الخميس، 15 مارس 2012

قراءة في كتيب المجالس القضائية

محمد بن سعود الجذلاني*

جاء هذا الكتيب ،كما قال كاتبه، شهادةَ حق وقراءة لمرحلة قضاها الشيخ الدرويش قاضياً في القطيف ، وقد جمع الأديب الدكتور المسعود في كتابه بين الابتعاد عن التهمة وإساءة الظن ، والشجاعة في قول الحق والتعبير عن رأي الصدق الذي يراه سعدتُ بالمشاركة في اللقاء الرابع للخطاب الثقافي السعودي تحت عنوان
"الإصلاح والتطوير " على مدى يومين متواصلين في شهر محرم الماضي. وكان من الإضافات القيّمة التي خرجتُ بها من ذلك اللقاء ، التواصل والتعارف مع عدد من الفضلاء ذوي الفكر والعلم والثقافة من أبناء وطني المعطاء.
فقد كان إلى جواري اثنان من الأفاضل ؛ عن يميني الشيخ د.محمد الدحيّم الذي أشرفُ بمشابهته في عمله سابقاً في القضاء وحالياً في المحاماة ، وأرجو أن أشبهه في فضله وعلمه وخلقه العالي.
وإلى يساري أخي الأديب المثقف الشيعي د. محمد المسعود المعروف بمواقفه المؤكدة على الوحدة الوطنية والنابذة لأي عنصرية وتطرف مذهبيّ طائفي.
وقد أتحفني الدكتور المسعود بكتيب لطيف من تأليفه مكتنز بالأدب والصدق والوفاء بعنوان (المجالس القضائية لفضيلة الشيخ صالح الدرويش)، وقد وصف الكاتب كتابه بقوله : "إن هذه الصفحات ليست بكتاب سيرة ولا ترجمة للعلامة الشيخ صالح الدرويش.. وإنما هو (قراءة) لمرحلة ٍ من تلك السيرة المترامية الأبعاد ".
والشيخ الدرويش تولى القضاء في محافظة القطيف مدة 13 سنة رئيساً للمحكمة المستعجلة.
وحين طالعت ُ الكتاب ألفيتُه إشراقة روح نقيّة يحملها الدكتور المسعود بين جنبيه ، تحررت من الغلّ والحقد ، وانطلقت نحو آفاق الحب والوفاء ، وكان لها من قول الله تعالى (وإذا قلتم فاعدلوا) أوفر الحظّ والنصيب.
يأتي هذا الكتيب بما حواه من صدق مشاعر ٍ ، شاهدَ حبّ ، يدعو للألفة والوئام ، وينبذ الفرقة والانقسام ، ويُشكّل صوتاً عاقلاً وطنياً صادقاً يمكن به وبأمثاله التغلب على الفتن ، وتغليب صوت الحكمة والمحبة على أصوات دعاة الكراهية.
ولما يحمله هذا الكتيب من دلالات خيّرة كثيرة لم أتمالك تجاوزه دون إشادة وتنويه ومشاركة للقراء الكرام في هذا الجمال والخير الذي حواه.
فهو كما قلت مشاعر حب وكما يقول كاتبه (شهادة َ حق يجب ُ أن تؤدى) لم تقف عند دلالة كونها خرجت من أديب مثقف شيعي إلى قاض وفقيه سني ، في هذه المرحلة التي تعلو فيها أحياناً أصواتٌ متشددة داعية للفتنة مؤججة للعصبية، ومعاديةٌ للسلم والتعايش بين الطائفتين من أبناء الوطن الواحد ، بل تجاوز الكتاب هذه الدلالة ليكون أيضاً بما يمثله طرفاه (المثقف والعالم الشرعي) لفتة مشرقة في ظل ما يحدث من تنابذ وتنافر بين المثقفين وعلماء الدين ، وهو ما يتكرر في أكثر من مناسبة وبأكثر من صورة.
ولما حمله الكتيب من مضامين مليئة صدقاً وطُهراً وعفة َ لسان وقلم ، وتحرراً من رقّ الإيديولوجيات التي أعمت أبصار الكثيرين وبصائرهم عن رؤية الحق أو الشهادة بالعدل للآخرين ، فلم تدع لهم إلا الجوانب المظلمة في كل شيء في الحياة يرمقونها بأبصارهم ، ويصدرون عنها بأفكارهم. ولكثرة ما ورد فيه من لطائف وإشارات ذات دلائل عميقة ، آثرتٌ استعراضها حسب ما يتيسر لي ، فمن هذه اللطائف :
أولاً : جاء هذا الكتيب ،كما قال كاتبه، شهادةَ حق وقراءة لمرحلة قضاها الشيخ الدرويش قاضياً في القطيف ، وقد جمع الأديب الدكتور المسعود في كتابه بين الابتعاد عن التهمة وإساءة الظن ، والشجاعة في قول الحق والتعبير عن رأي الصدق الذي يراه ، فلم يكتب كتابه إلا بعد انتقال الشيخ عن قضاء القطيف حتى لا يساء به الظن في ثنائه على قاضي بلده. وفي نفس الوقت يؤكد الكاتب أنه سيواجه العنت واللوم من آخرين سينتقدونه على ما شهد به وأثنى على الشيخ الدرويش. فقال عن الابتعاد عن التهمة : " إني قد حال بيني وبين ما أشتهي من الكتابة عنه فيما مضى من زمن متقارب ، تدانيه مني في توليه القضاء ، وإن الثناء على قاض علانية قد يُساء الظن بالقائل ، وقد يفتح باب المرجفين في المدائن بالغمز واللمز ، وقد يُسقط هذا الصدق فيما يقال.. لذا تريثتُ متباعداً عن مظان التهمة بالنفع ، وما تدانى إليها بوجه من الوجوه ، حتى تباعد المكان، وتقطعت أسباب سوء الظن بتمامها وجميعها ، فرجعت ُ إلى الرجل أوفيه حقّه حديثاً وتأملاً في معانيه ، وإظهاراً لمواقفه..".
ثم قال عن توقع مواجهة المعارضة والعنت " وأعلم أن الكاتب سيواجه العنت ممن فقد براءته في الحكم على كل شيء ، والحكم على كل إنسان ، والحكم على كل فعل وفكرة ورأي ، فكل امرئ يفهم الأمور حسب مستوى عقله.. "
ثم بيّن موقف الكاتب والمفكر من مثل هذه المعارضات فقال : " وأحسب أن المفكر والكاتب يجني على نفسه إن انصاع إلى ذوق الناس وفكرهم ، حيث يُرسّخ هذا دوائر الخوف المتصلة.."
ثانياً : من جميل ما حفل به الكتاب أن الكاتب لم يغفل عن الإشارة إلى ما تضمنه كتيبه من دلالة في الوقت الذي صدر فيه وما يشهده من توتر طائفي مذموم منبوذ من كل عاقل ، ومؤكداً أن أسباب هذا التوتر إنما هي سياسية لا دينية ، وهو ما يعني أن من يسعون لتأجيج نار الفتنة الطائفية واللعب بنارها إنما تحركهم أهداف سياسة لا تتورع أن تجعل الناس حطاماً وحطباً في نارها لتحقيق مصالحها ، فيقول الأديب المسعود عن ذلك : " إن كتابي هذا في هذا الوقت بالذات ، لم يكن مصادفة محضة ، ولا مجرداً من اختيار متعمد من الكاتب ، حيث تُسرع بنا السياسة إلى منقلب الطائفية العمياء ، وتجر الكثير من القلوب والأرواح البريئة إلى هذا المنقلب ، تلك الكراهية السوداء التي يتقاسمها الجميع من ضحاياها في العراق وباكستان..".
ثالثاً : في أسلوب أدبي رائق ، ممزوج بفقه وعمق في قراءة النص الشرعي ، استطر د الكاتب في التفريق بين المدح المذموم للأشخاص ، المنهي عنه شرعاً ، وبين الثناءِ بالخير على المحسنين وأصحاب الفضائل ، فكان مما قاله :
" حسان بن ثابت.. يغوص سابراً في العمق ، راجعاً من تلك الأعماق البعيدة في صفات وجمال الأسوة الحسنة ، شعراً يسكبه بين يدي محمد بن عبدالله صلوات الله وسلامه عليه. ولم ينْه رسول الله صلى الله عليه وسلم حساناً ، ولم يُقيّد الثناء على نبيّ حياً ، بل اعتبر أن مقالة الخير في الصالحين في الحياة الدنيا (أول بشارة المؤمن) بالخير والصلاح له. ثم إن الكتاب الكريم جعل المؤمنين ثالث ثلاثة ينظرون إلى الباقيات الصالحات والأعمال الخيّرة من العبد ، ومن خيّري كل مجتمع (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون).. إلى أن قال : ثم إن الخلف الصالح الذين اتبعوه بإحسان ونصروه ، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه ، الذين رضي الله عنهم.. لم ينكر أحد منهم على استمرار السيرة في الثناء على الخلفاء من بعده ، ولم يرد نهي إلا ذاك النهي المقيد لهذا العام المطلق ، والمباح الجائز المستساغ المعمول به من الخلف عن السلف الصالح ، إلا فيما يورث كِبْر النفس أو التعالي من الممدوح أو القول بغير الحق من المادح أو المبالغة والغلو وغيرها مما ينطبق عليه عناوين " مسؤولية الكلمة " بالمطلق في فقه الإسلام.. وليس المراد بالنهي كسر قلم ِ كاتب في فضيلة أحد من الصالحين المصلحين ، ولا كتمان شهادة حق في شمائله حياً..
ولا ريب أن هذا يتحقق بمفهوم تقديم النموذج والقدوة الحسنة والتكريم لمن هم أهله.. ولا قدوة إلا بخروجها إلى دائرة الضوء والظهور والتجلي.."
ولم ينته بي القول عن جمال ما تضمنه الكتاب ، فللحديث بقية تتبع بإذن الله..
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلتُ وهو رب العرش الكريم سبحانه..
*القاضي السابق في ديوان المظالم
والمحامي حالياً
-  جريدة  الرياض  عدد الاربعاء

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..