السبت، 26 مايو 2012

دروس في الإيجابية

دروس في الإيجابية

 


   

مُعظمُ الناس يَعيشون اليومَ في كهوفِ ذَواتهم بعيدًا عن التفاعُل مع همومِ الآخرين، وقلَّما تجِد اليومَ مَن يمد يدَ العونِ مِن تلقاء نفسِه للآخرين حتَّى، ولو كانتْ أمامَ عينيه ليلَ نهار، ولا تكاد تجِد مَن يُسرِع لنجدةِ ملهوف
طواعية، فضلاً عن أن يُرشدَه لطريقِ الصواب، مع أنَّ دِيننا يرسِّخ في قلوبِ المؤمنين ضرورةَ أن ينفتحَ المرء على
مُجتمعه ويُعايش قضاياه، وقد بيَّن النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه: ((مَن لم يهتمَّ بأمرِ المسلمين فليس منهم))، وما أغفل الناسَ اليوم عن همومِ المسلمين وقضاياهم! وقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليسَ مِنَّا مَن باتَ شبعان وجارُه جائعٌ وهو يَعْلَمُه)).

وكم في قُرانا وأحيائِنا مِن فُقراءَ لا يَجِدون ما يسدُّ الرمقَ! والأعجب أن تقرأَ عمَّن يبحَث في صناديقِ القمامة عمَّا يُقيم الأوَد، وقدِ استوقفتني في سورةِ القَصص ملامحُ متباينةٌ للإيجابية في سيِّدنا موسى - عليه السلام - أولاً، وهو يُسرِع لنُصرةِ قريبه الذي استغاثَ به على الفِرعوني، فإذا به يَقْتُله رغمًا عنه، ورغم أنَّها جريمة في نظَر فرعون ونِظامه، وكانت مِن أكبر ذنوبِ موسى التي استغفَر منها فغَفَر الله له، لكنها نشأتْ عن نخوةٍ ونجدةٍ لملهوف، ثم تَلْمَح إيجابيةً أخرى في الرجلِ الذي جاءَ يُحذِّر موسى: ﴿ إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [القصص: 20]، وكان سببًا في نجاةِ موسى، ولم يقلْ لنفسه: وما شأني أنا، وما الذي يَدفَعُني لخطر مُعاداة فِرعون لو فطن لفِعلي، لكنَّه سارعَ لنجدةِ موسى وتحذيره، مع أنَّه قطَع مسافةً طويلة سعيًا "مِن أقصى المدينة"، ولم يكن مسؤولاً عن تبليغِ موسى ولا الدِّفاع عنه.

وكم مِن خائف لا يجِد في الناسِ إلاَّ مَن يدلُّ عليه ويَزيده خوفًا، لكن موسى - عليه السلام - استوجَبَ نُصرةَ هذا الرجل ولا ريبَ في حسن خُلُقه ونَجدته لمَن استجار به، وهي نخوةٌ يقلُّ وجودُها مع تعاقُب الدهر ومرورِ الزَّمان، فقدْ رأينا في زَماننا مَن يبيع أقربَ الناس إليه بعَرَض مِن الدنيا قليل، وكانتْ نخوة موسى الثانية أروعَ مِن الأولى حين وجد ابنتَيْ شعيب تذودان أغنامهما عن تجمُّع الرِّجال والعبيد الذين يَسْقُون، فقالتَا: إنَّهما لا يخالطان الرِّجال، ولا يَسقيان قبلَ انصرافِهم، وسبب خُروجهما كِبَر والدهما، فلم يقفْ عندَ حدود أن يسقيَ لهما؛ بل رفَع الصخرة العظيمة التي كانت تضيق على الماء فتدفق، وسقَى لهما، وسمَح لكلِّ أهلِ مدين بالسقاية الميسَّرة، ورجعتِ البنتان لأبيهما باكرًا فتعجَّب منهما فقصَّتَا عليه خبرَ موسَى، فأرسلَ إليه يَستدعيه ويؤمِّنه، وقدِ اختلف المفسِّرون في هذا الرَّجُل مَن هو؟ على أقوال: أحدها أنَّه شُعيب النبي - عليه السلام - الذي أُرسِل إلى أهل مَدين، وهذا هو المشهور عندَ كثيرٍ مِن العلماء، وقدْ قاله الحسنُ البصريُّ وغير واحد، ورواه ابنُ أبي حاتم: حدَّثَنا أبي، حدَّثَنا عبدالعزيز الأوسي، حدَّثَنا مالك بن أنس أنَّه بلَغَه أنَّ شعيبًا هو الذي قصَّ عليه موسى القصص، قال ﴿ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [القصص: 25]، وقد رَوى الطبرانيُّ عن سلمةَ بن سعدٍ الغِزِّي أنَّه وفَد على رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال له: ((مَرحبًا بقومِ شعيب وأَخْتان موسى))، وقال آخرون: بل كان ابنَ أخي شعيب، وقيل: رجلٌ مؤمِن مِن قوم شُعيب، وقال آخرون: كان شعيب قبلَ زمان موسى - عليه السلام - بمدَّة طويلة؛ لأنَّه قال لقومه: ﴿ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ ﴾ [هود: 89]، وقدْ كان هلاكُ قوم لوط في زمَن الخليل - عليه السلام - بنصِّ القرآن، وقد عَلِم أنَّه كان بيْن الخليل وموسَى - عليهما السلام - مدةٌ طويلة تَزيد على أربعمائة سَنة، كما ذكَره غير واحد.

وما قيل: إنَّ شعيبًا عاشَ مُدَّةً طويلة، إنَّما هو - والله أعلم - احتراز مِن هذا الإشكال، ثم مِن المقوِّي؛ لكونه ليس بشعيب أنَّه لو كان إيَّاه لأَوْشَك أنْ ينصَّ على اسمِه في القرآن ها هنا، وما جاءَ في بعضِ الأحاديث مِن التصريح بذِكْره في قصَّة موسى لم يصحَّ إسناده، كما سنذكُره قريبًا إنْ شاء الله، ثم مِن الموجودِ في كتُب بني إسرائيل أنَّ هذا الرجلَ اسمه ثيرون، والله أعلم.

قال أبو عبيدة بن عبدالله بن مسعود: ثيرون هو ابنُ أخِي شعيب - عليه السلام - وعن أبي حمزةَ عنِ ابن عبَّاس قال: الذي استأجَر موسى يثرى صاحِب مدين، رواه ابنُ جرير به، ثم قال: الصوابُ أنَّ هذا لا يُدرَك إلا بخبر، ولا خبَرَ تجِب به الحُجَّة في ذلك.

وقدْ جاءَ في قصص الصِّين التراثي أنَّ حاكمًا وضَع للناسِ صخرةً عظيمةً في أحدِ الطرق وترَك مَن يرصد له تصرفاتِ الناس، فمَرَّ أوَّل رجلٍ وكان تاجرًا كبيرًا في البلدة، فنَظَر إلى الصخرةِ باشمئزاز منتقدًا مَن وضعها دون أن يعرفَ أنَّه الحاكم، ودار حولَ الصخرة رافعًا صوتَه قائلاً: "سوف أذهَبُ لأشكوَ هذا الأمْر، سوف نُعاقِب مَن وضعَها"، ثم مَرَّ شخصٌ آخَر، وكان يَعمل في البِناء، فقام بما فعَله التاجر لكن صوتَه كان أقلَّ علوًّا؛ لأنَّه أقل شأنًا في البلاد، ثم مرَّ 3 أصدقاء معًا مِن الشباب الذين ما زالوا يَبحثون عن هُويتهم في الحياة، وقَفوا إلى جانب الصخرة، وسخِروا مِن وضع بلادهم، ووصفوا مَن وضعَها بالجاهلِ والأحمق والفوضوي، ثم انصرفوا إلى بيوتهم، ومرَّ يومان حتى جاءَ فلاَّحٌ عادي مِن الطبقة الفقيرة ورآها فلم يَتكلَّمْ وبادَر إليها مشمِّرًا عن ساعديه محاولاً دفْعَها، طالبًا المساعدةَ ممَّن يمرُّ فتشجَّع آخرون وساعَدوه فدَفَعوا الصخرةَ حتى أبعدوها عن الطريقِ، وبعدَ أن أزاح الصخرةَ وجد صندوقًا حُفِر له مساحة تحتَ الأرض، في هذا الصندوق كانتْ هناك ورَقة فيها قِطع مِن ذهب ورسالة مكتوب فيها: "مِن الحاكم إلى مَن يُزيل هذه الصخرةَ، هذه مكافأةٌ للإنسان الإيجابي المبادِر لحلِّ المشكلة بدلاً مِن الشكوى منها"!

لو توقَّفْنا عنِ الشكوى وبدأْنا بالحلِّ لتحقَّقَ لنا ولغيرِنا الخيرُ الكثير، وهكذا يَنبغي للمرء أن ينشُرَ مساعدته وإحسانَه لأبعدِ مدًى، ولا يقِف عندَ السهل اليسير، وكان جديرًا بموسى - عليه السلام - أن يدفعَ الناسَ عن الماء لو دافَعهم بما عرف مِن قُوَّته، لكنَّه اختار أن يُوسِّع على الناسِ جميعًا.

وفي زَماننا ما أكثرَ أن تجدَ محتاجًا يدفعه الناسُ في غِلظة وتجاهُل، أو سائلاً يردُّه الجميعُ وهو بادِي الحاجة! وما أيسرَ أن ترَى مَظلومًا لا يجِد شهادةَ حقٍّ تردُّ عنه الظلم، ولا نَصيرًا له مِن غير أجْر، سواء على مستوى الأفرادِ أو الجماعاتِ أو الدُّول والأُمم، وقدِ استنزل النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - اللعنةَ على قومٍ ضاعَ الحقُّ بينهم، ووعد اللهُ تعالى دعوةَ المظلوم بالنُّصرةِ ولو بعدَ حين، ورغمَ هذا فقد حكَتِ السورة أنه - عليه السلام - بعدَما سقَى لهما تولَّى إلى الظلِّ وطلب مِن الله الخير، ولو شاءَ لطلَب مِن الفتاتين أجرًا، فكافأه اللهُ بإيواء شُعيب له وتزويجه - وهو غير شُعَيب النبيِّ والأرجح أنَّه مِن نسْله - هذا هو مثالنا الثالث في إيجابية الآباء حِين تَعرِض له حاجةُ ابنته في صورةٍ مغلَّفة؛ ﴿ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ﴾ [القصص: 26]، فلمَح منها الإعجابَ الخفيَّ فلم يتردَّد أن يطالبَ موسى بزواجِها رغمَ ما ورَد من أنَّه أنكر عليها، وقال: وما علمك بقوَّته وأمانته؟! فعرَّفته كيف حمَل الصخرةَ بيديه ووسَّع الماء للناسِ، وكيف طلَب أن يسيرَ أمامَها حتى لا يرَى عورتَها لو بيَّنتها الرِّيح، ولك أن تُراقبَ أفعال الآباء مع أبنائِهم وبناتِهم؛ لتكتشفَ سرًّا من أسرارِ مجافاةِ الأبناء للآباء، ولعلَّ إعجابَ الفتاة بفتًى لو انكشَف لصارَ سببًا وحيدًا لحِرمانها مِن الزواج به، وكان مِن شأن العرَب قبل الإسلام أن يحرموا على الشاعِر مَن يتشبَّب بها في شِعره، وما خبَر قيس وليلى ببعيد!

إسماعيل أحمد محمد

تاريخ الإضافة: 23/5/2012 ميلادي - 2/7/1433 هجري



رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Social/0/41245/#ixzz1vyGgyNcB

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..