السبت، 28 أبريل 2012

تردي الفكر من حصة آل الشيخ إلى محمد المحمود !

هل هي مصادفة أن يحمل مقال الكاتبة حصة محمد آل الشيخ في عدد صحيفة (الرياض) ، الصادر يوم الخميس 26 أبريل 2012م ، نفس فكرة مقال الكاتب محمد علي المحمود المنشور في الصفحة المقابلة لمقال الكاتبة ، وكأنهما يرميان عن قوس واحدة ، فبنت آل الشيخ جعلت من قضية (تعدد الزوجات) طعناً في تاريخنا الفقهي ، الذي قهر المرأة وجعلها مجرد متعة ، تقول: (فحيثما نقلب صفحات الماضي نجد صدى قضية المرأة في كتب فقهائنا القدامى على شكل متون حيض ونفاس وحواشٍ وفتاوى ، أما المرأة الوجود والإنسان فهي مقهورة مقموعة)!! وبن المحمود جعل من ظلام تاريخ الغرب في عصوره الوسطى ومن ثم حركة الإصلاح الديني والتنوير طعناً في تاريخنا الإسلامي ، فتاريخنا برأيه أقصى العقل والإنسان ، لأن التيار النقلي حليف الاستبداد ، فهاهو يقول : (على امتداد تاريخنا ، دائما ما كان تيار النقل حليف السلطة الشمولية الاستبدادية) !! ولو سألت أقل التلاميذ حظاً في معرفة تاريخنا الفقهي لقال إن تيار النقل يمثله أئمة الأمة وفقهائها بمذاهبهم الجماعية والفردية من عهد الصحابة وحتى عصور الانحطاط . ما يعني أن الكاتبة والكاتب يتهمان فقهاء الأمة على مدار التاريخ بالقهر والاستبداد !! هؤلاء العباقرة والقمم الشامخة الذين أنتجوا أعظم فقه ينظم حياة الناس في تاريخ الإنسانية أصبحوا بأقلام كتاب العفن الفكري مجرد مستبدين ودعاة قهر وقمع .

وكي لا أفتري .. فقد بحثت في ثنايا مقالي حصة آل الشيخ ومحمد المحمود لعلي أجد استثناءً في حكمهما على الحال العام لتاريخنا الحضاري، أو تبعيضاً لتاريخنا الفقهي ، بحيث يخرجان من آفة التعميم ، إلا أني لم أجد إلا تأكيداً على الفكرة وتمادياً في تسويق العفن الفكري ، فالكاتبة آل الشيخ قررت أن العاقل لا يشك في أن (الراعي الرسمي الحقيقي للتعدد هو المتعة بلا منافس) ، مع تعميمها : (أن السبب الرئيس والمتصدر أسباب المعددين هو البحث عن المتعة) ، هكذا !! ثم جاءت بفرية عظيمة تقول فيها : (يرتبط الموقف بالتعدد، بتاريخ الرق في الإسلام، فالتعدد مظهر أو وجه من وجوه الرق بطريقة ما) ، وفي موضع آخر تؤكد هذه الفكرة بقولها : (ففي المنظور الأخلاقي الرق قريب روحي للتعدد، كلاهما يرِد على حوض المتع والشهوات) ، رغم أن الإسلام هو أول من وضع السبل لإلغاء الرق ، الذي كان سائداً في كل الأمم ، بل جعل التعدد طريقاً للتحرر من هذا الرق .

من جانب ٍ آخر يتضح مدى الاضطراب الفكري لدى الكاتبة ، فهي تستنكر التعامل مع المرأة بلغة (المتعة) ، وهي في نفس الوقت لم تخرج بنظرتها عن ذلك ، عندما تعاملت مع قضية التعدد من زاوية (المتعة) فقط ! ومن ثم تأتي وتتهم الفقهاء بقمع المرأة وقهرها ! بل والأخطر أنها تشكك في قدرة الإسلام ـ الذي اختاره الله ديناً خاتماً وناسخاً لكل الأديان ـ في تحرير الإنسان من أوحال الجاهلية ، فتقول متسائلة ً : (فهل استطاعت مدة أربعين سنة هي كل عمر الخلافة والنبوة أن تمحو قروناً من رواسب الجاهلية في العقل العربي الذي أسلم، أم استطاعت أن تحرّره من سلطان الموروث الجاهلي ومن ضمنه نظرته للمرأة ومكانتها ودورها؟ ) . والتشكيك يتضح بقولها لاحقاً : (إن الشرخ التاريخي الهائل بعد عهد النبوة والخلافة الراشدة أوجد مظلومية مجتمع وأمة، ..... فلقد تأججت روح الموروث الجاهلي بعد أربعين سنة من وفاة الرسول، وأصبحنا أمام وضعية من الظلام الحالك، أهينت فيها المرأة أسوأ إهانة، ومُست في كرامتها وآدميتها وحريتها... ). خلافاً لخلطها الوضع السياسي للأمة بالواقع الاجتماعي فيها ، فقد نسفت كل تاريخ المرأة المسلمة ودورها المحوري خلال مسيرة أمتنا الحضارية . كما لم تتوقف عند ذلك إنما جعلت من نفسها فقيهه ومفسرة وعالمة !! فالفقهاء والمحدثين والمفسرين لم يفهموا أية التعدد كما فهمتها ، لأن غالبيتهم برأيها أفرغوا مبدأ العدل من كل محتواه وجعلوه مقصوراً على الجماع والنفقة) ، لاحظ أنها لازالت تنظر بعين (المتعة) !! ثم قطعت : (أن ما نص عليه القرآن وما ذهب إليه الفقهاء أمران متباعدان، بل ويسيران في اتجاهين متناقضين، يخلط الأصل بالفرع ويلغي تحوط المؤمن إزاء قيمة مرتبطة بوجود الإنسان؛ وهي العدل) . مع مراعاة أنها كررت ما يقوله التغريبيون عن استحالة العدل كما نصت الآية !

الطريف في نهاية مقال حصة آل الشيخ ما قالته عن الشريعة وكأنها تناقض نفسها ، فهي تتحدث عنها في الوقت الذي تشكك في مقاصدها ، تقول : (الوعي بالحقيقة يعين على رسم معالم المستقبل بواقعية وحكمة، والشريعة ما جاءت إلا لتحقق مصالح الناس، كل الناس بمختلف طبقاتهم وقدراتهم ومراتبهم ..) ، ثم تختم مقالها : (الخلاصة أن كل خطوة تحرير لعقولنا من إيديولوجيا الاستبداد وعقدة عادة التقليد والتقديس هي خطوة كبرى على درب تحرير الإنسان) ، هذه الجزئية تحديداً (تحرير العقل على درب تحرير الإنسان) ، هي لب مقال الكاتب محمد المحمود ، الذي جاء بعنوان : (تاريخنا .. من إقصاء العقل إلى إقصاء الإنسان) ، حيث لم يختلف من حيث الفكرة عن مقالة حصة آل الشيخ ، إلا أنه أكثر شمولية في التعميم ، فلم يقف عند المرأة ، إنما الإنسان الفرد رجلاً أو امرأة ، كما لم يقف عن تاريخنا الفقهي ، إنما شمل كل تاريخنا الإسلامي الحضاري ، بل كان أكثر وضوحاً في طعنه بهذا التاريخ وتشكيكاً بحضارتنا ، وهذا لا يستغرب على من كتب يوماً متمنياً الاستعمار الغربي لبلاد المسلمين !!

كالعادة يفضح المحمود نفسه من زاويتين ، الأولى جهله المعرفي بالتاريخ خاصةً تاريخنا الإسلامي المجيد، الذي يقول عنه : (وعلى امتداد تاريخنا ترتسم صورة بؤسنا ، إذ لم يتمكن العقل من الحضور إلا على نحو هامشي ونسبي . بل لم يحضر إلا مُداناً في السياق العام ، ذلك السياق الذي كان سياقا نقليا تقليديا إلى أبعد الحدود) .  أو حضارتنا العريقة التي يقول عنها : (من هنا ، كان غياب الإنسان ، ومن ثم غياب الحضارة التي لم تحضر إلا كوَهم ، أمرا مفهوما ؛ إذ من الطبيعي أن يكون تاريخنا صيرورة تخلف مادام في خطه العام حركة نقل وتقليد وإقصاء متعمد للعقل) . إذا ً تاريخنا بؤس وحضارتنا وهم !!  أما الزاوية الأخرى فهي تبعيته الفكرية للفكر الغربي ، الذي يقتات على موائده الفلسفية ، فما يقوله سبقه إليه علمانيو العرب ويساريه وهم يحاولون تشويه كل ما يتصل بالظاهرة الإسلامية المعاصرة خاصة ً بالنسبة للرصيد الإسلامي في التاريخ الإنساني . ومحاولة إيجاد صيغة تشابه تاريخية بين التاريخين الغربي والإسلامي ، كي يسهل ترويج الباطل بأن خلاص الأمة الحضاري يكون في الانقلاب على النصوص الدينية ، وإجراء إصلاح ديني في الإسلام على غرار التجربة الغربية التاريخية .

أما الجهل المعرفي لدى المحمود فيبدو بزعمه غياب العقل في تاريخنا الإسلامي ، لأنه مرتبط أساساً بجهله في موقف الإسلام من (العقل) ، وظهور التيارات الفكرية الكبرى المختلفة حسب فهمها لهذا الموقف ، ومن ثم تحديد مكانته مقابل النص الديني ، وهي : (النقلي ، والعقلي ، والفلسفي) ، بل إن ظهور هذه التيارات وما تفرع عنها من أطياف أكبر دليل على حضور العقل في التاريخ الإسلامي بدلالة الموروث الفقهي العريض ، الذي يعد مثالاً للعبقرية الإنسانية ، ومورداً فكرياً للغرب حتى اليوم ، ناهيك عن المعارك الفكرية والاختلافات الدينية بين المدارس الفقهية والتيارات العقلية والفلسفة الإسلامية ، حتى وجدت آراء وأفكار وشروحات مع شريعة الإسلام وضدها ، ما يعكس حضور العقل وحرية حركته في المجموع الإسلامي لدرجة أن سيطر المعتزلة (فرسان العقل) وخصوم التيار النقلي على الخلافة فترة من الزمن ، إن التباين وأحياناً الخلاف بين المدارس الفقهية كمدرستي النص والرأي داخل الدائرة السنية دليلاً على حضور العقل .

أخيراً يغلب ظني أن المحمود زيادة على جهله بتاريخنا وتاريخ الغرب الذي يشيد به ، لا يدري أن كثير من المؤرخين الغربيين يعتبرون بداية عصور النهضة الأوروبية الفعلية ـ التي يتغنى بها في مقدمة مقاله ـ هي عام فتح القسطنطينية عام 1453م بسبب انتقال التراث اليوناني والروماني مع نزوح أعداد كبيرة من الأوروبيين ، الذين نهلوا من علوم المسلمين ودرسوا طرقهم في قراءة هذا التراث . أما البداية الأساسية فكانت عام 1210م ، الذي شهد أول ترجمة لكتب أرسطو في أوروبا . 
 
محمد بن عيسى الكنعان *

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..