الأربعاء، 2 مايو 2012

الأرقام المرعبة للعطش القادم

إلى الأمام الأرقام المرعبة للعطش القادم 3/1


د. جاسر عبدالله الحربش
الأرقام التي سوف ترد في هذه المقالة ليست للتسلية، ويجب أن لا نتعامل معها بهز الرؤوس ثم الصمت. المسألة تتعلق بالمستقبل المنظور واحتمال الموت عطشاً بسبب التفريط الحالي في التعامل السفيه مع مخزوننا المائي المتواضع. علماء المناخ والبيئة والمياه كلهم يحذرون منذ ثلاثة عقود من أن دولا كثيرة ًمقبلة على كارثة مائية، ونحن على رأس القائمة. الكلام في العموميات لا يفيد كثيرا، لذلك سوف أستخدم الأرقام لعلها تفيد أكثر وتساعد على تطيير السكرة والغفلة من عقول يعطلها عدم الاكتراث والتسويف والاتكالية التي يحرمها ويجرمها التشريع الديني قبل العقل والحكمة وتحمل المسؤولية.

الأرقام تقول إن استهلاك المواطن السعودي اليومي من المياه يقع في حدود سبعمائة لتر في اليوم، علما بأن مصدر المياه هذه من تقطير مياه البحر بالأساس وهو الأكثر تكلفة على الإطلاق، والمواطن السعودي يعيش في صحراء ليس فيها سوى بقايا مياه جوفية عميقة تجمعت عبر ملايين السنين وبدأت مناسيبها تنخفض بشكل مخيف. بالمقابل يستهلك المواطن الألماني في مدينة ميونخ تسعين لترا من المياه في اليوم فقط، علماً أن مدينته تقع على ضفتي نهر هادر طوال أيام السنة والأمطار تهطل عليها بمعدل ثلاثمائة يوم في العام الواحد. متوسط استهلاك الفرد في دول الاتحاد الأوروبي الأخرى من الماء لا يتعدى مائة وثلاثين لتراً في اليوم، ويعتبر من يصل هذا الحد مسرفاً وعليه أن يتحمل التكاليف من جيبه لأن تعرفة المياه عندهم تصل إلى عشرين ريالاً للمتر المكعب. عندنا تصل تعرفة المياه إلى اثنين في المائة فقط من هذه القيمة.

ننتقل إلى أرقام مخيفة أخرى. في عام 1980م كان استهلاك المياه في كافة دول مجلس التعاون الخليجي بحدود ستة مليارات متر مكعب في السنة. في عام 2010م وصل الاستهلاك إلى خمسة وأربعين مليار متر مكعب. ذلك يعني أن نصيب الفرد الواحد من سكان مجلس التعاون من المياه المتوفرة في عام 1980م كان 678 متراً مكعباً في العام. لو أن استهلاك الفرد استمر كما كان آنذاك لأصبح نصيب الفرد من المياه المتوفرة في عام 2010م 176 متراً مكعباً فقط، أي بانخفاض مقداره 500 متر مكعب لكل فرد. المصيبة أن استهلاك الفرد لم ينخفض بانخفاض المتوفر من المياه بل ارتفع إلى أرقام فلكية وتضاعف عدة مرات. نحن نتكلم حتى الآن عن الاستهلاك البلدي السكاني للمياه فقط وليس الزراعي أو الصناعي. لكن أين تذهب كل هذه المياه وكيف تهدر؟ هذا الأمر يحتاج إلى توضيح بأرقام مخيفة أخرى.

الاستهلاك البلدي المحلي للمياه يتوزع هكذا:

1- السيفون. 2- غسل الملابس واللوازم المنزلية. 3- الاستحمام.

هذه الأغراض الثلاثة تستهلك ثمانين بالمائة من مياه الشبكة المدنية التي تصل فعلاً إلى هدفها، والباقي يذهب للشرب والوضوء والأغراض الأخرى. مع ذلك يكمن داخل هذه الأرقام رقم آخر يجعل القلب ينقبض والرأس يصاب بالدوار. سبعون في المائة من المياه التي تم ذكرها في خانة السيفون والغسيل والاستحمام والشرب والوضوء تضيع في الطريق قبل الاستهلاك لأنها بكل بساطة تتسرب من الشبكة المائية الرديئة. ركزوا معي، يضيع سبعون في المائة من المياه الواصلة إلى المنازل والمتاجر والعمائر والمؤسسات والوزارات إلى آخر المنشآت المدنية قبل أن يفي بأي غرض، يتسرب ببساطة من الشبكة لأن الأنابيب والسيفونات والحنفيات المستخدمة عندنا بضاعات رديئة ولا تحصل على ما تستحقه من الفحص والصيانة والتجديد. هذا غير ما يتسرب في الشبكة الخارجية قبل أن تصل المياه إلى الشبكات الداخلية الواقعة تحت سيطرة المستهلك.

هناك سبب أهم من كل سبب آخر وراء هذا الاهتراء العقلي والفكري المؤدي إلى اهتراء الشبكة المائية وفقدان سبعين في المائة منها في التسربات، بالإضافة إلى التعامل الاجتماعي مع المياه بهذا الإهمال الذي يصل إلى حد الكفر بالنعمة والتلاعب بمستقبل البلاد والعباد. إنه بالأساس تفاهة القيمة المالية التي يدفعها المواطن مقابل الماء. الماء والبنزين هما أرخص مادتين عندنا رغم أنهما أهم المواد للحياة على الإطلاق لأنها الحياة والطاقة. لذلك يتعامل المواطن معهما بما يصل إلى حدود الكفر بالنعمة.

الحلقة القادمة سوف تتعرض لأرقام أكثر إخافة عن الإهدار المائي في النشاط الزراعي لتكتمل الصورة حول ما نحن مقبلون عليه.

-------------------------------------------
إلى الأمام الأرقام المخيفة للعطش القادم 2/ 3 د. جاسر عبدالله الحربش


في الحلقة السابقة غلبني الحماس للأرقام فغلطت في رقمين، ولذلك وجب التصحيح ومعه تقديم الشكر لمن نبهني إلى الخطأ، معالي وزير المياه والكهرباء والزميل الدكتور محمد القنيبط.

لقد قلت إن استهلاك الفرد السعودي من المياه بلغ حدود سبع مئة لتر في اليوم، والصحيح أن الرقم يقع ما بين مئتين وخمسين وثلاث مئة لتر.علي أن أعترف أن الفرق كبير ولكنني أصر على حقي في الاحتفاظ بمضمون الفكرة وهو الإفراط مقارنة باستهلاك من تعوم بلدانهم على البحيرات والأنهار. كان الرقم الآخر أقل شأناً حين قلت إن التسريب المائي في الشبكات الداخلية يصل إلى سبعين في المئة، والصحيح أن التسريب في جملة المنازل التي تم الفحص المتخصص عليها بسبب الارتفاع غير المتوقع في استهلاكها للمياه وصل إلى حدود السبعين في المئة، ومرة أخرى أحتفظ بحقي في إبقاء الفكرة والمضمون بعد تصحيح الرقم.

الآن أعود بكم إلى صلب الموضوع كما وعدتكم في نهاية الحلقة السابقة. في حين يشكل استهلاكنا البلدي السكاني من المياه حوالي عشرة بالمئة من الاستهلاك الإجمالي فإن التسعين بالمئة الأخرى تذهب للأغراض الزراعية والصناعية. المصدر الرئيسي للمياه عندنا هو المياه الجوفية (حوالي تسعين في المئة)، وتستهلك الأغراض الزراعية وحدها قرابة ثلاثة وثمانين في المئة من الاستهلاك الكلي، وهذا هو الرقم الاعتباري الأول في هذه الحلقة.

خلال الثلاثين عاماً الأخيرة وحتى عام 2010م استهلك القطاع الزراعي حوالي خمسمائة وأربعين مليار متر مكعب من المياه الجوفية من الطبقات الجيولوجية الرئيسية لمكامن المياه غير المتجددة. هذه الخمس مئة وأربعون مليار متر مكعب تعادل إنتاج محطات التحلية للمملكة لمدة خمسمائة عام عند تشغيلها بالطاقة القصوى. هذا هو الرقم الاعتباري الثاني.

في السطور التالية سوف تواجهون العديد من الأرقام الاعتبارية فاستعدوا رجاءً لذلك.

إنتاج لتر واحد من الحليب يستهلك خمسمائة لتر من المياه.

إنتاج كيلوجرام واحد من الحبوب يستهلك ألفي لتر من المياه.

إنتاج كيلوجرام واحد من اللحوم الحمراء يستهلك خمسة وعشرين ألف لتر من المياه.

إنتاج بطيخة واحدة تزن عشرين كيلوجراما يستهلك خمسة عشر ألف لتر من المياه.

لن أتعرض لاستهلاك التمور من المياه لأنني أحب التمر ولأنه جزء لا يتجزأ منا روحانياً وجغرافياً ووطنياً. الجدير بالملاحظة هنا هو أن هذه المياه الجوفية الذاهبة للزراعة بعضها صالح للشرب بدون تحلية وبعضها يكاد يكون كذلك والبعض الآخر لا يتعدى تركيز الملوحة فيه العشرة في المئة من ملوحة مياه البحر. هذا يعني أن تكاليف تحلية المياه الجوفية لأغراض الشرب عند الحاجة لا تكاد تذكر عند المقارنة بتكاليف مياه البحر مضافاً إليها تكاليف النقل من السواحل إلى الداخل.
--------------------------------------
إلى الأمام الأرقام المخيفة للعطش القادم 3-3 د. جاسر عبدالله الحربش

لكن: ماذا عن الأرقام في زراعة الأعلاف؟. في عام 2010 م استهلكت زراعة الأعلاف حوالي أربعة وثلاثين في المئة (34 %) من إجمالي الاستهلاك الزراعي للمياه، وشفطت من مياهنا الجوفية غير المتجددة في ذلك العالم 4.9 مليار متر مكعب. هذا هو الرقم الاعتباري الأول في مجال الأعلاف، أي 4.9مليار متر مكعب مياه في عام واحد. هذا الرقم يعني أيضاً توفير 4.9 مليار متر مكعب من المياه سنوياً عند التوقف عن زراعة الأعلاف واستيرادها من الخارج، ويعني أيضاً ما يعادل إنتاج كافة محطات التحلية بالمملكة لمدة أربعة أعوام. عندما نحسب تكلفة المياه المستخدمة لزراعة الأعلاف كقيمة بديلة للمياه المنتجة عن طريق التحلية، ونضيف إلى ذلك تكاليف نقلها إلى الداخل فإننا نحصل على التالي: إنتاج المملكة السنوي من الأعلاف لعام 2009 كمثال بلغ حوالي ثلاثة ملايين طن بتكلفة حوالي اثنين وثلاثين مليار ريال، وإذا أضفنا إلى ذلك سعر الديزل المدعم حكومياً للمزارعين نصل إلى قرابة ستة وثلاثين مليار ريال لإنتاج ثلاثة ملايين طن من الأعلاف في عام واحد. أرجو من القارئ أن يحتفظ بهذه الأرقام في الذاكرة لأنه سوف يحتاجها لاحقاً عند متابعة القراءة.

سعر الشراء العالمي للأعلاف (البرسيم كمثال) سوف يكلفنا لنفس الكمية الموازية للإنتاج المحلي السنوي قرابة الثلاثة مليارات ريال فقط، وهذا أقل من سعر الديزل المدعوم وحده البالغ حوالي أربعة مليارات ريال في العام. علينا أن نتذكر الآن تلك الستة والثلاثين مليار ريال المذكورة أعلاه ونخصم منها أربعة مليارات ريال فماذا سوف نوفر؟. سوف نوفر بكل بساطة اثنين وثلاثين مليار ريال في العام الواحد وسوف نبقي في جوف أرضنا أمنا الغالية 4.9 مليار متر مكعب من المياه.

لن أتعرض لهبوط مناسيب المياه في مكامننا الجوفية لأنه مقلق جداًَ، ولأن في أرقام الاستهلاك السنوي منها ما يكفي للاعتبار والتحذير.

أيها الإخوة والأخوات تعبت وأتعبتكم مع الأرقام؛ فهي أسرع طريق لإثارة الشعور بالصداع والإرهاق فلنتوقف.

هناك أناس يحاججون بالأمن الغذائي والمحافظة على الثروة الحيوانية ومشتقاتها ويحذرون من الاعتماد على الخارج. المواطن لا يشكك في وطنيتهم لكنه يعرف بالتأكيد حرصهم على مصالحهم الشخصية مثلما يعرفون. أريد منهم فقط الإجابة على سؤال واحد : أيهما أفضل الشعور بالجوع أم الموت بالعطش؟.

في الختام، أتوجه بالشكر الجزيل إلى معالي وزير المياه والكهرباء على تعقيبه الهاتفي وتصحيحه لبعض الأرقام الخاطئة في الحلقة الأولى، كما أشكر الزميلين الدكتورة خيرية السقاف والدكتور محمد القنيبط على ما أبدياه من تأييد لفكرة المقال. مع الشكر أتمنى على الدكتور القنيبط أن يساهم برأيه العميق وقلمه الأنيق حول هذين السؤالين:

1 - هل ثمة حلول علمية متوافرة لاستنبات أعلاف بديلة على شواطئ البحار تستطيع النمو على المياه المالحية وهواء البحر المشبع بالرطوبة. أذكر مثلا ً شيئاً قرأته عن نبتة الهوهوبا. ولكن في مجال اقتصاد الزيوت.

2 - ماهي تفاصيل ما حدثني عنه عن نجاح إسرائيل في إعادة تدوير المياه المستهلكة بنسبة تفوق كل دول العالم بمراحل، وأين نسبتنا نحن في هذا المجال.

أخيرا ً، لعل مراكز البحث العلمي في جامعاتنا تطلعنا على إنجازاتها في مجالات البحث عن حلول مستقبلية للعطش والجوع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..