الجمعة، 20 أبريل 2012

ورحلت أمي التي لم تلدني

لم أجد أصدق وأقرب من هذا الوصف لأنعت به أختي الراحلة إلى جوار ربها مضاوي العبدالله القاضي قبل أيام.. فهي - حقاً - أمي
التي لم تلدني - رحمها الله - بل لم تكن أماً لي لوحدي، فقد كانت - وهي التي لم يرزقها الله بأبناء أو بنات - ((أمّا أولى)) لمن فقد أمه من عائلتي، و((أمّاً ثانية)) لمن كانت أمه على قيد الحياة، لقد أكملت دور والدتي بعد رحيلها - رحمها الله - في التربية والرعاية وتعويض شيء من نهر الحياة، وكانت لأخي عبدالرحمن - رحمه الله - ((أمّاً)) حنت عليه ورعته عندما رحلت أمنا وهو طفل صغير، وكذا الشأن مع أولاد أختي حصة - رحمها الله -، فقد كانت مع والدهم وجدتهم لأبيهم ترعى وتمرِّض ويروي أخي سليمان كيف كانت شفيقة به عندما يأتي من جدته التي رعته بعد وفاة والدته - رحمها الله -، كما رعت أولاد زوجها الشيخ محمد الجهني - أتم الله عليه الشفاء - فقد كانت لهم أماً رؤوماً حنوناً بسبب وفاة والدتهم - رحمها الله -، ولقد روى لي الحبيب د. عبدالله الغذامي بحكم قرابته للشيخ الجهني قصة مؤثرة في تنازع والدته وأختي - رحمهما الله - على حضانة العزيز أحمد الجهني الذي كان أصغر أولاد الشيخ محمد الجهني بعد رحيل أم أولاده.. كانت والدة د. عبدالله وأختي تتنافسان على رعاية ((أحمد))، وقد أخذته أختي ليكون في منزل والده، ولتأثر والدة د. أبي غادة ذهبت إلى غرفة أخرى لكيلا ترى أحمد وهو يذهب عنها، - الله ما أعظمه من تنافس على الحنان بين امرأتين نادرتين هما في جوار الرحيم، وأما من كانت أمهاتهم موجودات من أبناء الأخوة والأخوات، فقد كانت الراحلة أما تحنو وتزور وتهدي - وتلازمهم عند مرضهم!، حتى صح عليها وصف بعض الكثير ممن يعرفونها ((أم اليتامى)) حقق لها وعد المصطفى في جنة المأوى. 

هذه الراحلة الغالية لم تعش لنفسها.. لقد قسمت قلبها على قلوب كثيرة.. لقد كانت عجيبة بالإيثار والعطاء، فقد كانت تؤثر على نفسها حتى أن ابنة أختى البارة أم عبدالله النعيم عندما تزورها وتطمئن على صحتها تخفي عنها بعض ما في بيتها لأنها تعرف أنها ستعطيه وتهديه رغم أنها تريده رحمها الله. لقد وزعت محبتها ووقتها بين منازل عديدة.. كانت سعادتها أن تسعد الآخرين في الزيارات، وفي التخفيف عن المرضى، والمواساة في الموتى.. كل من رحل إلى الحياة الآخرة وتربطها من أي قرابة أو جوار أو معرفة تجدها تجلس مع أهالي الراحلين تتلقّى العزاء، وتسلّي المفجوعين وترفع دعوات المخبتين. 

لم أرَ أقرب منها دمعة - رحمها الله.. كنا نحن أقاربها نشفق عليها، فكنا نخفي عنها ما قد ينالنا أو ينال أحد من معارفها من مرض.. أجل نحرص ألا تعرف لأن أثر علمها شجن وبكاء، كما كنا نخفي عليها موعد سفرنا لأن الهم يحرق قلبها حتى يصل المسافر إلى غايته.. كان قلبها كوناً من الحنان، وشلالاً من الرحمة وجداراً هشاً من الرقة.. لا أزال أذكر أنني في بداية عملي الصحفي بالرياض ذهبت لعمل لقاء مع د. مصطفى محمود - رحمه الله -، وعندما خرجت من الفندق لأعود إلى مقر صحيفة ((الجزيرة)) كان هناك مطر غزير تسبب بوصول الماء إلى محرك سيارتي فتعطلت فنشر أحد الزملاء خبراً طريفاً عن ذلك، ولما قرؤوا الخبر عليها وهي في عنيزة تأثرت كثيراً وظلت تبكي واتصل بي قريب لي لكي أبادر بالاتصال بها على المنزل ((قبل تقنية الجوال)) لكي تهدأ روحها وتطمئن نفسها أمطرها الله بحنان منه كما أمطرت قلبي وقلوب أحبائها بحنانها وعندما سمعت صوتي لم تملك مشاعرها فلم تستطع أن ترد عليّ فقد غلب نشيج بكائها على نشيد فرحها بسماع صوتي. 

برحيلك - أيتها الغالية - نقص بيت كنت أزوره حال قدومي إلى مسقط رأسنا عنيزة.. الله.. كانت هناك خمسة بيوت لأخوتي وأخواتي وخلال عامين أصبحا بيتين بعد رحيل أختي نورة وأخي عبدالرحمن وهاأنت لحقت بهما جمعنا الله جميعاً في جنة فيها غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار وعد الله لا يخلف الله الميعاد. 

وبعد: لقد كانت أغلب كلمات العزاء من الرجال والنساء عند اتصالهم أو مجيئهم لعزائنا هذه العبارة: ((نعزيكم ونعزي أنفسنا بالراحلة مضاوي)) فقد عاشت للآخرين تشاركهم ماء الدمعة ورغيف الفرح، وقد عوضها الله بأبناء وبنات لم تلدهم أجساداً لكنها ولدتهم حناناً. 

اللهم أغفر لأختي مضاوي وأبدلها داراً خيراً من دارها واجعل قبرها روضة من رياض الجنان وأسكب عليها من رحمتك كما سكبت علينا من معين رحمتها، اللهم ارحمها كما رحمت الأيتام والأطفال والمرضى والغائبين وذوي الحاجات.. اللهم كما حنت علينا وعليهم فحنّ عليها وهي بجوارك، وألطف بها وهي في قبرها في ملكوتك! 

آخر دمعة، ولعلها آخر دمعة 

أبيات من قصيدة للمرحوم د. غازي بعد أن فقد أخته وأخاه في عام واحد وقبلهما رحل أخوه عادل رحمه الله ورحمهم. 

       ((ترحل أخواني فأصبحت بعدهم       
       غريباً يتيم الروح والقلب والفكر
لك الحمد والأحباب في كل سامر
         لك الحمد والأحباب في وحشة القبر
وأشكر إذ تعطي بما أنت أهله
             وتأخذ ما تعطي فأرتاح للشكر))
حمد القاضي

hamad.alkadi@hotmail.com
  http://search.al-jazirah.com.sa/2012jaz/apr/4/fe12.htm


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..