لم أكن أغار من الذين شاركوني محبتها حتى
صاروا كلهم يسمونها أمهم الجهنية وإن تعددت ألقابها بين أمي فاطمة وأم
عبدالرحمن، لكن الجهنية ظل هو اللقب المحبب لها ولكل من انضوى تحت خيمة
حبها المبذول.
حينما ولدتني في ربيع الأول 1365وكنت ثالث أولادها، بعد أن مات الثاني،
جاءت نورة ابنة خالتي موضي
لتشاركني الرضاعة من لبن أمي، كانت خالتي مريضة وانقطع لبنها وجاء صدر أم عبدالرحمن ليسقي جوع الصغيرة مع الصغير، ثم ما لبث ان جاء محمد الحميميدي، وجاءت مزنة وجاء حمد، واشتركنا نحن الخمسة في لبن الجهنية، وجاءت خالتي موضي تتوكأ على عصاها ناهضة من فراش المرض لتمسك بالولد المبارك وتدعو لها، إذ بارك الله بلبنه حتى عم ابنتها المكلومة وشمل ثلاثة معهما، لم أكن أعلم شيئاً عن هذا حتى حدثتني أمي عن ذلك ونحن في مكة المكرمة وكنا نشرب الشاي قبالة الحرم الشريف وأمي تحدثني عن زمان كان وعن أهل مضوا، واغرورقت عيناي بالدموع حينما قالت لي أمي عن دعوة خالتي التي ماتت منذ أربعين سنة، كانت دعوة قوية ومؤثرة للولد الذي ترك لبنه للجميع، وإن كانت أمي قد احتفظت بسر تلك الدعوة كل تلك السنين فأنا لن أبوح بها لأنها أكبر من أن تعلن او أن تستباح، لقد كانت دعوة من الدعوات التي يتمناها كل قلب مفعم بالأمل، ولله كيف لمست خالتي أدق تفاصيل أماني طفل لم يتبين عوده بعد، لم يكن لي سوى الدموع والدعاء لخالتي، ثم أحببت أمي كأن قد رأيتها للتو، وبدأت أتعلم سر الجهنية التي أحبها الجميع.
سكنت أسرتي في عنيزة وتنقلوا بين أكثر من عشرة بيوت في عشر حارات، وما غادرنا حارة من هذه الحارات إلا ورأيت نساء الحي يأتين الى بيتنا باكيات ومودعات وكأنهن في مأتم بسبب رحيل الجهنية، كانت أما للجميع وهم يودعون أمهم، ولقد رأيتهم كلهم في العزاء في العاشر من صفر 1424هـ ، حيث جاء كل جيراننا على مدى ستين عاماً من كل حارة من حارات عنيزة، وكانت دموعهم أكثر من دموعنا، وصرنا نعزيهم وقد كانوا جاءوا ليعزونا، وكل يتحدث عن أمه، ولم أكن أغار من هذه المشاركة في حقي بأمي.
لم أكن أتصورها إلا وهي حاملة بيدها شيئاً، ترتبه وتقسمه الى أقسام ثم تستدعي حازم واسامة ابني صالح، وتعطيهما التعليمات، حيث توزع الحزم على الجيران والاقارب والجيران القدامى في الحارات السابقة، وهذه أكياس من تمر، وتلك أواني لبن، وتلك حزم خضار وفاكهة أتت بها من المزرعة، وكل صباح كانت تأخذ الهاتف وتسأل عامل المزرعة عن الناضج من التمر والخضار بكل التفاصيل الضرورية، وتعطيه تعليماتها كيف يقطف المستوى ويحضره الى البيت، واذا جاءت المحاصيل للبيت لا تبقى سوى ما يحتاجه توزيعها من وقت لكي تتحرك متجهة الى وجهات تعرفها أم عبدالرحمن، وكم عجبت لها وهي تعتني بالحليب حينما يأتي من المزرعة في حلة كبيرة، فتقوم في ترويبه ثم خضه ثم توزيعه ولا يرتاح لها خاطر حتى تراه قد استقر في بيوت تحددها وتبرمج التوزيع فيها يومياً، وكم ترجيناها ان تترك ذلك للخادمات او تريح نفسها ولو حينما يعركها المرض، غير انها كانت تقوم من فراش مرضها لتعمل واجبها اليومي ثم تعود للمرض ثانية بعد ان اخذت مهلة تعاهدت مع مرضها عليها وكان الالم يتسامح معها حتى تؤدي هذا الواجب.
كان اخواتي واخواني يتألمون من اجلها وهي تلزم نفسها بكل هذا، ولكنني لم أكن أعجب، واعود لنفسي وأتذكر الخمسة الذين كانوا يرضعون من صدرها على مدى عامين ولم تكل ولم تضجر ولم تبخل وكانت تتلقى الدعاء بابتسامة وفرح.
لم أشاهد أحداً يخرج من بيتنا قط دون أن يكون في يده شيء، حزمة جزر او ربطة تمر او حتى لفة جرجير، ومهما كان شأن الآتي وعمره ومقامه فإن الجهنية لن تتركه يخرج خالي اليدين، وكنا احياناً نخجل من بعض الزوار الذين لا نرى حاجتهم لما تعطيهم ولكنها لاتأبه بخجلنا ولا ترتاح حتى تعطي مما في البيت مهما كبر او صغر، ومرة كنت في عنيزة بعد غيبة طويلة في البعثة، وشاقني ان أتذوق نوعاً من التمر، اسمه قطارة، وخرجت بعد الفجر مباشرة الى السوق لأشتري ما يمكنني ان أجده منه، ولقد وجدت غضارة صغيرة بعد جهد جهيد ومساعدات من الباعة في الحلقة، اذ ان موسم التمر ما زال على مشارفه، ولقد عدت للبيت فرحاً بهذا الطعم الذي سأمتع نفسي به بعد طول تمن وتشوق، وقررت ان أنام بعض الوقت على ان أتناول التمر بعد اليقظة مرجئاً فرحتي به الى مزيد من الحلم والتشوق، ولكنني حينما صحوت لم أجد التمر وعجبت من غيابه وقد كنت وضعته بيدي في الثلاجة، غير انني اكتشفت ان زائراً جاء اثناء منامي يسلم على أمي فأعطته ما وجدت في الثلاجة من تمر وكانت تبحث عن أي شيء تعطيه له ولم تجد سوى قطارتي، التي ما زلت أتذكرها وأفرح اذا صارت سبباً لفك الحرج عن أمي وتحقيق رغبتها في العطاء ولولا تلك الغضارة لتنكد خاطر الجهنية ذلك اليوم لأنها لم تبذل فيه.
فوجئت مرة بأمي وهي تتكلم كلمات انجليزية وكان ذلك وهي ترقد مريضة في أحد مستشفيات الرياض الكبيرة، والتقطت عدداً من الكلمات من الممرضات وأضافتها الى كلمات تعلمتها من شغالة قديمة كانت تعمل في بيتنا، وصارت تستعمل هذه الكلمات لمساعدة المريضات الأخريات في الترجمة، ونشأ بين أمي والممرضات علاقة عجيبة، وكلما زرت المستشفى وجدت ترحيباً خاصاً بي لأنني ابن فاطمة، حتى صار يوم وجئت ولم أجد أمي في غرفتها ولم أعثر عليها في أي موقع قريب، وبدأ القلق يساورني حتى جاءتني ممرضة وقالت لي ان فاطمة تقوم في جولة على المريضات ولم أتمالك نفسي من الدخول في مزاح مع الممرضة عن أمي نتيجة لفرحي بسلامتها أولاً ولم أعلم أن الممرضة ستزيد من عجبي إذ قالت لي فاطمة توزع بركاتها على المريضات، واكتشفت أن أمي كانت تدور على السرر وتقرأ على المريضات آيات من القرآن، وكانت المريضات يستدعين أمي من غرفة الى غرفة لتقرأ عليهن وشاع اسم فاطمة بينهن في وقت قصير، وحينما خرجت من المستشفى كان منظر توديعها والدعاء لها من النساء في العنابر لا يجد مني سوى دموع تشبه دموعي حينما حدثتني أمي عن خالتي موضي والاطفال الذين ارضعتهم معي، ولقد اقترحت رئيسة الممرضات تعيين أمي في علاقات المرضى لتأهيل المريضات للعمليات وبعد العمليات. ولقد تمنيت عندها أن يهبني ربي جزءاً من هذا العطاء الذي تملكه فاطمة الجهنية.
اكتشفت ان أمي قد أعدت كفنها منذ أكثر من عشرين عاماً اشترته من قماش اختارته وغسلته بماء زمزم ووضعت معه الكافور والحنوط، وأعطت والدي نصفه وأبقت نصفه لها، ولكن خالتي مريم توفيت فقدمت أمي كفنها لأختها، ثم عملت كفناً آخر، ثم توفي خالي ابراهيم فأعطته كفنها، وعملت آخر مغسولاً بماء زمزم، ولكن امرأة تعرفها أمي ولا نعرفها نحن توفيت فأرسلت الكفن لها، ثم اعدت كفنها الاخير الذي اخذته معها الى جنات النعيم، وستقول لوالدي ان هذا بدل ذاك ولن يلومها فقد عرف برها وعطاءها.
كانت آخر حركة عملتها في حياتها هي ان تهاوى جسدها بجانب السرير وقد همت بالقيام متحاملة على نفسها لأنها تريد ان تنظر في الثلاجة لأن فيها بعض خضار جاءت للتو من المزرعة وكانت أمي قد امرت الخادمة بتقسيم بعض ربطات التمر لتوزيعها على الجيران وقررت ان تضع مع التمر خضاراً، ولكن جسمها هذه المرة لم يتمكن من مساعدتها وتهاوى على جانب السرير لتمضي بعده الى المستشفى وتقيم هناك ستة اسابيع قبل ان تعود النفس المطمئنة الى ربها راضية مرضية.
حينما أخذنا النعش في تلك العصرية البهية بالحب والرحمة لاحظت ان شيئاً ما أسود اللون يتحرك وحده وعجبت من شيء لم أفهم سره وتلفت عاجزاً عن السؤال فقال المغسلون: هذه جنازة لطفل رضيع ليس له نعش، ووضعناه مع أمك في نعشها، الله أكبر هذه هي الجهنية احتضنت الرضع ووضعت الكل في صدرها الحنون وعاشت محبة ومعطاءة، وهاهي تذهب الى ربها وفي حضنها طفل رضيع تزفه معها الى الجنة. تقول البنات وقد غسلنها انهن رأين نوراً يشع في جسمها كله، وكلما خنقتني الدموع تهدؤني فوزية وتقول ان وجهها كان مبتسماً وهن يغسلنها وكأنما كانت تتحدث الى البنات، او انها تبدي امتنانها لهن اذ كانت أمنيتها ألا يغسلها سوى بناتها.
تلك أمي الجهنية، فاطمة الصالح الجهني، حبي وقلبي ومفخرتي، تلك التي علمتني أن الحب عطاء وعلمتني ألا أغار من المحبين، وتلك هي أمنا الجهنية. لك الرحمة يا أماه، ويارب اجعلني مثلها في القلب المحب والمعطاء.
عبدالله محمد الغذامي
لتشاركني الرضاعة من لبن أمي، كانت خالتي مريضة وانقطع لبنها وجاء صدر أم عبدالرحمن ليسقي جوع الصغيرة مع الصغير، ثم ما لبث ان جاء محمد الحميميدي، وجاءت مزنة وجاء حمد، واشتركنا نحن الخمسة في لبن الجهنية، وجاءت خالتي موضي تتوكأ على عصاها ناهضة من فراش المرض لتمسك بالولد المبارك وتدعو لها، إذ بارك الله بلبنه حتى عم ابنتها المكلومة وشمل ثلاثة معهما، لم أكن أعلم شيئاً عن هذا حتى حدثتني أمي عن ذلك ونحن في مكة المكرمة وكنا نشرب الشاي قبالة الحرم الشريف وأمي تحدثني عن زمان كان وعن أهل مضوا، واغرورقت عيناي بالدموع حينما قالت لي أمي عن دعوة خالتي التي ماتت منذ أربعين سنة، كانت دعوة قوية ومؤثرة للولد الذي ترك لبنه للجميع، وإن كانت أمي قد احتفظت بسر تلك الدعوة كل تلك السنين فأنا لن أبوح بها لأنها أكبر من أن تعلن او أن تستباح، لقد كانت دعوة من الدعوات التي يتمناها كل قلب مفعم بالأمل، ولله كيف لمست خالتي أدق تفاصيل أماني طفل لم يتبين عوده بعد، لم يكن لي سوى الدموع والدعاء لخالتي، ثم أحببت أمي كأن قد رأيتها للتو، وبدأت أتعلم سر الجهنية التي أحبها الجميع.
سكنت أسرتي في عنيزة وتنقلوا بين أكثر من عشرة بيوت في عشر حارات، وما غادرنا حارة من هذه الحارات إلا ورأيت نساء الحي يأتين الى بيتنا باكيات ومودعات وكأنهن في مأتم بسبب رحيل الجهنية، كانت أما للجميع وهم يودعون أمهم، ولقد رأيتهم كلهم في العزاء في العاشر من صفر 1424هـ ، حيث جاء كل جيراننا على مدى ستين عاماً من كل حارة من حارات عنيزة، وكانت دموعهم أكثر من دموعنا، وصرنا نعزيهم وقد كانوا جاءوا ليعزونا، وكل يتحدث عن أمه، ولم أكن أغار من هذه المشاركة في حقي بأمي.
لم أكن أتصورها إلا وهي حاملة بيدها شيئاً، ترتبه وتقسمه الى أقسام ثم تستدعي حازم واسامة ابني صالح، وتعطيهما التعليمات، حيث توزع الحزم على الجيران والاقارب والجيران القدامى في الحارات السابقة، وهذه أكياس من تمر، وتلك أواني لبن، وتلك حزم خضار وفاكهة أتت بها من المزرعة، وكل صباح كانت تأخذ الهاتف وتسأل عامل المزرعة عن الناضج من التمر والخضار بكل التفاصيل الضرورية، وتعطيه تعليماتها كيف يقطف المستوى ويحضره الى البيت، واذا جاءت المحاصيل للبيت لا تبقى سوى ما يحتاجه توزيعها من وقت لكي تتحرك متجهة الى وجهات تعرفها أم عبدالرحمن، وكم عجبت لها وهي تعتني بالحليب حينما يأتي من المزرعة في حلة كبيرة، فتقوم في ترويبه ثم خضه ثم توزيعه ولا يرتاح لها خاطر حتى تراه قد استقر في بيوت تحددها وتبرمج التوزيع فيها يومياً، وكم ترجيناها ان تترك ذلك للخادمات او تريح نفسها ولو حينما يعركها المرض، غير انها كانت تقوم من فراش مرضها لتعمل واجبها اليومي ثم تعود للمرض ثانية بعد ان اخذت مهلة تعاهدت مع مرضها عليها وكان الالم يتسامح معها حتى تؤدي هذا الواجب.
كان اخواتي واخواني يتألمون من اجلها وهي تلزم نفسها بكل هذا، ولكنني لم أكن أعجب، واعود لنفسي وأتذكر الخمسة الذين كانوا يرضعون من صدرها على مدى عامين ولم تكل ولم تضجر ولم تبخل وكانت تتلقى الدعاء بابتسامة وفرح.
لم أشاهد أحداً يخرج من بيتنا قط دون أن يكون في يده شيء، حزمة جزر او ربطة تمر او حتى لفة جرجير، ومهما كان شأن الآتي وعمره ومقامه فإن الجهنية لن تتركه يخرج خالي اليدين، وكنا احياناً نخجل من بعض الزوار الذين لا نرى حاجتهم لما تعطيهم ولكنها لاتأبه بخجلنا ولا ترتاح حتى تعطي مما في البيت مهما كبر او صغر، ومرة كنت في عنيزة بعد غيبة طويلة في البعثة، وشاقني ان أتذوق نوعاً من التمر، اسمه قطارة، وخرجت بعد الفجر مباشرة الى السوق لأشتري ما يمكنني ان أجده منه، ولقد وجدت غضارة صغيرة بعد جهد جهيد ومساعدات من الباعة في الحلقة، اذ ان موسم التمر ما زال على مشارفه، ولقد عدت للبيت فرحاً بهذا الطعم الذي سأمتع نفسي به بعد طول تمن وتشوق، وقررت ان أنام بعض الوقت على ان أتناول التمر بعد اليقظة مرجئاً فرحتي به الى مزيد من الحلم والتشوق، ولكنني حينما صحوت لم أجد التمر وعجبت من غيابه وقد كنت وضعته بيدي في الثلاجة، غير انني اكتشفت ان زائراً جاء اثناء منامي يسلم على أمي فأعطته ما وجدت في الثلاجة من تمر وكانت تبحث عن أي شيء تعطيه له ولم تجد سوى قطارتي، التي ما زلت أتذكرها وأفرح اذا صارت سبباً لفك الحرج عن أمي وتحقيق رغبتها في العطاء ولولا تلك الغضارة لتنكد خاطر الجهنية ذلك اليوم لأنها لم تبذل فيه.
فوجئت مرة بأمي وهي تتكلم كلمات انجليزية وكان ذلك وهي ترقد مريضة في أحد مستشفيات الرياض الكبيرة، والتقطت عدداً من الكلمات من الممرضات وأضافتها الى كلمات تعلمتها من شغالة قديمة كانت تعمل في بيتنا، وصارت تستعمل هذه الكلمات لمساعدة المريضات الأخريات في الترجمة، ونشأ بين أمي والممرضات علاقة عجيبة، وكلما زرت المستشفى وجدت ترحيباً خاصاً بي لأنني ابن فاطمة، حتى صار يوم وجئت ولم أجد أمي في غرفتها ولم أعثر عليها في أي موقع قريب، وبدأ القلق يساورني حتى جاءتني ممرضة وقالت لي ان فاطمة تقوم في جولة على المريضات ولم أتمالك نفسي من الدخول في مزاح مع الممرضة عن أمي نتيجة لفرحي بسلامتها أولاً ولم أعلم أن الممرضة ستزيد من عجبي إذ قالت لي فاطمة توزع بركاتها على المريضات، واكتشفت أن أمي كانت تدور على السرر وتقرأ على المريضات آيات من القرآن، وكانت المريضات يستدعين أمي من غرفة الى غرفة لتقرأ عليهن وشاع اسم فاطمة بينهن في وقت قصير، وحينما خرجت من المستشفى كان منظر توديعها والدعاء لها من النساء في العنابر لا يجد مني سوى دموع تشبه دموعي حينما حدثتني أمي عن خالتي موضي والاطفال الذين ارضعتهم معي، ولقد اقترحت رئيسة الممرضات تعيين أمي في علاقات المرضى لتأهيل المريضات للعمليات وبعد العمليات. ولقد تمنيت عندها أن يهبني ربي جزءاً من هذا العطاء الذي تملكه فاطمة الجهنية.
اكتشفت ان أمي قد أعدت كفنها منذ أكثر من عشرين عاماً اشترته من قماش اختارته وغسلته بماء زمزم ووضعت معه الكافور والحنوط، وأعطت والدي نصفه وأبقت نصفه لها، ولكن خالتي مريم توفيت فقدمت أمي كفنها لأختها، ثم عملت كفناً آخر، ثم توفي خالي ابراهيم فأعطته كفنها، وعملت آخر مغسولاً بماء زمزم، ولكن امرأة تعرفها أمي ولا نعرفها نحن توفيت فأرسلت الكفن لها، ثم اعدت كفنها الاخير الذي اخذته معها الى جنات النعيم، وستقول لوالدي ان هذا بدل ذاك ولن يلومها فقد عرف برها وعطاءها.
كانت آخر حركة عملتها في حياتها هي ان تهاوى جسدها بجانب السرير وقد همت بالقيام متحاملة على نفسها لأنها تريد ان تنظر في الثلاجة لأن فيها بعض خضار جاءت للتو من المزرعة وكانت أمي قد امرت الخادمة بتقسيم بعض ربطات التمر لتوزيعها على الجيران وقررت ان تضع مع التمر خضاراً، ولكن جسمها هذه المرة لم يتمكن من مساعدتها وتهاوى على جانب السرير لتمضي بعده الى المستشفى وتقيم هناك ستة اسابيع قبل ان تعود النفس المطمئنة الى ربها راضية مرضية.
حينما أخذنا النعش في تلك العصرية البهية بالحب والرحمة لاحظت ان شيئاً ما أسود اللون يتحرك وحده وعجبت من شيء لم أفهم سره وتلفت عاجزاً عن السؤال فقال المغسلون: هذه جنازة لطفل رضيع ليس له نعش، ووضعناه مع أمك في نعشها، الله أكبر هذه هي الجهنية احتضنت الرضع ووضعت الكل في صدرها الحنون وعاشت محبة ومعطاءة، وهاهي تذهب الى ربها وفي حضنها طفل رضيع تزفه معها الى الجنة. تقول البنات وقد غسلنها انهن رأين نوراً يشع في جسمها كله، وكلما خنقتني الدموع تهدؤني فوزية وتقول ان وجهها كان مبتسماً وهن يغسلنها وكأنما كانت تتحدث الى البنات، او انها تبدي امتنانها لهن اذ كانت أمنيتها ألا يغسلها سوى بناتها.
تلك أمي الجهنية، فاطمة الصالح الجهني، حبي وقلبي ومفخرتي، تلك التي علمتني أن الحب عطاء وعلمتني ألا أغار من المحبين، وتلك هي أمنا الجهنية. لك الرحمة يا أماه، ويارب اجعلني مثلها في القلب المحب والمعطاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..