نود
أن نؤكد أولاً أن هذه التسمية للدولة لم يعرفها التاريخ الإسلامي بهذا
التحديد، ذلك أن الإسلام دين ودولة، سياسة واقتصاد واجتماع، وفكر وأدب،
الإسلام رسالة ربانيّة جامعة لحياة الإنسان كلها، وتحمله أمة هي خير أمة
أُخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، أُمة يحكمها
الإسلام في جميع شـؤون حياتها الصغيرة والكبيرة، وهي تحكُم بالإسلام في
جميع ميادين الحياة. فإن شئت أن تسميها دولة دينية فهي دولة دينية لأن
الدين الحق يحكمها، وهي دولة مدنية لأن الدين الذي يحكمها يتناول جميع
ميادين حياتها، ابتداء من حياة المسلم الفرد، إلى حياة الأسرة والمجتمع،
إلى حياة المؤسسات بكل أنواعها، إلى حياة الدعاة والعلماء وأولي الأمر، إلى
غير ذلك من مكونات الأمة دون استثناء، ولكنها مصطلحات لم يعرفها تاريخ
الإسلام! ولكن مصطلح " دولة مدنية " أصبح يعني اليوم دولة علمانيّة تتخلّى من الإيمان بالله واليوم الآخر وسائر أسس الإيمان والتوحيد.
والناحية
الأخرى التي يجب إثارتها هي أنه لا يوجد عند الله إلا دين واحد هو دين
الإسلام الذي بُعِث به جميع الأَنبياء والمرسلين: نوح وإبراهيم وإسماعيل
وإسحق ويعقوب، وموسى وعيسى عليهم السلام، وختموا جميعهم بمحمد صلى الله
عليه وسلم. هذا هو الحق الذي أعلنه الإسلام منذ اللحظة الأولى، وأعلنه
القرآن الكريم والسنّة النبوية بوضوح وجلاء وتأكيد، وما تردَّد المسلمون
أبداً في أن يعلنوا هذه الحقيقة الربانية، ويعلنوا ما بيَّنه القرآن الكريم
من أن ما يسمونه النصرانية أو اليهودية هي تحريف لدين الله الإسلام الذي
بعث به موسى وعيسى، والذي بلّغاه وَدَعَوَا إليه[1].
وفي
عصرنا الحاضر جهل ملايين من المسلمين قرآنهم وسنّة نبيّهم وجهلوا اللغة
العربية، فَسَهُلَ أن تتسرب إليهم أفكار مغايرة لدين الله ومصطلحات ابتدعها
المشركون ومن أمثلة ذلك، لا على سبيل الحصر: " الديانات السماوية التوحيدية الثلاث "،
حين لا يوجد دين سماوي توحيدي إلا الإسلام، دين جميع الأنبياء والمرسلـين.
ومن الأمثلة كذلك ما هو موضوع بحثنا هذا: دولة مدنية أم دولة دينية "!
لقد نشأ الاضطراب في فهم هذا المصطلح في واقعنا الحاضر لعدة أَسباب نوجزها بما يلي:
1- جهل الكثيرين من المسلمين بالكتاب والسنة واللغة العربية جهلاً امتدّ قروناً كثيرة.
2- ضعْف المسلمين وذهاب دولتهم وسقوط الخلافة الإسلامية وتمزُّق ديار المسلمين.
3- قوة أهل الكتاب علمياً ومادياً وصناعة وأسلحة، وامتداد سطوتهم على مناطق كثيرة من العالم الإسلامي.
4- نشر
هذه الدول القوية مبادئ العلمانية والديمقراطية والاشتراكية وأمثالها
نشراً قوياً في ديار المسلمين، مع نشر الفاحشة والرذيلة والخمور وتغذية ذلك
بالمؤسسات والحركات والأفراد والأموال، بالإضافة إلى انتشار الحركات
التنصيرية.
اختلاط فهم كلمة " صلى الله عليه وسلم eligion " عند الغرب وانتقالها إلى العالم الإسلامي، والتباس معناها مع كلمة " دين " التي كانت هي الكلمة السائدة في العالم الإسلامي، ومعناها مختلف كل الاختلاف عن كلمة " صلى الله عليه وسلم eligion ".
هذه
الأسباب مجتمعة أثارت الاضطراب والجهل بين المسلمين في مفهوم كلمة الدين
كما جاءت في الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة، ومفهوم الدولة وتسميتها.
فكلمة
دين في اللغة العربيّة تعني: الجزاء، الإسلام، العادة، العبادة، والمواطب
من الأمطار أو الليّن منها، والطاعة، والذلّ، والداء، والحساب، والقهر،
والغلبة، والاستعلاء، والسلطان، والملك، والحكم، والسيرة، والتدبير،
والتوحيد، واسم لجميع ما يُعبَدُ به الله وما يَتَعبّد الله به عباده،
والملة، والورع، والإكراه،....، ومعاني أخرى[2]. أما كلمة " صلى الله عليه وسلم eligion " الإنجليزية وما يشابهها من كلمات باللغة الأوروبية فإنها جميعها لا تحمل جميع المعاني كلمة " دين " كما عرضناها.
ولما دخلت كلمة " صلى الله عليه وسلم eligion " إلى المجتمعات الإسلامية أخذ مفهوم الدين يضيق حتى ينحصر في مفهوم كلمة "صلى الله عليه وسلم eligion ". وأَقرب ترجمة أجدها لكلمة "صلى الله عليه وسلم eligion " هي " طقوس"،
أو عبادة، بعد أن حرّف أهل الكتاب التوراة والإنجيل، ولكنها لا تحمل معنى
الحكم والجزاء، والملك والسلطان...! فاضطرب مع الأيام تصور الإسلام ودوره
ومهمته في حياة البشرية، في أذهان جهلت الإسلام وجهلت اللغة العربية، وأخذت
التصورات الغرّبية تتسلَّل إلى أذهان كثير من المسلمين.
وقد
استغرق هذا زمناً طويلاً حتى أصبح بعض الدعاة المسلمين يقولون لا نريد
دولة دينية بل نريد دولة مدنيّة. لقد زاد اختلاط المفاهيم واتَّسع مداه
وساحته، وكأن بعضهم يريد أن يدفع عن نفسه تهمة المطالبة بدولة دينية. نقول
إنَّ بعضهم يريد ذلك ونقصد بعض الدعاة المسلمين. ولكن كثيراً من عامة
المسلمين ينادون بدولة مدنيّة لا دينيّة بصورة قاطعة، كأن الدولة الدينية
مصاب يَنزل على البشر، أو تهمة يجب التبّرؤ منها. وهم في حقيقة أمرهم لا
يدركون المعنى السليم للدولة المدنية ولا للدولة الدينية، ولا يعرفون الدين
على حقيقته التي أنزله الله بها.
إن
الله سبحانه وتعالى بعث جميع رسله بدين واحد هو دين الإسلام، بعثهم به
ليحكموا به وليحكم هذا الدين في جميع أحوالهم. فما بعث الله الدين إلا
ليحكم وينظم واقع الناس. فالشريعة هي حكم الدين، والدين كله شريعة يخضع لها
المؤمنون، شريعة في جميع ميادين حياة الناس من شعائر ومعاملات وتجارة
وسياسة وإدارة وحرب وسلام وغير ذلك.
وهذا قوله سبحانه وتعالى:
﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [ الأعراف:3].
وكذلك قوله سبحانه وتعالى:
﴿ إِنَّا
أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا
وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ
اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ
وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة:44].
ذلك
لأن التوراة كما أُنزِلت من عند الله وقبل أن تُحَرَّفَ، إنما أُنزِلت
لتحكم بالإسلام، الدين الواحد، فمن لم يحكم بما أنزل الله فألئك هم
الكافرون.
وكذلك قوله سبحانه وتعالى:
﴿ وَكَتَبْنَا
عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ
وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ
وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ۚ
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ ﴾ [ المائدة:45].
وكذلك قوله سبحانه وتعالى:
﴿ وَقَفَّيْنَا
عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ
يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى
وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى
وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ. وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [ المائدة: 46-47].
ويأتي بعد ذلك الخطاب إلى محمد صلى الله عليه وسلم ليثبّت القاعدة الربانيّة من وجوب الحكم بما أنزل الله:
﴿ وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ
الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ
لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ
لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ
ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا
فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ
وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ
ۖ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ
بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ﴾ [ المائدة:48-49].
وتأتي بعد ذلك النتيجة الحتمية في قوله سبحانه وتعالى:
﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [ المائدة:50].
إذن هنالك حكمان لا ثالث لهما:
حكم الله بما أنزل على رسله ديناً واحداً هو الإسلام!
وحكم الجاهلية بما يهواه البشر ويشرّعونه!
هذا
هو حكم الله، وهذا هو أمر الله، فإما أن نؤمن به ونلتزمه فنحن مسلمون
مؤمنون، وإما أن يُراد حكم الجاهلية، فمن أراد ذلك فحسابه عند الله، لا
نقرّ حكم الجاهلية ولا ندعو إليه ولا نأمر به.
ثم تأتي آيات أخرى تفصّل هذه القضية تفصيلاً كبيراً. وتتأكدَّ هذه المعاني في سور أخرى. فالحكم الحق هو لله، أي لدينه الحق وشرعه:
﴿ ... إِنِ
الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ۚ
ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [ يوسف:40].
نعم!
إن الحكم إلا لله، لشرعه، لدينه الحق، للإسلام! فهذا هو مناط الدولة التي
يجب أن يُنادي بها الناسُ كافَّة لأنها هي وحدها التي توفّر العدل بين
الناس والأمانة والمساواة على موازين قسط، والحرّية المنضبطة التي تصلح
الأمة وتسعد الناس. وفي هذا الحكم وحده تَتَّحِدُ العدالة والحرّية
والمساواة في شرع الله ليسعد الناس كل الناس في ظله.
فالإسلام
لا يعرف دولة مدنيّة فقط تبعد عنها الدين. إنه الكفر الصريح. ولا يعرف
الإسلام دولة دينيّة لا تقيم العدل بين الخلق على أساس من شرع الله، أو
دولة دينية لا تنظر في واقع الحياة ولا تردّه إلى دين الله، أو دولة دينيّة
تحكم بجزء من الدين الحق، أو بالدين الذي حُرّف وبُدِّلَ ولم يَعُدْ في أي
حالة من الأحوال يمثل دين الله، إنه افتراء على الله كبير:
﴿ فَبِمَا
نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ۖ
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ۙ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا
ذُكِّرُوا بِهِ ۚ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَىٰ خَائِنَةٍ مِنْهُمْ
إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ۖ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ ۚ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [ المائدة:13].
نعم! فاعف عنهم واصفح، ولكن لا تُقرّ لهم بباطل ولا تجاملهم في الحق:
﴿ وَمِنَ
الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىٰ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا
حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۚ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ
اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [ المائدة:14].
وكذلك فقد حدد لنا الإسلام كيف نخاطب أهل الكتاب خطاباً حقٍّ ودعوة:
﴿ يَا
أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا
مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ۚ قَدْ
جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ. يَهْدِي بِهِ اللَّهُ
مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ. لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ
الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ۚ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا
إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ
فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ۗ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَمَا بَيْنَهُمَا ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ
قَدِيرٌ ﴾ [ المائدة:15-17].
هكذا
أمرنا أن نخاطب أهل الكتاب بالحق، وأن ندعوهم إلى الحق، فإن استجابوا فهم
من المسلمين، وإن أبوا فقد أذن لهم الله ورسوله بأن يعيشوا في ظل حكم
الإسلام، ودين الإسلام، يمارسون شعائرهم دون أن يدعوا إلى النصرانية أو
اليهودية، ودون أن يتعاونوا مع أعداء الإسلام، ودون أن يجهروا بدينهم ولكن
لهم أماكن عبادتهم خاصة بهم، ولا يبنون أماكن عبادة لهم جديدة، وأحل الله
للمؤمنين طعامهم والزواج من نسائهم، ويخضعون لحكم الإسلام في دولة الإسلام،
وعلى دولة الإسلام أن تحميهم وتدفع عنهم الأذى والعدوان ما داموا خاضعين
لحكم الله ورسوله. وبذلك يكونون أهل ذمة. إي أنهم في ذمة المسلمين، فيكون
لهم حقوق يجب أن تـؤدى، وحماية يجب أن تراعى، ولا يحل الاعتداء عليهم ولا
على كنائسهم، ولا يظلمون.
ولكننا
نعجب من واقع بعض المسلمين اليوم، حين لا يجهر بالحق كما جاء من عند الله،
ويجارون أهل الكتاب والمشركين في دعوات باطلة وشعارات كاذبة فكم نادى
المسلمون اليوم بالديمقراطية التي أذلتهم وأخرجتهم من ديارهم، وكم نادوا
بأنهم يريدون دولة مدنية لا دينية، وكم سكتوا وصمتوا ولم يعلنوا الحق الذي
جاء من عند الله!
وأعجب
كيف أن أهل الكتاب اليوم أخذوا يتجرؤون بإعلان باطل لا يأذن به الله،
ويدعون علانية إلى نصرانيتهم ويهوديتهم، ويجهرون بالباطل والمسلمون لا
يجهرون بالحق، فيزداد المسلمون ضعفاً حين يظنون أن المجاملات الباطلة
تصُدُّ عنهم الأذى، والأذى يزداد، والفتنة تتسع.
يجب
على الدعاة المسلمين أن يجهروا بالحق كما جاء من عند الله دعوة لأهل
الكتاب إلى الحق، وحماية للمسلمين من أن يفتنوا عن دينهم بمواقف ضعف
ومجاملات لا تحمل الحق.
إن دين الله يحتاج إلى الدعوة الصريحة الجليّة لأنه دين من عند الله، فلا يحل كتمانه ولا تغييره، ولا تحلّ المجاملات الكاذبة.
فإن
كنا اليوم، نحن المسلمين، في ذلة وضعف وهوان، ولم نستطع أن نفرضَ ذلك كله،
فلا يحلّ لنا أن نعلن خلافه ونرضى علانية بغيره! فإما أن نعلن الحقّ الذي
يرضي الله سبحانه وتعالى، أو أن نصمت!
ونعود
إلى ما بدأنا به من تسمية الدولة دينية أو مدنية، فنقول هذه التسميات لم
يعرفها الإسلام، وإنما أقر الإسلام حكم الله ورسوله كما جاء في الكتاب
والسنة، فنقول ونعلن: دولة الإسلام، وحكم الإسلام بصوت جليّ جريء أو نصْمت ولا نقرّ بباطل نُرضي به شياطين الإنس والجن.
إن
رجال اليهود والنصارى يعرفون حق المعرفة حكم الإسلام فيهم، ويعلمون أنهم
خضعوا له قروناً، فوجدوا فيه العدالة والأمان مما لم يجدوه في غيره. وهل
هنالك عدل أكثر من حكم الله وشريعته؟!
ومن
يبدّلْ شرع الله أو يُحَرِّفْه أو يتنازلْ عنه فإن الله سيذلّه إن شاء في
الدنيا وله في الآخرة عذاب عظيم. ولكن الكثيرين اليوم لم يعودوا يبالون أو
لا يؤمنون بعذاب الآخرة، وإنه لموعد قريب.
وهنا
لا بد من سؤال يفرض نفسه: لماذا لم يتمّ حتى الآن بناء الأمة المسلمة
الواحدة، أو المجتمع الإسلامي المتكامل في أي قطر إسلامي، بالرغم من كثرة
الدعاة والحركات الإسلامية والمؤتمرات والكتب والمؤلفات.... الخ، وبالرغم من الزمن الطويل الذي مرّ على العمل الإسلامي وهو في الميدان ؟! ولماذا المسلمون اليوم في ذلة وهوان؟!
ونعتقد أن أهم أسباب الفشل، وأسبابه كثيرة، نوجزها بما يلي:
1- اتجـاه
الدعوة الإسلامية إلى العمل الحزبي الذي فرَّق الجهود من ناحية، وغذى
الخصومات والعصبيات الجاهلية، وأثار فريقاً ليكون ضد الدعوة الإسلامية ،
دون أن نبلغه دعوة الله ورسالته.
2- انشغال
العمل الإسلامي بأنشطة ليست ذات جدوى أخذت كثيراً من الجهود وأضاعت كثيراً
من الفرص، وزادت من الفرقة والانشقاق، وأضعفت جهود البناء والتربية
والإعداد.
3- عدم
وجود منهج موحّد يقرّب القلوب والجهود، ليكون النهج الموحّد نابعاً من
أربعة مصادر مترابطة: أسس الإيمان والتوحيد، المنهاج الرباني - قرآناً وسنة
ولغة عربية - مدرسة النبوة الخاتمة، المدرسة الخالدة مع الدهر كله، وعي
الواقع من خلال منهاج الله ورده إليه. وإننا نقدم نموذجاً لهذا النهج
بتكامله تحت عنوان: نهج مدرسة لقاء المؤمنين وبناء الجيل المؤمن.
4- لذلك
لم تنلْ قضية تبليغ رسالة الله إلى الناس كافّة كما أنزلت على محمد صلى
الله عليه وسلم تبليغاً منهجيّاً، وتعهّدهم عليها تعهداً منهجيّاً، الجهدَ
الموحّدَ الكافي والضروري الذي يأمر به الله.
5- ولذلك،
ولهذه الأسباب صَعُب أو تعذّر بناء الدعوة الإسلامية الواحدة في الأرض
بمنهجها الموحد وجهودها المتناسقة، كما أمر الله أن يكون المؤمنون أمة
واحدة ودعوة واحدة.
6- لهذه الأسباب كلها تمزَّقَت حقيقة أُخوّة الإيمان كما يريدها الله سبحانه وتعالى.
ولذلك
ظهر دعاة مسلمون أعلام يفتون على القنوات الفضائية بأنه لا مانع في
الإسلام أن يكون رئيس الدولة المسلمة نصرانياً ولا مانع أن يكون امرأة. إلى
أي درجة تدنّت الفتاوى وهبط الدعاة.
وفي ختام هذه الكلمة نعيد ونؤكد أن كلمة " دولة مدنيّة " تعني
دولة علمانيّة لا يدخل الإسلام في فكرها ولا نظامها، ولا تقيم لمفهوم
الدار الآخرة أي دور في حياة الناس. فواجب المسلمين إذن أن ينادوا بدولة إِسلامية تقيم
شرع الله وتدعو إليه دعوة ماضية مع الدهر. ولا يحل لمسلم أبداً أن يدعو
إلى دولة مدنية ولو ادعى بمرجعية إسلامية، فذلك تناقض مكشوف لا يستقيم،
ودعوة لا مجال لتطبيقها في واقع الحياة لتناقضها.
نوجه
هذه الكلمات نصيحة خالصة للدعاة والعلماء والحركات الإسلامية، نصيحة خالصة
لوجه الله، عسى أن تستيقظ القلوب وتلتقي كما أمر الله سبحانه وتعالى أن
يكون المؤمنون أمة واحدة، ودعوته دعوة واحدة في نهجها وأهدافها ووسائلها.
د. عدنان علي رضا النحوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..