• علي ومعاوية..
• فرق الخوارج.
• جدال الخوارج.
• معاملة الخوارج.
• نظرة المستشرقين للخوارج.
• كلمة أخيرة.
علي ومعاوية:
انتهت موقعة الجمل- كما مر بنا منذ قليل-
دون أن تسفر عن نتائج ذات بال فكانت أشبه بتشابك بين الإخوة سرعان ما انفض.
ولم تترك أثرًا إلا بعد مدة طويلة من نشوبها أعني عندما تكونت الفرق
الإسلامية فيما بعد
وبدأت تبحث وتقوم أعمال المشتركين في هذه المعركة حسب
ما أوضحناه آنفًا.
وأبرز ما يلاحظ هنا أن أنصار المعسكر
المعادي لعلي لم تكتمل له صورة الجماعة ذات المنهج الفكري الموحد كما فعل
الخوارج في أعقاب موقعة صفين؛ لأن طلبهم كان محصورًا في المطالبة بدم
عثمان.
ثم نشبت معركة صفين فكانت أشبه بانفجار ذي
دوي شديد ألقيت فيه قنبلة التحكيم ففجرت في الحال قيام الخوارج فأصبحت
بذلك موقعة صفين من الموضوعات التي استأثرت باهتمام الباحثين للغوص في
أعماقها واجتلاء خباياها.
ويحق وصفها بأنها كانت حربًا ضروسًا أوشكت
أن تفني المسلمين، وتذهب بمجدهم وتمحو آثارهم.... ولولا أن تداركلم عناية
الله بصلح حقن من دماء الفريقين وحفظ عليهم بقية من أبطالهم وأمجادهم لتغير
وجه التاريخ الإسلامي[1].
وكان معاوية ممن رأى أن بيعة على لم تنعقد
لافتراق الصحابة أهل الحل والعقد بالآفاق وأنه يجب المطالبة بدم عثمان
أولًا ثم يجتمعون على إمام[2].
وكانت حجة علي التي استند إليها أن البيعة
التي تمت له قد عقدها نفس القوم المبايعون أبابكر وعمر وعثمان قبله. وتمت
عن شوري المهاجرين والأنصار فلا معنى لخروج أحد عن هذه البيعة التي أجمع
عليها هؤلاء وأولئك وإلا حق على الخارج عن الجماعة أن يُقاتل.
أما عن قتلة عثمان، فإنه طلب من معاوية في
أحد كتبه إليه أن يدخل فيما دخل فيه المسلمون ثم تأتي الخطوة التالية وهي
محاكمة القوم فيقول: (ثم حاكم القوم إلى أحمدك وإياهم على كتاب الله).
ولمن كتابه أيضًا إعلان براءته من قتل عثمان: (ولعمري لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدني أبرأ قريش من دم عثمان)[3]. هذا هو دفاع على عن حقه في الخلافة.
أما معاوية فإنه يبرر موقفه بأنه مطالب بدم عثمان الذي قتل مظلومًا ولأنه موليه ويؤيد مطالبته بقتل قاتليه بقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا﴾ [الإسراء: 33].
وقد أجابه أهل الشام إلى طلبه حيث بايعوا وأوثقوا له: (على أن يبذلوا أنفسهم وأموالهم أو يدركوا بثأره أو يفني الله أرواحهم)[4].
ومن العجب أن علي بن أبي طالب قد عاق من
أصحابه الأمرين- اللهم إلا القليل - أمثال عمار بن ياسر، وحجر بن عدي، وابن
عباس إذ يذكر اليعقوبي أنهم في موقعة صفين لم يسمعوا لنصحه عندما أخبرهم
بأن رفع المصاحف مكيدة وليس رافعوها بأصحاب قرآن.
وأصروا أيضًا على إيفاد أبي موسى الأشعري
بدلًا من تحقيق رغبته في توجيه عبدالله بن عباس، فاضطر اضطرارًا للخضوع
لمشيئتهم خشية افتراقهم عنه.
وتحفل كافة المصادر بما عاناه من أصحابه،
نختار منها مقتطفات من إحدى خطبه إذ قال: (وقد دعوتكم إلى حرب هؤلاء القوم
ليلًا ونهارًا وسرًا وإعلانًا وقلت لكم اغزوهم من قبل أن يغزوكم فوالدي
نفسي بيده ما غزى قوم قط في عقر دارهم إلا ذلوا فتخاذلتم وتواكلتم وثقل
عليكم قولي واتخذتموه وراءكم ظهريًا حتى شنت عليكم الغارات... يا عجبًا كل
العجب عجب يميت القلب ويشغل الفهم ويكثر الأحزان من تضافر هؤلاء القوم على
باطلهم وفضلكم عن حقكم فأنتم والله من السيف أفر يا أشباه الرجال...... ولا
رجال)[5].
ومما يثير التعجب بقدر أكبر أن الشيعة فيما بعد قد تحدوا عليًا،
فوضعه الغلاة فوق مستوى البشر. واعتدل بعضهم فاعتبروه أحق بالخلافة من أبي
بكر وعمر!! وكان الأجدر الوقوف إلى جانبه في هذه الآونة العصيبة وتعضيده
والإنصات إليه والاستماع إلى نصحه فالدلائل تشير إذًا أن فرقة (الشيعة)
بالمعنى الفني لها لم تكن قد تكونت بعد حتى في عهد علي. وإلا لقامت
بواجبها نحوه، ولكن الذي حدث أن هذا التمجيد جاء في مرحلة تالية عندما صيغت
النظريات وحين استحال (العمل) وأصبح الممكن هو تدبيج النظريات فحسب.
يقول ابن خلدون بعد أن بين الخلاف الذي
حدث بين الصحابة في العصر الأول (إلا أن أهل العصر الثاني من بعدهم اتفقوا
على انعقاد بيعة علي ولزومها للمسلمين أجمعين وتصويب رأيه فيما ذهب إليه
وتعيين الخطأ من جهة معاوية ومن كان على رأيه)[6].
وظل أهل السنة في العصور التالية أيضًا
يؤيدون عليًا. فالبغدادي يذكر عنهم أنهم كانوا يرون الصواب مع علي وأن
معاوية وأصحابه بغوا عليه حيث تأولوا خطأ ولكنهم لم يكفروا[7] كما يقرر الباقلاني أن عليًا أصاب فيما فعل وله أجران وأن الصحابة قد صدر منهم ما كان باجتهاد فلهم الأجر لا يفسقون ولا يبدعون[8].
نعود بعد هذا إلى النتيجة المباشرة التي نجمت عن موقعة صفين،
وهي ظهور فرقة الخوارج التي نخصص لها الجزء الأكبر من هذا الفصل حالها -
كما يرى الدكتور الريس- أول حزب سياسي يتكون في تاريخ الإسلام[9].
وقد نشأ هذا الحزب فور إعلان نتيجة
التحكيم بين أبي موسى الأشعري وعمرو ابن العاص إذ تعالت الهتافات من معسكر
علي: سفر الحكمين (لا حكم إلا لله) وانقلب المؤيدون أعداء وأصبحوا أكثر
خطرًا على علي من جيش معاوية.
والقصة المشهورة عن التحكيم تروي لنا خدعة
عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري إذ تم الاتفاق بينهما أولًا على خلع علي
ومعاوية ثم يفوض الأمر للمسلمين يختارون ما يشاؤون إلا أن أبا موسى خلع
عليا فثبت عمرو معاوية.
ويرجح الدكتور الريس رواية المسعودي لأنها
تتفق مع العقل وتتلاءم مع شخصية أبي موسى الأشعري الصحابي الجليل، لأن هذه
الرواية تنفى حدوث الخدعة، وقد أخذ بالنص المروي عنها حيث قال فيه: (ووجدت
في وجه آخر من الروايات أنهما اتفقا على خلع علي ومعاوية، وأن يجعلا الأمر
بعد ذلك شورى، يختار الناس رجلًا يصلح لها)، وبذلك أصبحت النتيجة الأخيرة
للتحكيم رد الأمر إلى الأمة[10].
وأيًا كانت الطريقة التي تم بها التحكيم،
فالثابت أنها أفرخت أول حزب سياسي هو الخوارج وأضعفت من شوكة علي لأنه اضطر
إلى الحرب في جبهتين.
وهنا نجد أنفسنا أمام حقيقة واضحة هي أن
الخوارج قد سبقوا الشيعة في طرق موضوع الخلافة أو الإمامة لمفهوم الشيعة،
ولكن من المعروف أن نظريات الخوارج لم تكن مصاغة في القالب الفلسفي بل
تتجمع في إطار المناقشات والمناظرات التي ثارت بينهم وبين خصومهم منذ
خروجهم على علي وعلى طول امتداد حياتهم بيد أن هذه المناقشات كما نقلتها
لنا المصادر المختلفة لمنت آراءهم وحججهم لأنها تتلاءم مع طبيعتهم العربية
يما عرف عن العرب من فصاحة وبلاغة نثرًا كان أو شعرًا، ودون حاجة إلى تدوين
هذه الحجج، لأن طبيعتهم تبعد كل البعد عن طبيعة الفلاسفة المنكبين على
صياغة الأفكار والنظريات، لاسيما وأن أكثر العلوم الإسلامية كانت تروى
بطريق المشافهة خلال عصر بني أمية ولم يبدأ (التدوين العلمي)
المنظم إلا في عصر الدولة العباسية، وهي النتيجة المهمة التي وصل إليها
الدكتور الريس بعد بحثه في نشأة البحث العلمي وتفنيده لرأي السير. ت. أرنولد الذي يقول فيه: (إن تاريخ نشأة النظريات غير معروف) أو (إن الوقت الذي وضعت فيه نظريات الخلافة في صيغها النهائية غير متأكد منه)[11].
وإن كانت الشيعة هي الأسبق في الكلام على مذهب الإمامة طبقًا لمعتقداتها فإن نظرية الخروج على الإمام الجائر ونفي اشتراط (القرشية)
وغيرها من أفكارهم التي ابتدعوها حينئذ قد تفجرت على أثر التحكيم وقبل
ظهور الشيعة بوقت غير قصير. بل إن نظريات الشيعة التي نشأت فيما بعد لم تكن
أكثر من رد فعل مضاد لجنوح الخوارج وتطرفهم في تكفير معارضيهم وعلى رأسهم
علي فكان لابد من أن يظهر المدافع عنه وأن يسلك نفس الطريق المتطرف، فمقابل
(تكفير) علي ظهرت فكرة (تأليه) علي بواسطة الغلاة.
وفي هذا المعنى يذكر لنا الشيخ الكوثري أن
نشأة الخوارج نبعت من عاطفة سياسية جامحة فنشأت فرق الشيعة كرد فعل لعمل
هؤلاء تستند إلى عاطفة كتلك العاطفة[12].
فالخوارج إذًا كانوا الأسبق في تناول
موضوع الخلافة، وقد خلص الدكتور النشار إلى إحدى النتائج المهمة التي تتعلق
بموضوعنا، وهي أن المسلمين حتى مقتل الحسين كانوا مسلمين فحسب، لا سنة ولا
شيعة، ولم تظهر فكرة (الوصاية أو الإمامة) فكريًا أو سياسيًا إلا في فرقة
الخوارج[13] أي قبل ظهور التشيع.
فرق الخوارج:
تتعدد وتتضارب مصادر كتب الفرق الإسلامية
في تناولها لفرق الخوارج، وتختلف هذه المصادر في تقسيم فرقهم وذكر أتباعهم
وما اجتمعوا عليه من عقائد وما رفعوه من شعارات، وما اختلفوا فيه من نظرهم
إلى غيرهم من المسلمين.
ومن العسير الوقوف على معتقدات الخوارج من
واقع كتبهم نفسها لحرصهم الشديد عليها، وهي نادرة إن وجدت، فالغالب أن
مكتبات المسلمين عارية من مؤلفاتهم[14].
فالمنهج الوحيد إذًا في بحث فرق الخوارج
هو الرجوع إلى كتب الفرق التي تناولتهم بالتحليل والنقد، خاصة وأنهم ألبوا
عليهم جميع الفرق الإسلامية الأخرى.
وقد اختلف كتاب الفرق في صنوفهم فمنهم من أفرد لهم عددًا كبيرًا كالإمام الرازي الذي عدد لهم واحدا وعشرين فرقة[15]، أو ما يقرب من نصفه هذا العدد كالملطي[16]، بينما جمعهم الإمام الأشعري في أربعة فحسب[17].
فالملطي (377هـ- 987م)- وكتابه من أقدم المصادر للفرق الإسلامية - يجمع بين (الشراة) و (الخوارج) في الاسم ويقسمهم إلى الفرق الآتية:
الأولى:
المحكمة الذين كانوا يخرجون بسيوفهم إلى الأسواق ويجمعون الناس منادين
بشعارهم الشهير (لا حكم إلا لله) ثم يضربون الناس بسيوفهم فيقتلون من
يلحقون به ولا يزالون يقتلون حتى يقتلوا، ولهذا خشيهم الناس.
وهم في دفاعهم عن هذا المبدأ (لا حكم إلا لله)
يعتقدون أنه لا تحكيم في دين الله لأحد من الناس إلا بالغة ولهذا السبب لا
يحكمون بينهم حكمًا، فلما حكم أبو موسى الأشعري بين علي ومعاوية، ثم قام
بخلع علي، كفروهم لأنهم حسب اعتقادهم جعلوا الحكم لأبي موسى الأشعري وينبغي
ألا يكون هناك حكم إلا لله تعالى... وكلهم يكفرون أصحاب المعاصي، ومن
اختلف معهم في مذهبهم[18].
الثانية:
وهم الأفارقة والعمرية أصحاب عبد الله بن الأزرق، ويرجع الشيخ الكوثري
التسمية الصحيحة لهذا الشخص أي نافع بن الأزرق، وأتباع عمر بن قتادة.
وهؤلاء أقل الخوارج شرًا لأنهم لا يرون
إهراق دماء المسلمين، ولا غنم أموالهم ولا سبي أولادهم ويعتقدون أن المعاصي
كفر، ويتبرءون من عثمان وعلي إلا أنهم يتولون أبا بكر وعمر، وهم ورعون
مجتهدون قوامون بالليل لعبادة الله[19].
الثالثة:
أصحاب شبيب الخارجي الذي خرج على الحجاج بن يوسف وكان لا يقتل أحدًا ولا
يشي ولا يستحل شيئًا مما حرم الله إلا ما يستحله من الحجاج وأصحابه فقط،
ولكنه مع هذا كفر السلف والخلف متبرئًا من عثمان وعلي مع توليه للشيخين.
وقد تفرق أصحابه بعد وفاته[20].
الرابعة: هم النجدية (أو النجدات) أصحاب نجدة الحروري، وهو أيضًا ممن يكفرون السلف والخلف.
الخامسة:
وهم الإباضية أصحاب أباض بن عمرو الذين خرجوا من الكوفة فقتلوا الناس
وسبوا وقتلوا الأطفال وكفروا الأمة وأشاعوا الفساد وما زال منهم اليوم
بقايا بسواد الكوفة، هذا ما يذكره الملطي.
أما دائرة المعارف الإسلامية فقد تناولت هذه الفرقة بتفصيل أكبر وذلك لانتشار الحركة الإباضية حتى في عصورنا الحديثة.
فإن هذه الحركة وجدت في بلاد العرب وفي
عمان بنوع خاص تربة خصبة حتى أصبحت بتوالي الزمن المذهب السائد هناك وهي
تتفق بوجه عام مع عقائد السنة باعترافهم بالقرآن والسنة كمصدر للعلوم
الدينية ولا يختلفون إلا بالقول بالرأي- لا الإجماع والقياس- وهو ما يوضح
أكثر الأصل الخارجي لهم[21].
وقد تفرق فهل كثير من الإباضية في صحراء
تونس والجزائر ويعيشون في جماعات حتى الآن ويتصل بعضهم ببعض مع حرصهم
الشديد وتمسكهم بالحماس المتأجج ولهم صلات أيضًا مع الإباضيين في عمان
وزنجبار.
ثم انقسم الأباضيون الأفريقيون ثلاثة أقسام سياسية ودينية على السواء: النكارية، والخلفية، والنفاثية[22].
السادسة:
الصفرية وهم أتباع المهلب بن أبي صفرة، ويرجع الشيخ الكوثري تصحيح الاسم
إلى زياد بن الأصفر، وقد خرجوا أيضًا على الحجاج، ولكنهم لم يؤذوا الناس
ولم يكفروا الأمة ولم يقوموا بشيء من قول الفرق التي تقدم ذكرها.
السابعة: الحرورية الذين يكفرون الأمة متولين الشيخين ويتبرءون من السنتين (عثمان وعلي) ويسبون ويستحلون الأموال والفرو، ويستمدون الأحكام من القرآن فحسب غير قائلين بالسنة أصلًا.
الثامنة:
الحمزية نسبة إلى حمزة الخارجي، وهم يشبهون الحرورية في معتقداتهم غير
أنهم لا يستحلون أخذ مال أحد إلا بالقتل فإن لم يجدوا أصحاب المال لم
يأخذوا من المال شيئًا. فإذا ظهر صاحبه قتلوه واستحلوا المال حينئذ![23].
التاسعة:
الصلتية وهم أصحاب الصلت بن عثمان، ويشتركون مع الفرقتين السابقتين في
شريعتهما، وهم أكثر الخوارج شرًا وأكثرهم فسادًا لأنهم يقتلون غيرهم من
المسلمين ويستحلون الأموال في جميع الأحوال.
العاشرة: وهم الشراة الذين يكفرون أصحاب المعاصي في الأفعال الصغيرة والكبيرة متبرئين من عثمان وعلي متولين الشيخين.
وهم فرقة معتدلة كما تدل عليه معتقداتهم.
فهم لا يستحلون أموال المسلمين ولا سبي نسائهم ولا يخالفون أحكام الدين
سواء كان مصدرها القرآن أو السنة كما أنهم أصحاب كتب تتضمن مذهبهم ولهم
علماء وفقهاء ومروءة ظاهرة والعصاة عندهم كفار نعمة لا كفار شرك.
ويقول الملطي أيضًا: (وقد ظهر فيهم اليوم مذاهب المعتزلة فمنهم من ترك مذهبه وقال بالاعتزال)[24].
ويعرف الشهرستاني (548هـ- 1153م) الخوارج
بمعنى أعم فهم عنده كل من خرج على الإمام الحق الذي اتفقت عليه الجماعة،
ولا يحصرهم بالذين خرجوا على علي فحسب بل تشمل هذه الفرقة (سواء كان الخروج
في أيام الصحابة على الأئمة الراشدين أو كان بعدهم على التابعين بإحسان
والأئمة في كل زمان) ويلحق بهم المرجئة فيما يتعلق بمسائل الإمامة لأنهم
وافقوا الخوارج في هذه المسائل. مع أن المرجئة عنده (صنف آخر تكلموا في
الإيمان والعمل)[25].
وأول من خرج على علي وأشدهم خروجا عليه
وكذلك مرورًا من الدين هم الأشعث بن قيس، ومسعود بن فداك التميمي، وزيد بن
حصين الطائي الذين هددوا عليًا بأنه إن لم يأمر الأشتر النخعي بإنهاء
القتال فإنهم سيفعلون كما فعلوا بعثمان.
وهم الذي دفعوه دفعًا إلى قبول التحكيم في
بداية الأمر، وحملوا على بعث أبي موسى الأشعري وكان علي يرغب في إبقاء عبد
الله بن عباس، ثم عادوا في النهاية فخطأوه قائلين: (لم حكمت الرجال؟ لا
حكم إلا لله).
وكبار فرقهم ستة كما يعددها الشهرستاني: وهم: الأزارقة، والنجدات، والصفرية، والعجاردة، والإباضية، والثعالبي، أما الباقون فمن فروع هؤلاء).
ويرى أن المحكمة الأول هم المقصودون بقول
الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (تحقر صلاة أحدكم في جنب صلاتهم وصوم أحدكم
في جنب صيامهم، ولكن لا يجاوز إيمانهم تراقيهم).
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أيضًا:
(سيخرج من ضئضئي هذا الرجل قوم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)
وهم الذين أولهم ذو الخويصرة وآخرهم ذو الثدية[26].
كما يؤيد ابن حزم انتماء الخوارج إلى ذي الخويصرة هذا[27].
أما البغدادي (429هـ- 1037م) في كتابه (الفرق بين الفرق) فيقسم الخوارج إلى عشرين فرقة أهمها يسميها بالأسماء التالية:
المحكمة الأولى، الأزارقة،
النجدات، الصفرية، العجاردة، (وقد افترقت العجاردة فيما بينها فرقًا
كثيرة) أبرزها اليزيدية أتباع يزيد بن أنيس التي خرجت عن فرق الإسلام
لاعتقادها بأن شريعة الإسلام تنسخ في آخر الزمان بني يبعث من العجم[28].
ويبدو أن كثرة تشعب هذه الفرق قد أتى من
الخلط بين معتقداتهم التي اعتنقوا وبين ما كان يطلق عليهم من أسماء مع
اتفاق المعتقدات فيما بين فرقهم المختلفة. فمما يجعلني أميلُ إلى هذا
الاعتقاد أن الإمام أبا الحسن الأشعري قد جمع فرق الخوارج في أربعة فقط
وهم: الأزارقة والأباضية والصفرية والنجدية، واعتبر أن كل الأصناف سوى هذه
الفرق تفرعوا من الصفرية.
فمن ألقابهم أنهم خوارج، وحرورية، وشراة، ومارقة، ومحكمة.
والسبب في إطلاق هذه المسميات عليهم أنهم
خرجوا على علي بن أبي طالب ولإنكارهم الحكمين أبي موسى الأشعري وعمرو بن
العاص وقولهم لا حكم إلا لله، وبسبب نزولهم بحروراء في أول أمرهم، وكلهم
قالوا شربنا أنفسنا في طاعة الله أي بعناها الجنة.
وهم يرضون بهذه الألقاب ما عدا المارقة فهو اللقب الوحيد الذي يرفضونه لأن معناه مروقهم من دين الإسلام كما يمرق السهم من الرمية[29].
ويرتبط باللقب الأخير ما ألصق بهم من معنى
المروق من الدين استنادًا إلى ما روي عن تقسيم الغنائم في غزوة حنين حيث
آثر الرسول - صلى الله عليه وسلم - نفرًا ترغيبًا وتأليفًا لقلوبهم في
الإسلام، فانبرى له رجل يدعى ذو الخويصرة، فصاح بالرسول: اعدل يا رسول
الله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (ويحك ومن يعدل إذا لم أعدل؟) فقال
النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أصحابه: (إنه يخرج من ضئضئي هذا قوم
يتلون كتاب الله رطبًا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من
الرمية، إنه سيقتلهم قتل عاد إن أدركهم).
ويفسر صاحب البحث عن هذه الواقعة[30]
أن الضمير في يقتلهم يرجع إلى علي، ويعلل ذلك بأنه لم ينوه النبي - صلى
الله عليه وسلم - عليه بالذات لمصلحة يعرفها، وأن مثل هذه الأحاديث التي
تكلم بها فهي من مغيبات الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
أما المستشرق فلهوزن فإنه يورد نص الحديث ليؤسس نتيجة مغايرة، إذ
سأل عمر ابن الخطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - حينئذ ليسمح له بقتله،
فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (لا، دعوه فإنه سيكون له شيعة يتعمقون
في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية ينظر في النعل فلا يوجد
شيء ثم في السوق فلا يوجد شيء سبق الفرث والدم)[31].
وقد اعتبر فلهوزن أن القصة عن هذا السلفي
القديم للجوارح قصة أسطورية ونحا نحوه الدكتور عبد الرحمن بدوي إذ اعتبر ذا
الخويصرة شخصًا مجهولًا تمامًا[32].
ولكن السيد الخطيب الهادي، تأسيسها على
رأيه السابق، يرى أن مبدأ لا حكم إلا لله وكلمة اعدل يا محمد، هما الأساس
لمبدأ الخوارج وعقيدتهم[33].
ولا يدخل في نطاق بحثنا تحقيق هذا الأصل
للخوارج تاريخيًا، ولكن الجدير بالتأمل هو النزعة التي تظهر لأول وهلة عند
فلهوزن بما تحمله من دلالة لنظريات المستشرقين بوجه عام، هذه النزعة التي
تمجد كل رأي يخالف أهل السنة والجماعة، وتبحث وتنقب دون يأس أو كلل عن
المخالفين لأهل السنة لإبرازها وخدمتها وعرضها على أوسع نطاق.
وسيظهر لنا هذا واضحًا عند تناولنا لرأي
فلهوزن عن الخوارج بالتفصيل- الذي سنعود إليه مرة أخرى- لنبين كيف أنه رفع
شأنه فوق المرتبة التي يستحقونها بما أسبغه عليهم من صفات وما نسبه إليهم
من أعمال.
جدال الخوارج:
تحفل المصادر بالجدال والحجاج الفكري بين
علي والخوارج، مما يعطي في مضمونها صورة واضحة عن المعتقدات التي اعتنقها
هؤلاء الخارجون عليه، ويعوضنا بعض الشيء عن التماس آرائهم من كتبهم نفسها.
لقد أعلنوا شعارهم (لا حكم إلا لله) ولكن
عليًا لم يرتج عليه لسماعه هذا الشعار فهو العالم بكتاب الله الذي يعرف
جيدًا أنه لم يحد عنه بقبوله التحكيم، فقال: (كلمة حق أريد بها باطل).
وطلب منهم أن يقارعوا بالحجج فيسمع منهم
ويرد عليهم ففي زعمهم أنهم نقموا عليه خصالًا عديدة، وهي أنه محا اسمه من
إمرة المؤمنين يوم كتب إلى معاوية ولم يضربهم - أي الخوارج - بالسيف حين
نكوصهم عنه يوم صفين وكان واجبه أن يفعل ذلك ليرجعوا إلى الله، وحكم
الحكمين، وزعم أنه وصى فضيع الوصية. ورد عليهم علي مدافعًا عن نفسه في كل
ما وجه إليه.
أما نزع اسمه من إمرة المؤمنين فكان لرسول
الله صلوات عليه أسوة حسنة لأنه قبل أن يتخلى عن (محمد رسول الله) إلى
(محمد بن عبد الله) لأن المشركين في صلح الحديبية لم يقبلوا إلا هذا وحجتهم
في رفضهم أنهم لو آمنوا أنه رسول الله ما حاربوه، وقبل النبي - صلى الله
عليه وسلم - إذ قال: (إن اسمي واسم أبي لا يذهبان بنبوتي وأمري).
ورد على دعواهم بامتناعه عن قتلهم يوم صفين، فاحتج بالآية الكريمة:﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195]، فعزف عن محاربتهم لكثرة عددهم ولقلة أعوانه.
وتحكيمه الرجال أيضًا له من آيات الله أسانيد، فإن الله حكم في إردب يباع بربع درهم بقوله تعالى: ﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ ﴾[المائدة: 95]، فلو استرشد الحكمان بما جاء بكتاب الله (لما وسعني الخروج من حكمهما)[34].
وقد ردد كتاب الفرق الإسلامية مثل حجج علي وزادوا فيها يما أدخلوه من الشروح والتفسيرات لإبطال معتقدات الخوارج كلها.
فالملطي يتساءل: من أين قلتم- لا حكم إلا لله؟ وقد حكم الله الناس في كتابه في غير موضع إذ قال عز وجل في جزاء الصيد[35]: ﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾ [المائدة: 95]، وقال تعالى: ﴿ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا ﴾ [النساء: 128].
وقال: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 35]. وقال: ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾ [الشورى: 10] وأيضًا:﴿ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [النساء: 59] ، وقال: ﴿ وَلَوْ
رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾[النساء: 83].
فهذه هي الآيات العديدة التي جعل فيها القرآن أحكامًا كثيرة إلى وجوه الناس للنظر فيما لم ينزل بيانه من عند الله.
وكيف أحلوا إهراق دماء المسلمين؟ مع أنه
لا يحل دم المؤمن إلا لأسباب ثلاثة: إما زنًا بعد إحصان، أو ارتداد بعد
ايمان، أو قتل النفس عمدًا، فجهلهم إذًا هو الذي أدى بهم إلى إطلاق الحكم
على أهل القبلة بالقتل[36].
والخوارج في جمعهم بين تكفير عثمان وعلي
يستندون على حجة واحدة هي الحكم بغير ما حكم الله فيقولون: (لأن عليًا حكم
الحكمين وخلع نفسه عن إمرة المؤمنين وحكم في دين الله فكفر وعثمان ولي رقاب
المؤمنين ولاة جور فحكموا بغير ما حكم الله فكفر)[37].
والرد عليهم في هذه المسألة يتناول باختصار:
أولًا: أن الله تعالى قد جعل في كثير من الدين الحكم إلى الأفراد لتطبيق ما جاء بالقرآن الكريم كما تبين آنفًا.
ثانيًا:
أن ولاية عثمان وعلي للمسلمين حق، وهما في الأصل كذلك بإجماع لا اختلاف
فيه فإذا تجاهل الخوارج هذه الحقيقة فقد تجاهلوا الإجماع وردوه، لأن هذا
الإجماع على إيمانهما وولايتهما قد ثبت لهم من قبل ولا يزيل إيمانهما
وولايتهما إلا إجماع آخر يثبت العكس، وينفي عنهما ما انعقد عليه الإجماع
الأول.
ثالثًا:
أما إذا ادعى الخوارج أن عثمان وعلي كانا حقًا مؤمنين وليين للمؤمنين
بالإجماع ثم كفرا فالقول مردود بما أصبح عليه حال الخوارج أنفسهم، لأنه
ينطبق عليهم ما روى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإجماع الأمة أنهم مارقة.
ولأن نص الحديث المروي عن رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - صريح في مروقهم من الدين كما يمرق السهم من الرمية،
وواقع أحوالهم فيما بعد تحققت بما جاء بهذا الحديث.
فقد أهرقوا دماء المسلمين وكفروا السلف والخلف واستحلوا ما حرمه الله عليهم، كل هذه الأفعال تشهد عليهم بأهم خرجوا من الدين[38].
هذا فيما يتعلق بمعتقدات الخوارج في
تكفيرهم الخليفتين الثالث والرابع، أما عن تفسيرهم للآيات القرآنية التي
يتسلحون بها في تكفير من يرتكب الكبائر فإنهم يقيسون على قول الله تعالى: ﴿
وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ﴾ [المائدة: 5]. وقوله عز وجل:﴿ إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 3]، وقال:﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ ﴾ [التغابن: 2].
وبهذا فلم يجعل الله منزلة ثالثة تقع
وسطًا بين الكفر والإيمان، (ومن كفر وحبط عمله فهو مشرك والإيمان رأس
الأعمال، وأول الفرائض في عمل ومن ترك ما أمره الله به فقد حبط عمله
وإيمانه، ومن حبط عمله فهو بلا إيمان والذي لا إيمان له مشرك كافر)[39].
والرد الذي يدفع به الملطى هذه التفسيرات
يميل به إلى رأي المعتزلة، فهو يعتبر الخوارج قد أخطأوا القياس في هذه
المسألة لأن الله تعالى بقوله: ﴿ وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً
أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 4]، فوضع الفاسق
في منزلة بين الإيمان والكفر فلم يقرن - عز وجل - الفسق بالكفر بل نص على
فسقهم فحسب. كما لم يقل أنهم بالرغم من فسقهم مؤمنون كما رأت المرجئة.
ومن أخطاء الخوارج أيضًا عدم التفرقة بين الكبائر والصغائر من الأفعال بينما فرق الله تعالى بقوله: ﴿ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا
﴾ [النساء: 31]، فالخوارج إذًا إن (حاولوا حجة في تكفير الأمة لم يجدوا،
وإن جعلوا الذنوب كلها كبائر لم يجدوا إلى الحجة سبيلًا من عقل ولا سمع)[40].
وقد دأب أهل السنة والجماعة على تفنيد هذه
التفسيرات التي يعتمد عليها الخوارج في عرض أرائهم، ولهذا فقد ذكر لنا
إمام من أئمتهم وهو الإمام أبو المعين النسفي (متوفى 508هـ- 1114م) حججًا
أخرى يدفع بها أقوالهم.
ويورد أولًا أقوالهم من نصوص الآيات القرآنية مثل قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا
﴾ [النساء: 14]، وخلود العاصي في النار يرجع إلى خروجه عن الإيمان. أو نص
حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يزني الزاني حين يزني وهو
مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الشارب حين يشرب وهو
مؤمن)، أو قوله- صلى الله عليه وسلم -: (الصلاة عماد الدين فمن أقامها فقد
أقام الدين ومن تركها فقد هدم الدين).
وحجج النسفي في الرد يستمدها من نص الآية الكريمة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا ﴾ [التحريم: 8] فالتو بة النصوح لا تكون إلا من الكبيرة.
كما يستمد حججًا أخرى من أحاديث الرسول -
صلى الله عليه وسلم - كقوله: (صلوا خلف كل بر وفاجر)، فلو خرج المؤمن من
الإيمان لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة خلفه. أما تفسير
الحديث (لا يزني الزاني إلخ...) فإنه: (إخراج للكلام مخرج العادة لأن
الظاهر والغالب في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - عدم الزنا).
ومعنى الحديث الثاني الذي يستند إليه
الخوارج (الصلاة عماد الدين فمن تركها فقد هدم الدين). ترك الصلاة عن
اعتقاد فقط لأنه فعلًا يصير بذلك كافرًا[41].
أما ابن حزم في رده على إنكار الخوارج
للتحكيم فإنه يذكر أن عليًا لم يحكم قط رجلًا في دين الله وحاشاه من ذلك
وإنما هو قد حكم كلام الله - عز وجل - بعد أن اتفق الفريقان على الدعوة إلى
حكم القرآن الكريم. وقد قال تعالى: ﴿ إِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [النساء: 59].
ولما كان من المستحيل أن يتناظر الفريقان
بكامل أفرادهما فقد تم اختيار الحكمين كل منهما عن الفريق الذي يمثله
مدليًا بحجج المعسكر الذي ينوب عنه أبو موسى الأشعري عن أهل العراق وعمرو
بن العاص عن أهل الشام. فلم يخطئ علي إذًا في قبوله التحكيم للرجوع إلى ما
أوجبه القرآن.
فإنكار الخوارج للتحكيم، تكفيرهم علي،
نتيجة لهذا يرجع إلى أنهم كانوا أعرابًا قرءوا القرآن حقًا، لكنهم لم
يتفقهوا في السنن الثابتة عن الرسول - صلوات الله عليه، ولم يكن منهم أحد
من الفقهاء المعروفين في ذلك الوقت لتبصيرهم بما خفي عنهم من دقائق الفقه
أمثال أصحاب ابن مسعود أو عمر وعلي وعائشة، وأبي موسى الأشعري، ومعاذ بن
جبل، وأبي الدرداء، وسلمان وزيد، وابن عباس، وابن عمر. فلا غرو أن (يكفر
بعضهم بعضًا عند أقل نازلة تنزل بهم من دقائق الفتيا وصغارها فظهر ضعف
القوم وقوة جهلهم)[42].
ومما يكشف عن جهلهم أيضًا أنهم كانوا
قريبي العهد ببيعة السقيفة حيث بايع الأنصار أبا بكر، وإذعانهم بذلك مع
باقي المهاجرين لإمرة قريش، وقد نقل إليهم خبر اجتماع السقيفة من نقل إليهم
القرآن والسنة النبوية أي أصحاب ثقات فكيف ينكرون على علي إمرة المسلمين،
قد قرأوا أيضًا قول الله تعالى: ﴿ لَا
يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ
أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ
وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾[الحديد: 10]، وقوله تعالى:﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا
﴾ [الفتح: 29]، ولكن الجهل أعمى بصائرهم وأضلهم الشيطان فحلوا بيعة علي
وأعرضوا عن هؤلاء الصحابة الكبار الذين قصدهم الله بهذه الآيات أمثال سعيد
بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن عمر، وغيرهم ممن أنفق من قبل الفتح
وقاتل كما تركوا أيضًا الصحابة الذين أنفقوا بعد الفتح.
إنهم تركوا هؤلاء جميعًا الذين قال الله تعالى عنهم: ﴿
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ
عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾ [الفتح: 18]، كما
وصفهم بأنهم الأشداء على الكفار الرحماء بينهم الركع السجد، والمثنى عليهم
في التوراة والإنجيل، والذي شهد الله تعالى عليهم بأن باطنهم في الخير
كظاهرهم بنص هذه الآية. إنهم تركوا هؤلاء جميعًا ليبايعوا عبدالله بن وهب
الراسي الذي لا سابقة له ولا صحبة ولا فقه ولا شهد الله له بخير قط.
وعلي قد بويع بواسطة المسلمين على أثر
مقتل عثمان، وحتى إذا كان الذي بايعه واحد من المسلمين فصاعدًا فإنه يصبح
بذلك إمامًا يجب طاعته فإنه (الإمام بحقه وما ظهر منه قط إلا العدل والجد
والبر والتقوى)[43].
ويضيف ابن حزم إلى هذا كله في كتاب
(المفاضلة بين الصحابة) أن من حكم الله تعالى أن يجعل الحكم لغيره. وصح أن
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (وإذا حاصرت أهل حصن فلا تنزلهم على
حكم الله فإنك لا تدري ما حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك)، وصح قوله - صلى
الله عليه وسلم - أيضًا: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)[44].
معاملة الخوارج:
كان انشقاق الخوارج باعثًا لعلماء الفقه
أن يعالجوا موضوع الخروج على الجماعة وأصبح يطلق على الطوائف التي تنشق من
المجتمعات الإسلامية بأهل البغي مقابل أهل العدل، ووضعت شروط لكي تطلق
عليهم هذه التسمية منها مخالفتهم لرأي الجماعة والانسلاخ عنها عن طريق
الانفراد بمذهب يبتدعونه، فإذا لم يخرجوا بهذا المذهب عن طاعة الإمام وظلوا
أفرادًا متفرقين فلا يحاربوا لأن الإمام سيتمكن بحالتهم هذه من تأديبهم
وعقابهم.
ومنشأ هذه القاعدة ما كان بين علي
والخارجين عليه، إذ أوضح لهم حقوقهم بألا يمنعهم عن مساجد الله ليذكروا
فيها اسم الله، ولا يبدؤهم بقتال ولا يمنعهم الفيء ما دامت أيديهم معه[45].
فإن جاهروا وتظاهروا بمعتقداتهم مع
اختلاطهم بباقي أهل العدل دون أن ينفصلوا في كيان خاص، فعلى الإمام أن يوضح
لهم فساد ما اعتقدوا ليعودوا إلى موافقة الجماعة، ويجوز للإمام أن يؤدب من
تظاهر بالفساد منهم للزجر والتخويف عن طريق التعزير دون إقامة الحد أو
القتل، عملًا بقول رسول الله - صلوات الله عليه - (لا يحل دم امرئ مسلم إلا
بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس).
ولا يحاربوا أيضًا إذا اعتزلوا وحدهم
وابتعدوا عن مخالطة الجماعة ما داموا لم يمتنعوا عن تأدية الحقوق، وظلت
طاعتهم للإمام قائمة. فإذا عصوا الإمام ومنعوا ما عليهم من حقوق وانفردوا
باجتباء الأموال وتنفيذ الأحكام أصبحت هذه الأموال مغتصبة والأحكام باطلة
لأنهم لم ينصبوا لهم إمامًا.
أما إذا نصبوا لأنفسهم إمامًا لكي يتم تحصيل الأموال وتنفيذ الأحكام بأمره فيطالبوا برد هذه الأموال وتظل الأحكام نافذة.
ولكن حربهم في كلا الحالتين واجبة، أي سواء نصبوا لأنفسهم إمامًا أم لم يفعلوا بغرض إرجاعهم إلى الطاعة مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي
حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9]. وتفسير هذه الآيات على النحو التالي:
لمعنى الآية: ﴿ فإن بغت إحداهما على الأخرى) ﴾ وجهان: أحدهما: بغت بالتعدي بالقتال، والثاني: بغت بالعدول عن الصلح.
ومعنة قوله تعالى:﴿ حتى تفىء إلى أمر الله
﴾ فسره سعيد بن جبير بأن ترجع إلى الصلح الذي أمر الله تعالى به، وقال
قتادة بن دعامة السدوسي بأنه بالرجوع إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله فيما
لهم وعليهم.
وكذلك الآية: ﴿ فأصلحوا بينهما بالعدل ﴾ فالعدل يعني إما الحق أو كتاب الله.
وعلى الأمير الذي قلده الإمام لقتالهم أن ينذرهم ويعذرهم أولًا ثم يقاتلهم إذا أصروا على القتال بعد إمهالهم دون الهجوم عليهم بغتة[46].
وتختلف الطرق المتبعة في قتالهم عن قتال المشركين والمرتدين من ثمانية أوجه:
الأول: القصد من القتال ردهم بادئ الأمر ولا يتعمد قتلهم خلافًا لقتال المشركين والمرتدين الذين يتعمد قتلهم.
الثاني: يقاتلوا مقبلين ويكف عنهم مدبرين أما المشركين والمرتدين فيجوز قتالهم مقبلين ومدبرين.
الثالث: لا يجهز على جريحهم، كما أمر علي يوم الجمل ألا يتبع مدبر ولا يجهز على جريح، وإن جاز الإجهاز على جرحى المشركين والمرتدين.
الرابع:
ولا يقتل الأسرى أيضًا بل يفرج عمن أمن عودته للقتال ويحبس من لم يؤتمن
رجوعه للقتال حتى تنتهى الحرب ثم يطلق سراحه، ولا يجوز حبسه بعدها.
الخامس:
لا يغنم أموالهم ولا تسبى أولادهم عملًا بقول رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: (منعت دار الإسلام ما فيها وأباحت دار الشرك ما فيها).
السادس: لا يستعان على قتالهم بذمي أومشرك معاهد وإن جاز هذا في قتال أهل الحرب والردة.
السابع: لا يجوز مهادنتهم إلى مدة أو موادعتهم على مال.
الثامن:
لا تحرق مساكنهم ولا تقطع أشجارهم ونخيلهم لأنها دار إسلام، أما إذا
هاجموا أهل العدل فإنه بجوز لأهل العدل في هذه الحالة الدفاع عن أنفسهم ما
استطاعوا ولو بالقتل إذا لم يندفعوا بغيره.
ولكنه لا يجوز الاستمتاع بدوابهم أو استعمال سلاحهم في قتالهم.
وهذا الرأي يخالف ما ذهب إليه أبو حنيفة
الذي أجاز الاستعانة على قتالهم بسلاحهم والاستمتاع بدوابهم ما دامت الحرب
قائمة كما منع الصلاة على موتاهم على سبيل العقوبة لهم.
ويعارضه الماوردي فيما يتعلق بالنقطة
الأولى استنادًا على حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل دم امرئ
مسلم إلا بطيب نفس منه). كما يرى الماوردي أيضًا أنه لا عقوبة على الميت في
الدنيا ولهذا يجب الصلاة عليهم لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (فرض
على أمتي غسل موتاهم والصلاة عليهم)[47].
نظرة المستشرقين للخوارج:
احتضن أغلب المستشرقين نظريات الخوارج
ووضعوهم موضع التمجيد ورفعوا من شأنهم فأظهروا فيهم نواحي الاختلافات
الجذرية بينهم وبين باقي الفرق على أنها سمة الامتياز والتفوق فإن فلهوزن
يرى أن الخوارج قد انبثقوا عن طبقة القراء[48]
الذين حفظوا القرآن عن ظهر قلب وجاهدوا للعمل يما حاء به لا الاقتصار على
حفظه وترديده صلاة ودعاء في المساجد والبيوت لأن القرآن في نظرهم ليس موضوع
دراسة نظرية وإنما أنزل من أجل العمل والتقوى. ولهذا لم ينقطعوا للتعبد
فحسب محتفظين بتقواهم لأنفسهم (وإنما كانوا يعملون بإيمانهم عن طريق
التوجيه وإسداء المشورة في الأمور العامة كما تقضي بذلك طبيعة الخلافة
الإسلامية)[49].
فإن الخوارج في رأيه لم يكونوا قادة
لحركات كبرى وإنما يعتبرهم مقاييس لدرجة حرارة الجماهير ومثيري حماستهم،
وأنهم نادرًا ما كانوا يسبحون ضد التيار العام بل مقاييس لدرجة حرارة
الجماهير. وينفى فلهوزن بشدة الرأي الذي تجدد القول به حديثًا والذي ينسب
أصول الخوارج إلى السبئية لأن لقب السبئية لم يطلق إلا على غلاة الشيعة
ولأن الخوارج أنفسهم كانوا ينعتون خصومهم بنعت (السبئية) للسب والتحقير. فالبحث عن منشأ الخوارج ينبغى أن يرد إلى موقعة صفين[50].
ويعتقد فلهوزن أن الخوارج تئم تأت في
موضوع الخلافة بأمر غريب أو مستنكر لأنهم لم يكونوا فرقة ضئيلة العدد تعمل
في الظلام وتتكون في شكل تنظيم سري بل كانت ظاهرة أمام الكافة وتستند في
آرائها على الرأي العام الذي كانت له الغلبة في معسكر أهل العراق في موقعة
صفين، وأن مبادئهم قد أغرت الكثيرين بالانضمام إليهم دون أن ينادوا هم بها.
وعلى هذا فإن الخوارج إذًا (كانوا حزبًا ثوريًا صريحًا كما يدل على ذلك
اسمهم، أجل كانوا حزبًا ثوريًا يعتصم بالتقوى، لم ينشأوا عن عصبية العروبة
بل عن الإسلام)[51].
ويرتبط بمعنى التقوى عند الخوارج ما يفهمه
فلهوزن عن التقوى في الإسلام التي يصفها بأنها (ذات اتجاه سياسي عام) وهى
أعلى درجة عند الخوارج لأن مبدأ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كان يتحقق
على يد الخوارج بمناسبة وبغير مناسبة، لأن لا سلطان على الناس إلا الله
ولكي تصبح السلطة الزمنية شرعية فيجب أن تخضع خضوعًا مطلقًا للدين لأنها
تحكم باسم الله، فالإمام ما هو إلا رمز معبر عن وحدة الأمة الإسلامية.
وفي تقسيم فلهوزن للحكومة الإسلامية إلى
قطبين أحدهما سلبي لخضوعها المطلق للدين والآخر إيجابي وهو جماعة المسلمين،
خلق تعارضًا بين (الدين) و(الجماعة) أي بين خضوع الإنسان لله ووجوب خضوعه لأمر الجماعة وطاعة الإمام، ويرى أن الخوارج يقفون في صف الدين بكل قوة[52].
وبالرغم من أن الخوارج يستحلون دماء
خصومهم المسلمين ويعتبرون أن قتالهم جهادًا شأنه شأن الجهاد ضد الكفار وأن
المسلمين المخالفين لهم من عامة أهل السنة والجماعة أشد كفرًا من النصارى
واليهود والمجوس، ومع هذا كله فليست الخوارج في ظن فلهوزن من نوع الفوضويين
فهو يدافع عنهم هاهنا بحرارة لأن حروبهم لعثمان وعلي ومعاوية لم تستهدف
إلا استبدالهم بأئمة صالحين لأن صلاحية الأمور في الدنيا والآخرة من صلاحية
الأئمة (فالإمام إمام في الدنيا والآخرة في الحياة وبعد الموت هذا هو
المذهب السائد في الإسلام، وبقدر ما في مركز الإمام من خطورة تكون الصعوبة
في اختيار من يصلح له في نظر الخوارج)[53].
أفا فان فلوتن فيطلق على الخوارج (اسم الجمهوريين) لأنهم في رأيه يمثلون المبادئ الديمقراطية المتطرفة[54].
ويبدو أنه ممن تأثر بتمجيد المستشرقين للخوارج الأستاذ عمر أبو النصر في كتابه (الخوارج في الإسلام)
إلى حد استبعاده لحديث الإمامة في قريش لأن الخوارج في رأيه أقرب إلى
مسايرة الدين، فلو كان هناك نص صريح لما أنكروه ولا خالفوه. ثم ينسب إليه
فضل طرق الموضوع الجديد الذي لم يكن للمسلمين به شأن من قبل وهو أنه يستطاع
عزل الخليفة أو قتله إذا خالف رأي الجماعة[55].
ويستبعد أن يكون للخوارج يد في مقتل عثمان وإنما يرجح أن من أصبحوا خوارج في عهد علي كانوا من الثائرين على عثمان قبله[56] كما يربط بين الخوارج وبين الثوار الغربيين فيقول: (كأن الثوار الغربيين أخذوا فكرتهم منهم)[57].
ولا أعتقد أن الأمر يحتاج إلى جهد عبير
لإظهار تهافت مثل هذه الآراء، إذ سبق أن أوضحنا رد الفرق على معتقدات
الخوارج ولا نعود فنكررها. ولكن نكتفي في مجال الرد على إبراز الحقيقة
الواضحة وضوحًا لا لبس فيه ولا إبهام، وهي أن جميع الفرق الإسلامية قد
عارضت الخوارج ووقفت منهم موقف المعارضة الشديدة في كل معتقداتهم.
ثم أورد بعض النماذج لرأي المسلمين فيهم قديمًا وحديثًا.
فقديمًا قال عنهم ابن عباس: (ليس الحرورية بأشد اجتهادًا من اليهود والنصارى وهم يضلون)[58].
كما كتب عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه - إلى يحيى بن يحيى ومن معه من الخوارج العاصية الذين خرجوا في عهده يقول لهم:
سلام الله عليكم. أما بعد: فإن الله عز وجل يقول: ﴿ ادْعُ
إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ
ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ﴾[النحل: 125]، وإني أذكركم أن لا تفعلوا كفعل آبائكم ﴿ وَلَا
تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ
النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ
مُحِيطٌ ﴾ [الأنفال: 47]. فبذا تخرجون من دينكم وتسفكون الدماء،
وتستحلون المحارم؟ فلو كانت ذنوب أبي بكر وعمر تخرج رعيتهما من دينهم كانت
لها ذنوب فقد كان آباؤهم في جماعتهم فما جمع شركتكم على المسلمين وأنتم
بضعة وأربعون رجلًا وإني أقسم بالله لو كنتم أبكارًا من ولدي وتوليتم عما
دعوتكم إليه، ولم تجيبوا لدفعت دماءكم ألتمس بذلك وجه الله عز وجل والدار
الآخرة. فهذا النصح إن أجبتم وإن استغششتم فقديمًا استبغض الناصحون)[59].
وحديثًا يرميهم الشيخ أبو زهرة بالتعصب
الذي ساد مناقشاتهم وتعصبهم في بعض الجدل وتحيزهم إلى جانب فكرة واحدة
وكذبهم أحيانًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لإيجاد الدليل على
مزاعمهم، مع تمسكهم بظواهر القرآن دون تجاوزه إلى المقصد والمرمى[60].
ولا أجد بعد هذا أفضل من صوت الحق الذي لا
يعدم أن يجد من يردده بعزم وثبات على لسان المستشرق ولتر. م باتون إذ يقرر
في صرامة: وعندي أنه لا بقاء للإسلام إلا ببقاء السنة، ففي سلامتها سلامته
وفي صونها صونه[61].
ولا يصرح بهذا القرار الحاسم الذي وصل
إليه في كتابه عن (أحمد بن حنبل والمحنة) إلا لأنه لاحظ من خلال أبحاثه أن
(الكتاب الأوروبيين كتبوا ما كتبوه عن عقائد السنة الإسلامية وقد غلب عليهم
شعور النفرة منها والاستثقال لها، كما أنهم خصوا المعتزلة بأكثر مما
يستحقون من إطراء وتقدير)[62].
فلا غرابة إذًا في أن يشمل الإطراء الخوارج أيضًا. أليسوا مخالفين لأهل السنة؟!!
كلمة أخيرة:
ويمكن بعد عرضنا للفصلين الخامس والسادس أن نستخلص النتائج الآتية:
أولًا:
لقد ظل هذا العهد أي منذ انتقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق
الأعلى حتى انتهاء عهد الخلافة الراشدة باستشهاد سيدنا علي بن أبي طالب.
ظلت هذه الفترة هي المثالية في أنظمة الحكم الإسلامي لقيام فكرة الخلافة
والأمل المرتجى تحقيقه على مدى عصور تاريخ المسلمين وخاصة عصر أبي بكر وعمر
بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
وقد جذب هذه الفترة اهتمام الفرق
الإسلامية بشتى معتقداتها وعلى اختلاف مذاهبها فالتفتت إليها إما للتأييد،
كما فعل أهل السنة والجماعة، وإما للنقد والتجريح كما تناولت الشيعة
الصاحبين عمر وعثمان بن عفان، أو للتكفير كما ابتدع الخوارج في حق
الخليفتين الأخيرين.
وإلى وقتنا الحاضر فما زال هذا الماضي
الحافل يستأثر باهتمام فريقي الإسلام الكبيرين أهل السنة والشيعة، فيدرسون
ويحققون ويتأثرون به فيترك آثاره على أفكارهم.
فإن أهل السنة ينظرون إلى هذه الحقبة من
التاريخ الإسلامي على أنها الفترة المثالية وأصبحوا يقيسون من تولي الحكم
من بعد على سنن الخلفاء الأربعة حيث كان الوازع دينيًا كما يرى ابن خلدون
فعهدوا إلى من يرتضيه الدين ثم كان العصبية منذ تولي معاوية الخلافة.
ولكن الشيعة ذهبت إلى الطرف الآخر المضاد
وخاصة الشيعة الإمامية التي ينطوي تحت لوائها أكثرية الشيعة، فاعتبرت
الحكومات الإسلامية منذ انقبض الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى الآن عدا
سنوات حكم علي بن أبي طالب حكومات غير شرعية لأن الحكام الشرعيون هم الأئمة
الإثني عشر وحدهم سواء تيسر لهم مباشرة الحكم أو لم يباشروه[63].
والأعجب من هذا أن الشيعة مع إيمانهم
بإمامة على، فقد لعنوا من على منابرهم الخلفاء الثلاثة الأول إذ في
اعتقادهم هم الغاصبين للإمامة وما زالوا يلعنوهم من على منابرهم إلى يومنا
هذا[64].
ثانيًا:
إن الخوارج هم أول حزب سياسي تكون في تاريخ الإسلام، ولكنه لم يستطع
الصمود بسبب غلوه وتطرفه أمام الكثرة الغالبة من المسلمين، وبعد أن أصبح
موضع نقد وهجوم من الفرق جميعًا فلم يبق إلا الصورة المعتدلة ممثلة في
الأباضية التي استطاعت أن تنجو من الاندثار لاعتدالها ومسايرتها لأصول
المعتقدات عند المسلمين.
ثالثًا:
والنتيجة الأخيرة التي توصلنا إليها هى أن الخوارج بالرغم من تجمعهم في
إطار أفكار خاصة كالتبري من عثمان وعلى وتقديم ذلك على كل طاعة وتكفير
أصحاب الكبائر. ورأيهم في الخروج على الإمام إذا خالف السنة[65].
إلا أن هذه الأفكار المتناثرة لم تبلغ مرتبة التفكير الأيديولوجي المنظم
على نسق النظريات المترابطة التي كتب لها البقاء والحياة كما هو الشان لدى
الفرقتين الكبيرتين: أهل السنة، والشيعة.
[1] الأستاذ، عبد السلام محمد هارون، من مقدمة كتاب موقعة صفين، لنصر بن مزاحم.
[2] مقدمة ابن خلدون، الفصل الثلاثون، ص 24.
[3] وقعة صفين لنصر بن مزاحم، ص 33، 34.
[4] نفس المصدر، ص 37، (وقعة صفين).
[5] المبرد (متوفى في 285هـ)، الكامل في اللغة والأدب، ص 13، ج 1.
[6] المقدمة، الفصل الثلاثون، ص 214.
[7] البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 342.
[8] الباقلاني، الإنصاف، ص 159.
[9] الدكتور الريس، النظريات السياسية الإسلامية، ص 47.
[10] الدكتور، محمد ضياء الدين الريس، النظريات السياسية الإسلامية، ص 48.
[11] المصدر نفسه، ص 76، 77، النظريات السياسية.
[12] الإسفراييني، من مقدمة كتاب (التفكير في الدين- الكوثرى) ص 6.
[13] نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، ج 2، ص 18.
[14] الخطيب على بن الحسين الهاشمي، وقعة النهروان، أو الخوارج، ص 154.
[15] الرازي، اعتقادات فرق المسلمين والمشركين، ص 46- 51.
[16] الملطي، التنبيه والرد على أهل الأهواء.
[17] مقالات الإسلاميين، ص 101.
[18] الملطي، التنبيه، ص 501.
[19] نفس المصدر، ص 54. 55.
[20] المرجع السابق، ص 55.
[21] فنسك وآخرين، ط 1352هـ/1933م، دائرة المعارف الإسلامية، ص 11.
[22] المرجع السابق، ص 13.
[23] الملطي، التنبيه، ص 56.
[24] نفس المصدر، ص 57.
[25] الملل والنحل، ج 1، ص 155.
[26] الملل والنحل: ص 157، 158.
[27] الفصل، ج 4، ص 157.
[28] البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 18.
[29] الأشعري، مقالات الإسلاميين، ص 127، 128.
[30] علي بن الحسين الهاشمي، (كتاب وقعة النهروان أو الخوارج)، ص 99.
[31] الخوارج والشيعة، فلهوزن، ص 35، 36.
[32] هامش المرجع السابق، ص 35.
[33] وقعة النهروان أو الخوارج، ص 204.
[34] تاريخ اليعقوبي، (متوفى 292هـ- 904م)، ج 2، ص 167.
[35] ابن الحسين محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي (متوفى 377هـ- 987م) التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع، ص 51.
[36] كتاب التنبيه، ص 52.
[37] المرجع السابق، ص 53.
[38] نفس المصدر، ص 54.
[39] التنبيه، ص 52.
[40] التنبيه، ص 53.
[41] النسفي، بحر الكلام في علم التوحيد، ص 47، 48.
[42] ابن حزم، الفصل، ج 4، ص 156.
[43] المصدر السابق، ص 157.
[44] ابن حزم، المفاضلة ببن الصحابة، ص 66.
[45] الماوردي، (450هـ- 1058م)، الأحكام السلطانية، ص 58.
[46] الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 59.
[47] الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 60.
[48]
من المحتمل أن فلهوزن استخلص هذه التسمية من نص المسعودي في (مروح الذهب) ص
305، وهو (وكان مسعد بن السبكي وابن الكواء وطبقتهم من القراء الدين صاروا
بعد خوارج قالوا من أشد الناس في الإجابة إلى حكم المصحف).
[49] فلهوزن، الخوارج والشيعة، ص 20.
[50] نفس المصدر، ص 25.
[51] فلهوزن، الخوارج والشيعة، ص 29.
[52] المرجع نفسه، ص 31.
[53] الخوارج والشيعة، ص 33.
[54] فان فلوتن، السيادة العربية والشيعة والإسرائيليات في عهد بني أمية، ص 69.
[55] عمر أبو النصر، كتاب (الخوارج في الإسلام) ص 25، مكتبة المعارف، بيروت، سنة 1956م.
[56] نفس المصدر، ص 29.
[57] المرجع السابق، ص 54.
[58] الملطي، التنبيه، ص 174.
[59] الملطي، التنبيه، ص 174.
[60] الشيخ أبو زهرة، المذاهب الإسلامية، ص 115، 116.
[61] ولتر. م. باتون، أحمد بن حنبل والمحنة، ص 34.
[62] ولتر. م. باتون، أحمد بن حنبل والمحنة، ص 40.
[63] السيد محب الدين الخطب، الخطوط العريضة للأسس التي قام عليها دين الشيعة الإمامية الإثني عشرية، ص 14.
[64] الدكتور النشار، نشاط الفكر، ج 2، ص 10.
[65] الشهرستاني، الملل والنحل، ج 1، ص 156، 157.
--------------------------------------------------------------------
أ. د. مصطفى حلمي
تاريخ الإضافة: 19/5/2012 ميلادي - 27/6/1433 هجري
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Sharia/0/41120/#ixzz1vyyLC8va
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..