قال
لي طالب عربي يحضر الدكتوراه في تركيا: هناك العالم والمفتي والفقيه
يقومون بهذه الأدوار تطوعا لا وظيفة. ولذا تجد احدهم بقالا او محاسبا او
مدرسا، يعيش بين الناس ويمشي في الاسواق ويجلس في المقاهي ويتنقل
بالمواصلات العامة. لذا كان كالسلف الصالح يدرك معاناة السائل وظروفه عندما
يستفتيه في شأن من شئون الدنيا، فيبحث له عن الرخص ولا يعسر له الامور.
قلت:
اما في كثير من بلداننا العربية، فكلما ارتقى بعض رجال الدين في مراتب
العلم والشهرة والمكانة، كلما ازدادوا غنى وجاها ورفاهية وبعداً عن حياة
الناس وأحوالهم، وعن حال السلف الصالح او المرجعيات او ائمة اهل البيت
الذين يتمسحون به.
فصاحب
المعالي والسماحة والفضيلة يتلقى الدخل العالي والهبات والمنح السخية،
ويعيش في الفلل والقصور ويتنقل بالسيارات الفاخرة مع سائقه وسكرتيره
ومرافقه. يداوم قبل الظهر في مكتب فخم ويحجبه عن الناس الحجّاب .. ويغشى
مجالس وديوانيات الوجهاء والمترفين حيث الحفاوة والتكريم وصدور المجالس ..
اما في الاعلام فتمجيد وتعظيم وتكريم.
عندنا
مثلا المظاهر براقة لدى بعض شيوخنا .. فالبشوت والبخور والعود من فخر
الموجود. والاتباع والمريدون والطلاب يحيطون بالشيخ ويدفعون ويدافعون عنه
ويقدمون ويروجون له. ورأيت مثل هذا في اكثر بلداننا، حتى الفقيرة منها، حتى
يبلغ الغرور بصاحب الفضيلة ان لا يقبل منك نقدا او مخالفة ويفسق المخالف
والمعارض حتى ليخرجه من الملّة دون ان أدنى تردد او حرج.
يتصدر
مشايخ الفخامة في عالمنا العربي للقضايا الفكرية ويتباكون على ذنوب
المسلمين، ولكنهم لا يجرأون على التصدي للقضايا التي تتعلق بمصالح الناس
ومظالمهم .. ولا ينتقدون أولياء نعمتهم وحلفائهم واتباعهم. فالقضاة
والمشايخ والدعاة وأصحاب الوجاهة والسلطة والمال خطوط حمراء لا تمس مهما
بلغ الخطأ والخطيئة. فعندما كان رؤساء بلدان الربيع العربي على كراسيهم لم
يجرؤ شيوخ السلطة على نقدهم، بل روج لهم البعض وفصلوا من اجلهم الفتاوي،
ولم يظهر النقد والتبرؤ الا بعد سقوط الانظمة.
اما
ماعدا ذلك من عامة الناس، ومن اصحاب الرأي او المذهب المختلف، ومن لا يحمل
من السيوف الا قلما ولا من الاعاطي الا كلمه، وما يجري في البلدان الاخرى،
عربية ومسلمة وأجنبية، فيستعرض مثل هؤلاء الشيوخ قوتهم وشجاعتهم وحميتهم
للدين، فتصدر الفتاوي والأحكام وتؤلب السلطات والاتباع والعوام، ويبكي لها
على التلفاز!! ولا يهم بعد ذلك ان تشحن النفوس حتى الاحتراب، وتعلق
المشانق، وتوقد نار الفتنة حتى يسيل الدم المسلم والذمي والمسالم في ارض
الاسلام وديار السلام.
في
تركيا، لايصل الفقيه الى مرتبة ومكانة الا بعد ان يدرس ويبحث، ويكتب
وينشر، ويجتاز امتحانات ووسائل قياس وتقييم. وفي عالمنا قد يكون كل المطلوب
أن يقصر الرجل ثوبه ويطلق لحيته ويتخلى عن العقال، او يرتدي العمة
والطربوش والقفطان، ويرتاد مجالس العلم حتى يقول صاحبت فلانا وفلانا من
العلماء واستمعت لهم ودرست على يديهم. ثم يتعين إماما لمسجد، فيلقي الدروس
والخطب، ويصبح رسميا فضيلة الشيخ. هكذا .. لا كتب وبحوث ورسائل علمية، ولا
دراسات وامتحانات وتقييم .. وكان الله بالسر عليم!
ثم
يأتي التحزب .. فلكي تضمن لنفسك ظهرا عليك ان تلتحق بجماعة. والجماعة توفر
لك فرص الظهور والتألق والوصول الى المناصب، وتكون لك عونا وسترا وغطاء.
وفي البلدان الديمقراطية تدعم فرصك في الوصول الى المواقع والمناصب
التشريعية والقضائية والسياسية والإدارية، ولوعلى حساب الأكفأ والأقدر. وقد
يحلل لذلك الكذب والتلفيق والتزوير والنفاق والتلون.
على
ان هناك مقابل بالطبع، فكما تًُخدم عليك ان تخدِم، وان تسمع وتطيع .. ولا
تخرج عن رأي الجماعة ومواقفها وتوجهاتها. والدخول في الجماعة ليس كالخروج
عنها، مهما بلغ قدرك ووصلت مكانتك.
ففي
مصر، على سبيل المثال، عندما قرر عصام ابو الفتوح ان يرشح نفسه لانتخابات
الرئاسة المصرية لم يكتف بفصله من جماعة الاخوان المسلمين رغم انه وصل الى
رتبة عالية، بل تمت محاربته بتقديم مرشح منافس وتوجيه التصويت لمرشح
الاخوان البديل، وإطلاق حملة تشويه سمعة ضده. الانضباط والامتثال يقدم على
حرية الرأي والاجتهاد والاستقلال الفكري.
وهنا،
عندما خرج عن النص الشيخ عادل الكلباني، امام المسجد الحرام السابق،
والدكتور أحمد قاسم الغامدي، رئيس هيئة منطقة مكة المكرمة السابق، بنشر
دراسات تحلل الغناء والاختلاط المنضبط، تم اقصائهما ومحاربتهما والإنقاص من
مكانتهما، ووصل الامر الى التهجم على بيت الغامدي والتعرض لأبنائه.
واذكر
انني كتبت مقالا نال رضا الجماعات، فحظيت باتصالات غير مسبوقة، تشجعني
وتشد من أزري، ولما كتبت بعدها مالا يرضيهم عن عدم جواز الدعاء على اهل
الكتاب الذين لم يقاتلونا او يخرجونا من ديارنا، تمت مناصحتي، فلما اصررت
على الاستقلال بفكري والتوسط بديني، تم إنذاري، وأخيرا اعلنت الحرب علي،
حتى أقصيت من موقعي كمدير تحرير، وانتهيت مديرا للعلاقات العامة، بعيدا عن
العمل الصحفي الذي تخصصت فيه وأنفقت عليه عمري تعليما وتدريبا وممارسة.
وأخيرا تركت الصحافة لاسباب اخرى وتفرغت للتدريس الجامعي.
بعض
الشيوخ في مجتمعاتنا العربية اصبح الواحد منهم كأنه كاهنا، له سمته ومظهره
واسلوبه الذي يميزه عن غيره من العوام، وبات وسيطا بين الخالق وخلقه، يوصل
رسالته، ويتكلم باسمه، ويقاتل ويقتل برايته، ويحكم ويتحكم بقال الله وقال
الرسول .. وقال شيخنا، قدس الله سره. وكأنه باسم الرب يُدخل الجنة ويُخرج
منها، فهذا من السلف الصالح والفرقة الناجية، أو آل البيت والصفوة
المختارة، وذاك من اهل الكفر والفسوق والعصيان.
ويتألى
مثل هذا الشيخ او الملا على الله فيفسر أقداره، فالسيل أصاب اهل البغي
والضلالة، والمطر من رحمة الله ورضاه، وانقطاعه غضب على الناس وعقوبة. حتى
بلغ بأحدهم التألي أن يعلن من منبر الجمعة أن سبب الانقطاع هو فتح باب
السياحة وأنشاء المولات وكثرة الهزار والضحك بين الشباب. ولم يعتذر شيخنا
في الجمعة التالية أو يفسر هطول الأمطار بغزارة بين الجمعتين!
يحكم
الشيخ او الملا على الضمائر ويحاكم القلوب .. فخصومه على ضلال، حتى لو
تابوا، فهذا باطني وصاحب تقيةّ، او ناصبي ومعاد لآل البيت، مهما ابدوا من
التقى والصلاح، وحسن منهم القول والعمل .. اما عن الخاطئ من الجماعة فيقول
(أحسنوا الظن به، وجدوا له سبعين عذرا، وهلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله
عليه، ولا تتبعوا عورات سًترت، ولا تكونوا عونا للشيطان على
أخيكم)، الى آخر الكلام التسامحي الجميل، والذي لا يجوز لغير ربعه. وكأنما
بيده صكوك غفران ومفاتيح جنة ونار يوزعها على من يشاء كما يشاء.
إن
لم تكن هذه هي الكهنوتية والنفاق والتجارة بالدين فماذا تكون؟! فتنوا
وشتتوا الأمة، وشوهوا الدين وأضعفوا شوكته، وشرعنوا التسلط والإرهاب بكل
أشكاله وألوانه، واشغلونا بتوافه الأمور وصغائرها عن عمارة الأرض التي
استخلفنا الله عليها، واضحكوا من جهلنا الأمم. حسبنا الله عليهم ونعم الوكيل.
د. خالد محمد باطرفي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..