الأربعاء، 21 مارس 2012

المقالة الثانية : ثمّ أضاءتْ أنوارُ المجلس الجديد



أطلّ المجلسُ الأعلى للقضاء .. ولقدْ كان من قدرهِ وهو يقبلُ على حياتِه الجديدة أن يخلفَ صالحَه صالحٌ .. و يتسنّم ذروتَه رئيسُ مجلس الشورى .. وإمامُ وخطيب المسجد الحرام .. ونجلُ الرئيس الأسبق عبد الله بن حميد قدس الله روحه .. فأضفى على العملِ رونقَ المشورة واجتماعَ الفكر .. وكساه من رَوْح الحرم ومهابته حُلَلَ الطّهر .. وبعثَ ذكرياتِ والده الكريم .. وكان لعمومِ الناس قبل القضاة والمختصين أمانَ المرجعية والنزاهةِ والتمكين .. صالحٌ وحميد .. تزينُ به المناصب .. وتجملُ بإمضائه الأوراقُ .. وتسعدُ بحضوره الدواوين .. لا تستطيعُ الثناء على عمله إلا بالثناءِ على شركائه .. ولا الإشادةَ بإنجازه إلا في ظلّ إداراتِه .. وتلك أوصافٌ يعزّ وجودُها في العاملين .. لا يُحسنُ أن يعلنَ لك الودّ وهو يضمر الشرّ .. وليس له في المكر وردٌ ولا صدْر .. يعتقد أن وراءَ الدنيا آخرةً تُبلى بها السرائر .. وتُستنطق الضمائر .. وتكون بها السعادةُ للصادقين ..
     وبين الشورى والقضاء كانتْ حكايةُ مسراه العجيبةُ .. فمن قُبّة مستديرةٍ مذهبة الأطرافِ تقبعُ بحرمِ القصورِ الملكية إلى فيلا سكنيةٍ قديمة البنيانِ جيرانُها يكتبون أمامَ أبوابهم (ممنوع الوقوف) حرجاً من إزعاجِ المراجعين .. ومن الهدوءِ التامّ الذي تسمعُ به حفيف تقليب الورق إلى مقابلةِ جمهورٍ موغلٍ في الفقر والأمية والضوضاء تبعثهم الصحاري وزوايا الجبال .. ومن عملٍ مرتبٍ ورتيبٍ يكتفي الرئيس فيه بتوجيه الأعضاء للتصويت إلى ملفاتٍ قديمةٍ تُحتّم عليك أن تُصاب بالربو وخلافاتٍ تبعثُ في نفسك الحُزْن .. وقضايا تشكّل في ذهنك عُقَدا من المُعضلات .. ومن أعضاء مجتمعين بمجلسٍ واحدٍ يُحسنون لُبس المشالح وتبدو على مُحيّاهم نضرةُ النعيم إلى قضاةٍ متفرقين شُعثٍ غُبرٍ .. ثلاثة أرباعهم مرتبطون بأقساطٍ بنكية .. ومن ثمّ فقد كان مشوارُ البدء حكايةٌ من عذاب .. وكان مستقبل الأيام لا يسقي غيرَ السراب .. واشتركَ معالي الرئيسِ مع القضاةِ في همّ هذا العمل ومُنيةِ فراقه .. واحتسبوا أجرَ حفظ مكانةِ القضاء الشرعي .. وتحدّوا كلّ العوائقِ التي تعرِض لهم يوماً بعد يوم .. وكان للمجلسِ في ثلاثةِ أعوام فقط أعمالٌ وإنجازاتٌ هي في عمر الإداراتِ الحكوميةِ أشبه بالمستحيلات .. 
     لقد كان المجلسُ الأعلى للقضاءِ وبكل حق وإنصافٍ وجهَ القضاءِ المشرق .. وجبينَ العدالة الوضّاء .. قام كخليّة نحلٍ في التنظيمِ والترتيبِ والمتابعة .. وتحوّلت الفيلا السكنيةُ التي كان يقطنُها بجوار الجيران الطيبين إلى بناءٍ شامخٍ على طريق العاصمةِ الرئيسي .. وانتقلَ عملُ الفردِ فيه إلى عملِ الجَماعة .. وزادت أعداد القضاة .. وانتظمت ترقيات الاستئناف .. وسعى القائمون عليه إلى ترتيبِ آلية نقلِ القضاة وقد كانتْ همّاً يلازمُ القلوب لا تدري معه أين سيكونُ مبدؤك ولا منتهاك .. واستقرّتْ به مئاتُ أُسر القضاة .. ثم ترتبت طريقة تعيين القضاة الجدد .. وصار لهم فرصة الاختيار .. وهُيئتْ لهم دوراتٌ تأهيليةٌ لمستقبلِ حياتهم الوظيفية .. وقد كانتْ حياتهم قبل ثلاثةِ أعوامٍ فقط تبدأ بورقة قرعة ترمى على طاولة الاجتماعات ( ربما يرميها عضوٌ كفيفٌ ) ويكونُ من شأنِ هذه الورقة أن تقذفَ بك لآخرِ الدنيا .. ثم لا تجدُ لك حتّى من يحدّد موقع المكان على الخارطة .. وكان من شأن اقتراع زملائي فيما أذكرُ :  داود/ بحر ابو سكينة , أحمد / بئر ابن هرماس , عبد الرحمن / أبو راكة , طالب / تثليث , يوسف / يعرى , ماجد / ثار , فهد / ثقيف  في مشروعِ فرقةٍ وشتاتٍ .. لا تدري كيف تطيقه النفوسُ أو تتحمّله الأكْباد ..
     مارس المجلسُ الشفافيةَ على نحوٍ تفوّق فيه على كثيرٍ من الإداراتِ .. وخرجَ رئيسُ المجلس معَ ما يكدّرني كقاضٍ من عباراتِه تلك وتصريحاتِه ليقولَ للناس : هذا نحنُ وفينا مُقصرون وسنعمل ونجتهد وأبوابنا مفتوحة ولن نتهاون في محاسبة المقصر .. ووجدَ القضاةُ في كلماتِه العتبَ .. ووجدَ الناسُ فيها الأمان .. وكانَ ما كان .. ثمّ قامتْ إدارةُ القضايا تبعاً لتصريحاتِ رئيسِ المجلس لتستقبلَ شكاياتِ الناس وتتابعها باهتمامٍ .. وتصرفَ أكثرَها الغثّ ليبينَ السمينُ .. وقَدّمتْ دراسةً عجيبةً تكشفُ أنّ ما نسبته تسعون بالمائة من الشكاياتِ ليس سببُه القضاة .. وانتهضتْ إدارة التفتيش القضائي بدورها الرائد .. تقوّم العملَ وتراقبُ سلامة الأداء .. ولقد بقيتُ سنواتٍ في القضاءِ والله ما زارني غيرُ مفتشٍ وحيدٍ .. وفي الثلاثة الأعوام الأخيرة زارني ثلاثةُ مفتشين في دورياتٍ سنويةٍ منتظمةٍ .. وقدموا تقاريرهم كأجودِ ما تكونُ دقةً وإن اختلفتُ معها في المضْمون .. ثم جعلوا للقاضي فرصةَ النقاش والردّ .. وأثمرتْ تلك السجالاتُ كتاباتٍ قضائيةً فريدةً .. تستحقّ أن تُستخلص منها بحوثٌ ودراسات .. وسعتْ إدارةُ التدريب حثيثاً في العمل على خلقِ الفرص التدريبيةِ للقضاة .. مع عدم تعطيل العمل .. ومراعاة جدّة الأمرِ على القضاة .. وانعقدتْ اجتماعاتُ المجلسِ على نحوٍ منتظم .. وتمّ إنجاز عامة اللوائح التي نصّ عليها النظام .. وبُذلت فيها الجهود .. واجتمعت لها ورشة عملٍ في إثر ورشة .. ورعتْ ذلك كلّه الأمانةُ .. وصرنا نسمعُ تفاصيلَ أعمال المجلس .. وقد كانتْ من السريّة بمكان .. ولم تزلْ تصلنا رسائلُ المجلس بالتهنئة والإعلان في كل مناسبة عامة أو خاصة ..
     لقد أضحى عملُ القضاة تحت الشمس .. وقد مرّت به أيامٌ ضبابية .. و ما ظنّكم بقاضٍ يلتزمُ تحريرَ عمله كتابةً .. ويقفُ الخصمان رقيبين عليه .. ثم يكون من حقهما الاعتراض وتقديم اعتراضهما كتابة لمحكمة الاستئناف التي تراجع وتصحح .. ويكون لهما التظلم أيضا لرئيس المحكمة وبعده لرئيس المجلس .. ثم يقوم مفتشٌ قضائيٌ كلّ عام بزيارته وقراءة ضبوطه بدقه ومناقشته بها .. ولو صحّ في كلّ إدارتنا الحكومية عملٌ رقابيٌ كهذا لاستقامتْ حالُنا وصلُحت .. ولو تضايق بعضُ القضاة الأفاضلِ بشأن ذلك .. فإنّها وسيلةٌ للإنصاف .. وأمارةٌ على الوضوح .. وسيبينُ أثرها النافعُ مع مرورِ الزمان ..
     لقد بذل المجلس فيما أحسبُ جهداً مضاعفا .. و زاد عدد موظفيه إلى ثلاثة أضعاف .. وابتكر هيكلته الإدارية وتشكيله الوظيفي على غير مثال سابق .. ونُوزع في ميزانيته التي نصت عليها المادة الثامنة من نظام القضاء صراحة .. حتى انتزعها انتزاعا .. وحُبس صوتُه إعلامياً حتى صار المنشورُ الذي يُعدّد إنجازات المجلس جرماً إعلامياً يُحاسب عليه الناشر .. وتعلقت مهمّاتٌ من عمله بوعودِ صدور نظامي المرافعات والإجراءات وطال لأجلها الانتظار .. وجدّت أمورٌ وأمورٌ .. واستطاع المجلسُ مسايرتَها باقتدار ..
     وقد كانَ من قدَر المجلس ورئيسِه كما هي سجيةُ القضاة كلِّهم .. أن ينالهمْ شيءٌ من قسوة الإعلام وتأليبِ الأخصام .. غيرَ أن الشمسَ لا تحجبُ بغربال .. ومن نظر بعين الحق والاعتدال وقارن الحاضر بالماضي .. أدرك قدر الجهد وحجم العمل ودعا بالمغفرة للعاملين .. ولأن الذي يعمل هو الذي يخطئ فقد ندّت منهم أخطاءٌ وتجاوزاتٌ هي في عرفِ الإدارات الحكومية ظلامُ ظلّ الساري على درب النور .. والوجهُ الحسنُ هو الذي تبينُ به البثور ..
     ولأن مجلسَ القضاء هو المؤسسة الشرعية القضائية ببلدنا .. وهو انعكاس صورة المحاكم والقضاة العاملين .. ونجاحُه نجاحهم .. ولأنه قد أصبحَ في ظلّ ثلاثة أعوام شيئاً مذكوراً .. وتهيأ له من أسباب النهوض ودعم القيادة ما لا يحصى ويعدّ .. ولا زالتْ له في رحِم الغيب بشائرُ ميلادِ مجد .. فإنني سأظلّ أفاخر به وبإنجازاته ولو رغمتْ أنوف الشامتين .. والمنتظر منهم للقضاء والعدالة أكثر .. سلم الله أياديهم  ورزقهم صلاح النية وسداد العمل .. ودلهم على الهدى والرشاد ..
     وأخيراً .. جاءت الأخبارُ لتقول لنا أيها القضاةُ إنّ رئيسكم كلّ .. وقد أختارَ أن يرحل  .. لتزيد غصصُنا غصة .. ونتعلمَ أن زمانَ الربيع قصيرٌ .. وكنتُ تمنيتُ لرحيله ألا يكون بناء على طلبه .. لنكونَ أكثرَ جلَداً على البقاء .. وما ظننتُ أنه سيختار الفراق .. ولولا أن يقال قاض يطلب ودّ رئيسه لكنت كتبت عن إنجازاته شيئا  كثيرا .. وأنا أرى منها ما يكذّبُ كتاباتٍ إعلامية .. زان خطّها وشانتْ معانيها .. أما وقد رحلَ فإنّ حقاً على الأقلام أن تسطّر شيئا من مجده .. وتتغنّى بحكاياتٍ من سرورِ حضوره وحزنِ غيبته .. ورسول الله عليه الصلاة والسلام يقول : لا يشكر الله من لا يشكر الناس .. ويخفّفُ مصابنا أنه حزنٌ يَشْركُنا فيه الكثير .. وأنَّها كانت رغبةُ الشيخ .. ومن حقّ مليكِنا علينا أن نقبل استئثاره بقربِه .. وندعو لقيادتنا بالعزّ والتمكين .. رحل معالي الشيخ وعلى ذكراه قناديلُ من صدق ومشاعلُ من حنين  .. وصوتُ أبي الطيب يعلو تردّ صداه أبوابُ المحاكم المكتظةُ بالمراجعين  :
       إذا ترحلّتَ عن قومٍ وقدْ قدروا      ألا تفارقهمْ فالراحلونَ همُ
 
 
طالب بن عبد الله آل طالب
 
قاضي محكمة تثليث سابقا
الثلاثاء ٢٧ / ٤ / ١٤٣٣

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..