في الفترة الأخيرة دأبت بعض وسائل الإعلام على تظهير الحضور السلفي في
لبنان والمنطقة العربية والإسلامية بطريقة توحي للقارئ والمشاهد على حدٍ
سواء بالفزع والخوف والقلق، أو كأن المطلوب هو نشر حالة رعب من هذه الحالة
أو الظاهرة غير المعروفة تماماً من قبل المواطن العادي، كما تسعى هذه
الوسائل الإعلامية على توطين بل تثبيت أن الظاهرة السلفية موجودة ضمن فريق
واحد، وكأنها جزء من تراثه وفكره وسلوكه وهذا صحيح بعض الشيء، ولكن المؤسف
والمقلق هو الطريقة التي يعرضها هذا الإعلام كما يريدها ويرغبها هذا الفريق
السياسي والديني، حيث يتم الحديث عن الحضور السلفي مع تعريف خاصٍ يريده
هذا الإعلام يتضمن عناوين ومفردات تشمل التكفير والتخلف والعودة إلى الوراء
وسوى ذلك من العناوين التي تثير القلق والخوف والتوجس لدى المسلمين أولا
والمسيحيين ثانيا وعموم الأقليات.
ولكن
ما هي السلفية؟ إنه سؤال يطرح نفسه وبقوة هذه الأيام على الساحة الإسلامية
واللبنانية على وجه الخصوص. السلفية معناها الاقتداء بالسلف الصالح. وإذا
اكتفينا بهذا التعريف فإن لكل طائفة سلفها الصالح سواء كانت دينية أو
سياسية، فالقوى السياسية تطلق على سلفها عبارة "الحرس القديم" والطرق
والمذاهب الدينية تحاول الاقتداء بسلفها الصالح من وجهة نظرها، ومن الطبيعي
أنها تستند في عقيدتها وفكرها وسلوكها لمجموعة من العلماء والفقهاء الذين
تعتمدهم مراجع أو مرجعيات فتقتدي بهم وتحذو حذوهم وتتبع نهجهم. ولكن حدث أن
كلمة سلفية أو الحركة السلفية كانت من نصيب الطائفة السنية في العالم
الإسلامي، فكانت الإشارة إلى النهج السلفي أو الأصولي، تعني أن نتجه
مباشرةً إلى الطائفة السنية كمصدر أو منبت أو محضن للفكر السلفي والحضور
السلفي، وتبارى البعض في إدخال مفاهيم ومصطلحات إلى التعريف بالحركة
السلفية كالسلفية العلمية أو الجهادية وسواها.
ولكن
المفارقة هو أن ما هو حاضر وموجود ضمن الطائفة السنية وداخل البنية
الحركية للأحزاب الإسلامية هو نفسه الموجود ضمن تركيبة القوى السياسية
والأحزاب الدينية الشيعية. وكان هناك من أشار إلى ظهور حالات سلفية ضمن
الحركة الدينية الشيعية في منتصف العقد التاسع من القرن الماضي. ثم كتب حول
هذا الموضوع الأستاذ حسن المصطفى فقال معتبراً أن "الانفتاح الإعلامي،
وحرية التعبير التي شاعت عبر الانترنت والفضائيات، وسهولة الاتصالات
الحديثة، وشيوع مفاهيم عن حقوق الإثنيات والأقليات والمذاهب، وبروز نجم
الشيعة سياسيا وفكريا، من خلال الدور المحوري لإيران، وحزب الله في لبنان،
وتسلّم الشيعة سدة الحكم في العراق، كلها عوامل ساعدت بشكل أو بآخر في
ولادة سلفية شيعية". وهذا الكلام جاء خلال رد الكاتب، مهاجماً معارضي السيد
محمد حسين فضل الله، ممن يصدرون في حقه فتاوى التضليل والتفسيق،
بـ"السلفية الشيعية". إذا الحالة التي يطلق عليها سلفية في معرض الترهيب
والتخويف، هي حالة موجودة لدى الطائفة الشيعية أيضا كما يقول هذا الكاتب.
كذلك فإنه يوجد في إيران صراع سياسي في ظاهره وديني في خلفيته بين ما يطلق
عليه تيار الإصلاحيين، وتيار المحافظين.. أو السلفيين إن صح التعبير؟
لذا
تقول مصادر معتدلة أو توصف بالاعتدال ضمن الطائفة الشيعية أن الحالة
السلفية الشيعية بما تحمله من مفردات التكفير والتشدد موجدة فعلياً على
الساحة الشيعية ويشكل حزب الله النموذج الأمثل لها. وتدلل هذه المصادر على
ما تقوله بالإشارة إلى حالة الضغط التي يعيشها المجتمع الشيعي بكافة فئاته
في لبنان من حالة تعبئة دينية متواصلة وضغط وتوجيه وإرشاد ديني يومي يحمل
طابعاً ومنهجاً متشدداً ويؤسس لتغيير في السلوك والعادات الاجتماعية وبعض
المفاهيم الدينية ضمن المجتمع الشيعي. ويقدم هؤلاء العديد من الشواهد على
صحة ما يشيرون إليه من ذلك:
-
مجالس عاشوراء والتي كانت تنتهي مع نهاية اليوم العاشر ظهراً، أصبحت لا
تنتهي إلا بعد نهاية ما أطلق عليه لاحقاً أربعينية الحسين. أي أصبحت هذه
المجالس تمتد إلى ما يقارب الشهرين! مع ما يتضمنه هذا الوقت من خطابات
ولقاءات وشعارات تؤمن التعبئة الدينية والسياسية لمجتمع بأسره؟
-
الاحتفال بذكرى ولادة الأئمة كما بمناسبة وفاتهم، إلى جانب النبي (ص)
وابنته فاطمة (رض) مما يعني أن هناك حوالي 28 مناسبة دينية سنوياً، أي أن
ما معدله كل 13 يوماً هناك احتفال ديني تعبوي، إلى جانب ذكرى عاشوراء التي
تم تعديل وتمديد الاحتفال بها.. وهو ما لم يكن متعارفاً عليه ضمن المجتمع
الشيعي سابقاً.
-
المؤسسات التربوية التي قام حزب الله بتأسيسها والتي تبني جيلاً يلتزم
النهج الحسيني كما يراه ويريده حزب الله، كما يقول البعض وهذا ما يزيد من
عمق الهوة بين مكونات المجتمع اللبناني وحتى بين المسلمين أنفسهم؟
-
إنشاء فضائيات وإطلاق وسائل إعلامية دينية متنوعة بهدف التوعية الدينية
ولكن بشكل يخدم النهج الذي يتبناه هذا الفريق دينياً وسياسياً، بحيث أصبح
الفهم السياسي يلتزم النهج والفكر الديني ويخدم الطموحات السياسية لهذا
الفريق ومرجعيته في إيران.
- التدخل في طريقة إقامة الحفلات والمناسبات في المدن والقرى مما جعل البعض يشعر بحال الضغط على طريقة عيشه وفهمه للحياة الاجتماعية.
-
إعطاء العملية الانتخابية بعداً دينياً عبر ما يطلق عليه التصويت أو عدمه
بناءً على "التكليف الشرعي" مما يعني أن عملية التصويت لم تعد حرة بل أصبحت
موجهة وتحكمها الضوابط الدينية تحت عنوان الشرعية الدينية. وبالتالي لم
يعد هناك من حرية اختيار ولا من فرصة لأي منافس لا يوافق عليه هذا الفريق
تحت سقف المصلحة الدينية والشرعية.. في إيران مثلاً وخلال الانتخابات التي
جرت مؤخراً: "أعلن المرشح محمود نبويان في اجتماع انتخابي غالبية جمهوره من
الطلاب المحافظين، أن شرعية الحكم تأتي من الله وليس من الشعب. وأضاف أن
الديمقراطية لا تناسب إيران بل الحكم اللاهوتي هو المناسب لها، وان مهمة
المواطنين هي مساعدة أولئك الذين اختارتهم العناية الإلهية." لذا من المهم
أن ندرك أن حليف إيران في لبنان هو حزب الله الذي يتبنى المفهوم نفسه
ويعتنق الفكر السياسي عينه؟
القلق
الذي عبرت عنه هذه القيادات الشيعية المعتدلة له ما يبرره، والخوف الذي
يحاول أن يزرعه إعلام حزب الله وحلفائه في أذهان المواطنين اللبنانيين
والعرب قد وصل إلى عمق ساحته نتيجة مواقفه وسعيه لتدجين الساحة اللبنانية
والشيعية على وجه الخصوص بحيث يبعد المواطنين عن مرجعياتهم الدينية
المعتدلة والمنفتحة ويبقيهم أسرى مواقفه المتطرفة، والتحرك الايجابي الأخير
الذي قام به سماحة السيد علي الأمين، والسيد علي فضل الله، والسيد هاني
فحص، وبعض القيادات السياسية المعتدلة، يشكل محاولة جدية لإعادة الاعتبار
للحضور السياسي المنفتح لرموز الطائفة الشيعية، وللمرجعية الدينية الشيعية
العربية التي تلتزم الاعتدال نهجاً، وتحاول أن تنأى بالطائفة الشيعية عن
المواقف السياسية التحريضية التي تجعلها وقوداً لرغبات إيران وأعوانها في
المنطقة تحت شعارات دينية ونتيجة تعبئة وتحريض ديني لا يؤسس سوى لمزيد من
الانقسام والتباعد. وحول هذا الموضوع بالتحديد ذكر عقب اجتماع السيد فضل
بالأمين العام للجماعة الإسلامية في لبنان: "أطلق السيد علي فضل الله خطة
عمل متكاملة من اجل تحصين هذه العلاقات وتقويتها خصوصا في ظل الخوف من
إثارة الفتن المذهبية وتداعيات ما يجري في سوريا من أحداث ووجود خلافات في
مقاربة القوى الإسلامية لهذا الملف". مشكلة البعض انه حين يطلق الشعارات
والمواقف لا يدرك انعكاساتها وخطورة ارتداداتها ونتائج تداعياتها، لذلك فإن
كل تحرك إيجابي هو جهد مشكور ومبارك خاصةً حين يهدف لرأب الصدع وتقريب
وجهات النظر والحد من التباين والانقسام وهذا هو دور القيادات والمرجعيات
الصادقة والملتزمة بالعمل على وحدة الأمة وأبناء الوطن.
حسان القطب
مدير المركز اللبناني للأبحاث والإستشارات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..