لم
تكن دمشق مجرد مدينة أو مكان حملتنا أليه الأقدار في فترة زمنية
معينة لتلقي العلوم ونهل المعارف منها فحسب ، كما أن لمظاهر
العصرنة و الأجتياح العولمي و موجة التبديد الفكري و الثقافي و
السياسي التي ضربت بأطنابها الجنبات والأرجاء مما حملته أليها رياح
التغيير الزماني ، لم يكن ليغشي أبصارنا و يدمي قلوبنا تحسرا على
ماضيها الآسر و حضارتها الأثرية العتيقة (الأسلامية الأموية منها على وجه
الخصوص ) ، فنبكى على عز الشرق الذي كان ثم نردد مع أمير الشعراء قوافي
الأسف و أبيات الحنين لصولجان ملك دولة معاوية بن أبي سفيان السالف
قائلين
مررت بالمسجد المحزون أسأله
هل في المصلى أو المحراب مروان ؟
تغير المسجد المحزون وأختلفت
على المنابر أحرار و عبدان
فلا الآذان أذان في منارته
أذا تعالى ولا الآذان أذان
فبريق
المدينة كأقدم عاصمة في التاريخ الحديث ، و عبقرية المكان و سحر
الطبيعة كان ومازال مصادر الألهام التي تحرر من أصلها الأبداع و الجمال
الأدبي لمختلف المبدعين الذي مروا عليها ، فنثر الكثيرون منهم لها درر
المقال و حلو الأوصاف وبلاغة الكلمات و جزالة الألفاظ عشقا سرمديا و
أفتتانا آسر بما شاهدوه و عايشوه فيها ، مما حمل مثلا أفضلهم ذكرا
وأزكاهم بيانا وهو ( أمير الكلمة و الشعر ) أحمد شوقي ليشجو متغزلا فيها
قائلا
آمنت بالله وأستثنيت جنته
دمشق روح و جنات وريحان
قال الرفاق وقد هبت خمائلها
الأرض دار لها فيحاء بستان
فلقد
أزكت دمشق فينا منذ الوهلة الأولى روح الأدب العربي و حب سماع
الشعر ، وذلك لوصل قديم ( سنأتي على ذكره لاحقا ) ظل يدفعنا دفعا لتنقب
آثار السالفين ممن حذقوا العربية فأنشدوا النثر و الشعر على أرضها
المعطاء ، و جالوا في حواشيها وأطربوا السمع في مجالسها الدمشقية
بألحان قوافيها و ببديع الجدليات و المناظرات . بيان يرسو على وتر الحنين
لمشاعر العز و الشرف التي كان عليها أهل هذا المكان في يوم من الأيام ،
و يحدو كل من جاوروهم أو زاروهم لينشد من الشوقيات قولة
قم ناج جلق وأنشد رسم من بانو
مشت على الرسم أحداث وأزمان
هذا الأديم كتاب لا كفاء له
رث الصحائف باق منه عنوان
بنو أمية للأنباء مافتحوا
وللأحاديث ماسادوا ومادانو
كانوا ملوكا سرير الشرق تحتهم
فهل سألت سرير الشرق ماكانوا
تجلس
في كل مكان فيها فتجد أن الجميع يساورهم الأعجاب و الأفتتان بلغة
الضاد ، فمثلا تجد أن حزبهم الحاكم رسم لنفسه خطا سياسيا و
أستراتيجية قطرية قومية ترفع شعارا له ( أمة عربية واحدة .... ذات رسالة
خالدة ) . ومؤسساتهم الأكاديمية و العلمية و التربوية لا تألوا جهدا
في سبيل تعريب مختلف أنواع العلوم و الأبحاث باللغات الأجنبية الى
العربية لتدريسها لأبناءها ليعتدوا أكثر وأكثر بلغتهم الأم .
أسواقهم
ممتلئة عن آخرها بأجمل المشغولات اليدوية و الصناعية ذات الطابع
العربي و الأسلامي الأثري و الذي يحكي ويدلل لوحده أصالة و رسوخ هذه
الحضارة في هذا المكان و داخل أفئدة و أذهان ساكنيه الى يومنا هذا .
ولحركة الأبداع الثقافي المحلي براحات من التواجد و الحضور و الزخم في
مجالس و منتديات المدينة ، يلحظه المقيم و الزائر بجلاء في تعدد و كثرة
المسارح و النوادي و المكتبات العامة و معارض الكتاب والمقاهي الشعبية
التي تعمر بالحضور الثري و الفتان للمثقفين و المهنيين ومختلف شرائح
المجتمع الآخرى ، وهي في الأخير لهم بمثابة ملتقيات لجمع الصف الشعبي
العاشق و المحب للعربية و المهموم بقضية حفظ التراث الأسلامي العربي
الذي حملت لواءه في السابق مدينة دمشق كعاصمة لدولة الأسلام الثانية
دولة بني أمية ، ولسان حالهم في ذلك يقول
عالين كالشمس في أطراف دولتها
في كل ناحية ملك و سلطان
لولا دمشق لما كانت طليطلة
ولا زهت ببني العباس بغدان
غير
أن الحديث عن جمال دمشق الشاعري يدعوننا رأسا لتأمل موجودات المكان و
حواضر الزمان ، و ساعتها سوف نجد و نكتشف أن الوصف البلاغي الذي قيل
عنها سابقا لا ينفصم اليوم قليلا أو كثيرا عن سحر الواقع المنظور الذي
يترائ أمامنا ! ! ؟
فهذا
هو نهر بردى يجري منسابا رقراقا يشق وسط المدينة في هدوء و سكون يقرء
السلام لجالسيه وسماره ويرسل التحايا لناظريه و زواره ليسرد تاريخا
للمدينة ظل عالقا في الأذهان على مر السنون و تعاقب الأجيال ،
فنستذكر أبيات أحمد شوقي الخالدات
جرى وصفق يلقانا بها ( بردى )
كما تلقاك دون الخلد رضوان
وهاهي
مزارع و جنان الغوطة كما كانت بلأمس مصدرا للخير الوفير و معبرا آمنا
للثوار و المناضلين الذين عطروا ينابيع مياهها بدمائهم الطاهرة الزكية
وبنضالهم البطولي لصد هجمات الفرنجة ، وبجوارها تستطف حور الحياة الدنيا
من دمر الخير زرافات و جماعات ، يدلفن لجلب الماء أو الجلوس حول النهر
على روابي الضاحية ، فيدور بنا الخلد مرة أخرى لتلك الأبيات الشعرية
من الشوقيات البارعة في وصفها لرونق و جمال المكان
دخلتها و حواشيها زمردة
والشمس فوق لجين الماء عقيان
و
في أحدى زوايا المدينة يقع الحي القديم الدمشقي الذي ظل محتفظا
رغم جور الزمان والزحف العولمي ببساطة أنشاءه و رونق معماره الأثري
. أهله البسطاء مازالوا حتى اليوم يجلسون أسريا من ختيارهم ( العجوز )
الى طفلهم في الصباح الباكر داخل البيوتات العتيقة ذات الطابع الشامي
المميز ، حول النافورة التي تلفها و تحيط بها يمنة و يسرى أطواق
الياسمين و أشجار العنب ، و أكواب الشاي الدافئ والقهوة و اليانسون ترتص
على المائدة يتصاعد بخار حرارتها بوضوح من شدة البرد التي تملاء المكان
.... وهذا ما جرى وصفه على لهج الحديث بدقة في شعر نزار قباني لقوله ....
للياسمين حقوق في منازلنا
وقطة البيت تغفو حيث ترتاح
طاحونة البن جزء من طفولتنا
فكيف أنسى ؟وعطر الهيل فواح
غير
أننا حينما نجلس اليوم على شفير الذكريات الدمشقية و نستذكر مع
ذلك معالم الأرض وشواهد المكان وأنسان الحاضر ، نجد أن القلم يرسم
لنا صور زاهية عن رجال آتوا أليها مهاجرين عن أرض الوطن ثم سكنوا
دمشق فسكنت أرواحم و أفئدتهم و حواسهم و مشاعرهم فيها سيان كرحول الجسد
من موطنه و أستقراره بعيدا فيها .
أحبوها
فأحبتهم ظللوها بجيشان من النشاط و العمل فدثرتهم من شتاءاتها القارسة
بنار الحنين و الأمل ، ثم أرادوا أن تكون لهم دمشق معبرا فأرادت هي
أن تكون لهم المأوى و الملجأ و المحضن .
حاوروها
بلغة الماضي وبجراح الأمس فمنحتهم البراح واسعا ليغسلوا عليها القلوب
المكلومة و يخرجوا الأوجاع منها فيطيب الجسد و يستريح من رهق الغياب .
منهم من أستطاع أليها سبيلا طالبا للعلم وآخرا طالبا للرزق ، ومنهم من جاء
أليها ممثلا دبلوماسيا لبلاده عابرا للطريق وآخر راقت له الأرض بما
رحبت فتخير الأستوطان و البقاء فيها . هي شذرات من ذكرى المكان و نفحات من
زمن أبي حمل هؤلاء الرجال أن يصادقوا الواقع و يخضعوا موجوداته
لذهنية راحل مقيم أستأثر بسحر الشام و عبير رحلات الشتاء و الصيف و صوت
تلاطم الأمواج في الشمال ببحر ربط الشرق بالغرب ، فحق علينا ان نطلق
عليهم قولا وننعتهم بوصف أنهم رجال طلقوا دمشق ومابانو فمشت على رسمهم
أحداث و أزمان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..