عادل الماجد :
لعلم الله تعالى بضعف البشر وتغير
أحوالهم , أرسل لهم رسولاً مثلهم مع الكتاب المنزل ,وتدرج في التشريع لمراعاة
واقع الناس, وجعل من أصول التشريع الرخص ورفع الحرج وأن الضرورة تبيح
المحظورات
والإكراه من موانع التكفير ,ولو كان صريحاً, وسعة للناس جعل الأصل في عمارة
الأرض وتعاملاتهم الدنيوية الإباحة, وأن تحصيل المصلحة ودرء المفسدة ,وارتكاب
أدنى المفسدتين لدرء أعظمهما ,وترك مصلحة لتحصيل أعظم منها من الشريعة كالدليل,
وشرع تقديم اليقين على غلبة الظن, وغلبة الظن على الشك ,والعمل بالشك في مقابل
الوهم. كل ذلك جاء لما يقع بين نظرية التشريع وواقع الناس من التفاوت مما يستوجب
اجتهاد المجتهدين, وعذر المخطىء .
لذا كان عليه الصلاة والسلام يقدم
النظرية باعتبار إمكانات الواقع قبل التشريع وبعده, فتشريع الحدود جاء بعد
الهجرة وبعد سنوات من البعثة,وبعد التشريع ترك قتل عبدالله بن ابي بن سلول رغم
استحقاقه القتل بحسب النظرية لردته ولشتمه النبي صلى الله عليه وسلم,ولكن واقع
الحال بمعطياته جعله يترك الحكم وراعى مصلحة كبرى ودفع مفسدة عظمى في وقت دعوة
عموم القبائل خارج المدينة, وقال : لئلا يقول الناس إن محمدا يقتل أصحابه. ولكن
هذه الموازنة بين المصالح والمفاسد لم تغير النظرية, ولم تلغ حد الردة والشتم
للنبي صلى الله عليه وسلم, بل إن ترك إقامة الحدود تحسبا لقول الناس ليس نصاً
جديداً في النظرية رغم وقوعه عملياً وصحة نقله ,لأنه تعطيل مؤقت لمصلحة بعينها
من مجتهد معتبر ,لذا لم تنعكس على النظرية.
ورغم اكتمال الشرع, أوصى عليه الصلاة والسلام بسنة الخلفاء من بعده ,ووصفهم
بأحقية الاجتهاد, ووصفهم بالراشدين المهديين, وحث على سنتهم في تفسير الوحيين
وبفهم مراد التشريع, وتحصيل المصالح واكمالها ليكونوا قدوة للأمة في فهم التشريع
وتطبيقه.
فعندما عطل أمير المؤمنيين عمر بن الخطاب رضي الله عنه حد السرقة في عام الرمادة
,فهو اجتهاد في واقعة عامة تقوم على مصلحة راجحة تحقق مراد الشرع من مجتهد
معتبر, وهي لا تبدل النظرية ,ولا تنسخها ولا تربط الفقر العام بتعطيل الحد, إنما
لمجتهد فرد أو منظومة واجبة الطاعة شرعاً النظر لواقعة فيها نص ثابت أن تعطل
مؤقتا لمصلحة راجحة حتى تزول مسبباتها, مع بقاء حكمها وفهمها لا يغيره اجتهاد
ولو كثر.
وعندما ولي عمر بن عبدالعزيز
الخلافة كانت النظرية بعيدة عن واقع الناس الذي وقع فيه التفريط من جوانب عدة,
وهذا الإمام العالم العادل يدرك أن تطبيق النظرية على الناس واجبه الشرعي
,ومسؤوليته الأولى في الدنيا والآخرة, رغم ذلك لم يستجب لابنه عبدالملك الذي
أراد إقامة النظرية فورا وقال لابنه : إن حملت الناس عليه جملة تركوه جملة.
وخرجت الخوارج في كل عصر لتطبيق النظرية مكتملة ,وخرج الزيغ استجابة للواقع
لتبديل النظرية ونشأ الصراع بأدواته للمفارقة بين نظرية مكتملة وواقع مفكك. ومن
نظر في تراث الطرفين وجد تراثا ساخطا ينقم على الأمة قصورها في تحقيق النظرية
,وإن كان بعضه حقاً إلا أن فيه ما يصل لتكفير الأمة خاصتهم ,وربما عامتهم,
وتراثا آخر كلما عايش واقعا جديدا عاد للنظرية يبدل فيها فتارة يشكك في الصحة
,أو يتكىء على اختلاف الفهم.. وربما جعل الأدلة الصريحة الصحيحة محصورة في زمن
معين.. وجعل طائفة منهم العدل والرحمة هما النظرية ,وما سواها من أحكام تتساقط
أبدياً مع نظرية الواقع.
وبعد الثورات العربية ونغير أنظمة
الحكم .. عاد صراع النظرية والواقع ,وأصر أقوام على صبغ الواقع بالنظرية, وأن
التأخير أو التعطيل قادح في نظرية التشريع, وأنه حكم بغير ما أنزل الله ,وأنه لا
عذر لمجتهد ولا حجة لعالم إن استجاب للواقع على حساب النظرية, وعاد آخرون باسم
الواقع ومعطياته.. وتغير الزمن على النظرية بالحذف والإضافة فكان النزاع بينهما
شديدا, فلم يحررا محل النزاع ,ولا سبب الخلاف الذي يدور أصلاً حول اجتهاد تحصيل
المصالح ما أمكن وتخفيف المفاسد ما أمكن, وأن أولوية الدين والحرية.. والشريعة
والأمة وغيرها من المنازعات هي قفز لأحداث تواجه بنظرية مكتملة وواقعية تستجيب
لمعطيات تختلف من مكان لآخر, ومن شعب لآخر ومن زمن لآخر وأن ترتيب أولوياتها عمل
قدري للمجتهد فيها العمل على تحقيق المصالح ودرء المفاسد والعمل على المقاربة
بين النظرية المعصومة والواقعية الممكنة.
|
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..