بخسائر من هذه السيول كعنيزة والرس والبكيرية وغيرها، كما هطلت أمطار على الزلفي من تاريخ نزول الأمطار على القصيم 12/ 5 إلى تاريخ 2/ 6 فنتج عنها ما لم ير مثله منذ عشرات السنين من أضرار بالغة في المباني والأموال، فقد انهار كثير من البيوت والدكاكين وغيرهما.
كما هطل في يوم الأحد الموافق 28/ 5 صيبٌ من الأمطار على الغاط وضواحيها سالت على إثر ذلك جميع الأودية، وقبله في 14/ 5 استمرت الأمطار لمدة ثمانية أيام وحصلت بعض الأضرار على المزارع والسدود، أما البيوت فقد خرج الكثير من أهالي البلدة عن مساكنهم نظراً لما حصل من سقوط الكثير من المنازل، وبعثت الحكومة من الخيام والطعام لمنكوبي السيول الذين أصبحوا بلا مأوى ولا طعام، كما بعثت لجنة لتقويم الخسائر التي نجمت عن تلك الكوارث.
«سنة الهدام» في الكويت عام 1353ه تكررت في بعض مناطق وقرى المملكة عام 1376ه
منزل يقبر أسرة
وعاشت الأسياح -التي يصب بها أكثر من ثلاثة عشر وادياً، بالإضافة إلى وادي الرمة العملاق- أيام هطول المطر ال (58) فيها، وإن كان أغلبهم ممن يمتلكون بيوت شعر خرجوا بها إلى البراري في الأيام الأولى، إلا أن الآخرين حاصرتهم السيول وقطعت إمدادات الغذاء لصعوبة الوصول اليها، وتهاوت كثير من البيوت على من فيها، ويتذكر كبار السن ما حصل لامرأة تسكن مع ابنتها في إحدى القرى الجنوبية داخل غرفة من الطين غمرتها السيول وسقطت ليلاً على المرأتين ولم يتمكن المنقذون من الوصول إليهن إلاّ بعد بضعة أيام.
وفي عين "ابن فهيد" سقطت غرفة على أسرة من سبعة أفراد، وكان من بينهم عروس لم يمض على زواجها سوى أيام قليلة بعدما أنقذت القدرة الإلهية زوجها الذي جاء إلى المنزل بعد صلاة العشاء ليبات مع عروسته كالعادة في الروشن المخصص لهم (غرفة علوية)، حيث كان من العادات آنذك أن تبقى العروس في منزل أهلها، ويتردد عليها الزوج في غرفة تخصص لهم في المنزل لفترة من الزمن، وفي تلك الليلة جاء العريس وصعد إلى الروشن، ثم طلب عروسته فترجته والدتها أن يسمح لها للمبيت معها هذه الليلة ويبات هو في الروشن أعلى الغرفة فحقق لها رغبتها، إلاّ انه ترك المنزل وعاد ليبات في منزل أسرته، وفي منتصف الليل سقط الروشن على الغرفة التي يبات فيها أفراد الأسرة السبعة وماتوا جميعا -رحمهم الله-.
سنة هدامة الكويت
وفي سنة 1353ه هطلت أمطار غزيرة على أجزاء من الصمان والدبدبة والمناطق الحدودية مع دولة الكويت، وتضررت الكويت العاصمة بشكل كبير بعد أن بلغت كمية المطر في الساعة والنصف الساعة الأولى 300 مللتر، وهو رقم قياسي لم يسبق أن حدث في الكويت، واصطلح الكويتيون على تسمية سنتهم تلك بسنة (هدامة) بعدما تهدمت مئات المنازل وشرد الآلاف الذين فتحت أمامهم المساجد والمدارس كدور إيواء، ونزل كثير من الكويتيين بمساعدة من سيارات شركة النفط كمتطوعين لنزح المياه من الشوارع.
وتناول وصف الحادثة بعض شعراء الكويت الكبار ومنهم الشاعر "محمد الصابري" في قصيدة تقريرية على وزن المربوع وثّق من خلالها صفة وحجم الكارثة، وذكر ضمن ما ذكر أن السيل داهمهم ليلاً على حين غرة في شهر رمضان المبارك؛ فكان المنقذ لهم بعد الله قيامهم للسحور وخروجهم من المنازل في هذا الوقت، وقال ضمن قصيدة طويلة:
جانا هدام السيسان
اللي كونه ما قد كان
جانا بدخول رمضان
على أول يوم صمناه
لو ما حنا بالسحور
ما بقي منا مرور
قبرنا من غير قبور
كل بيته صار غطاه
مزنةٍ ماها حقوق
جتنا من جبلة تسوق
نوها ما فيه افتوق
وامطرت بامر الاله
امطرت من غير سوق
زلزلت فيها ملوك
واستوت دك ودكوك
ماهقينا بالحياه
شفنا شي ماكد صار
ما حكوا فيه الكبار
سوت بالنفود ابحار
شفنا شي ما شفناه
السكيك الها هدير
من مشى فيها خطير
كن في وادي حمير
اليا صار اليا هي هواه
غبة من كل صوب
يوم هبت بالهبوب
كلن نار بطرق الثوب
ما تصرف بالعباه
واللي بيته بالشعيب
ما حوله ملجاً قريب
كنه في زرق الغبيب
لولا الهوري محدن جاه
الف بيت من الاسلام
كلهم راحو عدام
ما نعد الا الخراب
اللي حدريه واعلاه
البيوت الها طحيح
والورعان كلن يصيح
والحريم الهن فحيح
نايراتٍ للصفاة
زابنين اهل العشاش
كلن زابنهم منحاش
هجوا داهشهم دهاش
شالهم بأول ممشاه
واهل البطي وكيفان
قشهم طب الخيران
واصبحوا مثل الفيران
اللي في رووس النباه
واللي عنده راس مال
اصبح يركض للدلال
جاب خيام وجاب حبال
حطه بالحوش وبناه
والتجار الميسورين
اعذروا من بيت الطين
عقب ما شافوا بالعين
ما يبون الاّ فرقاه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..