بسم
الله الرحمن الرحيم
الحمد
لله ناصر عباده المؤمنين ، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين ، وعلى آله
وصحبه أجمعين ،،، أما بعد :
فإن
العالم في هذه الأيام يموج كبحر عرمرم ، وفي خضم هذا البحر يحتاج المؤمن إلى مركب
يقوده إلى شاطئ الإيمان والأمان .
ومع
تكالب أعداء الدين والسنة على إخوتنا في الشام الأرض المباركة ، وقد بلغ ببعض
الناس اليأس من النصر
على النصيرية الظالمين ، كنت قد بحثت ما يتعلق بالدجال من
صفات وأحوال وعلامات وغير ذلك في مرحلة الماجستير ، ولما شاهدت بعض الناس ينزل
الواقع المعاصر على أحداث الدجال وعلاماته
، رأيت أن أعرض ما بحثته مما يتعلق بالملحمة الكبرى التي تقع في آخر الزمان
قبل خروج الدجال ، حتى تكون صورة الملحمة الكبرى واضحة وفق الأحاديث الصحيحة .
ومن
خلال بحثي ظهر لي أن خروج الدجال ليس هذا وقته والعلم عند الله تعالى ، لأن كثيراً
من العلامات التي تقع قبله لم تظهر بعد .
وهذا
أوان عرض الملحمة الكبرى التي تقع بجوار حلب الشام .
كتبه
/ محمد بن إسماعيل الرياني
عضو
هيئة التدريس بجامعة الإمام
خروج الملحمة الكبرى :
خروج الملحمة الوارد في الحديث يكون بعد خراب
يثرب ، وشاهدها من حديث معاذ t
قول رسول الله r :
"وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ ، وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ فَتْحُ
الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ".
فهذا الحديث جعلها علامة لفتح
القسطنطينية الذي يسبق خروج الدجال .
وفي هذه العلامة عدة مسائل :
أولاً / معنى الملحمة في اللغة :
قال ابن فارس : "لحم اللام والحاء والميم
أصل صحيح يدل على تداخل ، كاللحم الذي هو متداخل بعضه في بعض من ذلك اللحم .
وسميت الحرب ملحمة لمعنيين ، أحدهما : تلاحم
الناس تداخلهم بعضهم في بعض ، والآخر أن القتلى كاللحم الملقى"([1]) .
وعند ابن الآثير هي الحرب وموضع القتال
، مأخوذ من اشتباك الناس واختلاطهم فيها كاشتباك لحمة الثوب بالسدى ، وقيل هو من
اللحم لكثرة لحوم القتلى فيها([2])
. .
والذي يظهر أن الملحمة هي الحرب
والمعركة التي تجمع أكثر الأوصاف التالية :
1- كثرة عدد الجيوش .
2- كثرة أعداد القتلى .
3- وقوع الالتحام والتداخل بين
المتقاتلين بشكل قوي .
4- حرب الملحمة تكون معركة فاصلة بين
الطرفين ، من انتصر فيها فهو المنتصر .
5- يكون في هذه الحرب انتقام لأمر سابق
بين الفريقين .
6- المقاتل في الملحمة لا يجد مخلصاً
في الغالب .
وأكثر هذه الأوصاف موجودة في أوصاف
الملحمة التي نحن بصدد الكلام عليها .
وأما تخصيص الملحمة بالقتال بين
المسلمين والكفار فليس له مستند ، وقد رأيت جمعاً من المؤرخين يسمون بعض المعارك
الكبيرة بين المسلمين بالملحمة ، ومنهم الطبري في تاريخه([3]) ، والذهبي في السير([4]) .
ثانياً / أسماء الملحمة الواردة في
الأحاديث النبوية :
الناظر في أصول أهل السنة والجماعة يجد
أنهم يلتزمون بالمسميات والألفاظ الشرعية ، ويرتكزون على مصادر التلقي الصحيحة
كتاب الله وسنة رسول الله r ، وهذا حالهم في كل أبواب الاعتقاد ، فمصدرهم
في التلقي الكتاب والسنة ، ففي الأسماء والصفات يسمون الله ويصفونه بما ثبت في
الكتاب والسنة ، وهكذا الحال في سائر مسائل الاعتقاد ، ومن ذلك اليوم الآخر ،
ويندرج تحته مسميات أشراط الساعة ، فما ورد فيه من أشراط وأحوال يسمونها بمسمياتها
الشرعية ، فيسمون الدجال بأسمائه الواردة في الشرع ، فيسمونه المسيح الدجال لثبوته
، ولا يسمونه المسيخ-بالخاء – لعدم ثبوته .
وهكذا الملحمة التي هي من علامات قرب
الدجال يسمونه بهذا الاسم لثبوته في سنة رسول الله r
ولا يعدلون إلى تسميات بعض المفكرين أو بعض التسميات النصرانية مثل هرمجدون وغيرها.
يقول ابن القيم رحمه الله : " وقد
كان الصحابة والتابعون والأئمة الذين سلكوا منهاجهم يتحرون ذلك غاية التحري ، حتى
خلفت من بعدهم خلوف رغبوا عن النصوص واشتقوا لهم ألفاظاً غير ألفاظ النصوص ، فأوجب
ذلك هجر النصوص ، ومعلوم أن تلك الألفاظ لا تفي بما تفي به النصوص من الحكم
والدليل وحسن البيان ، فتولد من هجران النصوص والإقبال على الألفاظ الحادثة وتعليق
الأحكام بها على الأمة من الفساد ما لا يعلمه إلا الله ، فألفاظ النصوص عصمة وحجة
بريئة من الخطأ والتناقض والتعقيد والاضطراب ، ولما كانت هي عصمة الصحابة وأصولهم
التي إليها يرجعون ، كانت علومهم أصح من علوم من بعدهم ، وخطؤهم فيما اختلفوا فيه
أقل من خطأ من بعدهم ، ثم التابعون بالنسبة إلى من بعدهم كذلك ، وهلم جراً .
ولما استحكم هجران النصوص عند أكثر أهل
الأهواء والبدع كانت علومهم في مسائلهم وأدلتهم في غاية الفساد والاضطراب والتناقض
...
والمقصود أن العصمة مضمونة في ألفاظ
النصوص ومعانيها في أتم بيان وأحسن تفسير ، ومن رام إدراك الهدى ودين الحق من غير
مشكاتها فهو عليه عسير غير يسير"([5])
.
وقد جاءت الأحاديث النبوية بعدة أسماء
لهذه الملحمة ، وقد ثبت منها اسم الملحمة ، واسم الملحمة الكبرى ، والأسماء
الواردة هي :
1- الملحمة :
ويدل عليها مايأتي :
أ-
حديث معاذ t الصحيح ، وفيه : "وخراب يثرب خروج
الملحمة" ، وقد مر مراراً ، فنص على أن اسمها الملحمة .
ب- حديث أبي الدرداء t
أن رسول الله r
قال : "إِنَّ فُسْطَاطَ الْمُسْلِمِينَ يوم الْمَلْحَمَةِ بِالْغُوطَةِ ، إلى
جَانِبِ مَدِينَةٍ يُقَالُ لها دِمَشْقُ ، من خَيْرِ مَدَائِنِ الشَّامِ"([6]) .
2- الملحمة الكبرى :
ويدل عليها ما يأتي :
أ- عن الدرداء t
أنه سمع رسول الله r يقول : "يوم الملحمة الكبرى فسطاط المسلمين بأرض
يقال لها الغوطة ، فيها مدينة يقال لها دمشق خير منازل المسلمين يومئذ"([7]) .
ب- عن مُعَاذِ بن جَبَلٍ t ، عن النبي r
قال : "الْمَلْحَمَةُ الْكُبْرَى وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَخُرُوجُ
الدَّجَّالِ في سَبْعَةِ أَشْهُرٍ"([8])
، وهذا الحديث ضعيف ، وفي حديث أبي الدرداء غُنية .
3- الملحمة العظمى :
ويدل عليها حديث معاذ بن جبل t ،
عن النبي r
قال : "الْمَلْحَمَةُ العظمى وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَخُرُوجُ
الدَّجَّالِ في سَبْعَةِ أَشْهُرٍ"([9])
، وهذا الحديث ضعيف ، ولفظة الملحمة العظمى لم تثبت في حديث صحيح([10]) .
ثالثاً / أدلة الملحمة الكبرى :
جاء ذكر الملحمة الكبرى في عدد من
الأحاديث الثابتة عن رسول الله r ، وسأذكر هنا أصول الروايات ، وأما اختلاف
الألفاظ والزيادة في بعض الروايات ، والروايات الضعيفة التي استدل بها البعض ،
فسأذكرها عند الكلام على تفاصيل الملحمة ، وسأذكر الرواية كاملة هنا ، حتى يمكن
للقارئ معرفة تسلسل الأحداث ، والأحاديث على النحو التالي :
1- حديث مُعَاذِ بن جَبَلٍt
قال : قال رسول اللَّهِ r : "عُمْرَانُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ خَرَابُ
يَثْرِبَ ، وَخَرَابُ يَثْرِبَ خُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ ، وَخُرُوجُ الْمَلْحَمَةِ
فَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ ، وَفَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّةِ خُرُوجُ
الدَّجَّالِ ، ثُمَّ ضَرَبَ على فَخِذِهِ أو على مَنْكِبِهِ ، ثُمَّ قال : إن هذا
لَحَقٌّ كما إنك قَاعِدٌ"([11])
.
2- عن
يُسَيْرِ بن جَابِرٍ قال : هَاجَتْ([12])
رِيحٌ حَمْرَاءُ بِالْكُوفَةِ فَجَاءَ رَجُلٌ ليس له هجيري([13])
إلا يا عَبْدَ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ جَاءَتْ السَّاعَةُ ، قال : فَقَعَدَ وكان
مُتَّكِئًا فقال : إِنَّ السَّاعَةَ لا تَقُومُ حتى لا يُقْسَمَ مِيرَاثٌ ولا
يُفْرَحَ بِغَنِيمَةٍ ، ثُمَّ قال بيده هَكَذَا ، وَنَحَّاهَا نحو الشام ، فقال :
عَدُوٌّ يَجْمَعُونَ لأهْلِ الإسْلام ، وَيَجْمَعُ لهم أَهْلُ الإسْلامِ ، قلت :
الرُّومَ تَعْنِي ، قال : نعم ، وَتَكُونُ
عِنْدَ ذَاكُمْ الْقِتَالِ رَدَّةٌ شَدِيدَةٌ ، فَيَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ
شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لا تَرْجِعُ إلا غَالِبَةً ، فَيَقْتَتِلُونَ حتى يَحْجُزَ
بَيْنَهُمْ اللَّيْلُ فَيَفِيءُ هَؤُلاء وَهَؤُلاء كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ ،
وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ ، ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لا
تَرْجِعُ إلا غَالِبَةً ، فَيَقْتَتِلُونَ حتى يَحْجُزَ بَيْنَهُمْ اللَّيْلُ ،
فَيَفِيءُ هَؤُلاء وَهَؤُلاءكُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ ، ثُمَّ
يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لا تَرْجِعُ إلا غَالِبَةً ،
فَيَقْتَتِلُونَ حتى يُمْسُوا ، فَيَفِيءُ هَؤُلاء وَهَؤُلاء ،كُلٌّ غَيْرُ
غَالِبٍ ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ ، فإذا كان يَوْمُ الرَّابِعِ ، نَهَدَ إِلَيْهِمْ
بَقِيَّةُ أَهْلِ الإسلام ، فَيَجْعَلُ الله الدَّبْرَةَ عليهم فَيَقْتُلُونَ
مَقْتَلَةً ، إِمَّا قال : لا يُرَى مِثْلُهَا ، وَإِمَّا قال : لم يُرَ مِثْلُهَا
، حتى إِنَّ الطَّائِرَ لَيَمُرُّ بِجَنَبَاتِهِمْ فما يُخَلِّفُهُمْ حتى يَخِرَّ
مَيْتًا ، فَيَتَعَادُّ بَنُو الأبِ كَانُوا مِائَةً فلا يَجِدُونَهُ بقى منهم إلا
الرَّجُلُ الْوَاحِدُ ، فَبِأَيِّ غَنِيمَةٍ يُفْرَحُ ، أو أَيُّ مِيرَاثٍ
يُقَاسَمُ ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ ، إِذْ سَمِعُوا بِبَأْسٍ هو أَكْبَرُ من
ذلك ، فَجَاءَهُمْ الصَّرِيخُ إِنَّ الدَّجَّالَ قد خَلَفَهُمْ في ذَرَارِيِّهِمْ
، فَيَرْفُضُونَ ما في أَيْدِيهِمْ وَيُقْبِلُونَ ، فَيَبْعَثُونَ عَشَرَةَ
فَوَارِسَ طَلِيعَةً ، قال رسول اللَّهِ r :
إني لأعْرِفُ أَسْمَاءَهُمْ ، وَأَسْمَاءَ آبَائِهِمْ ، وَأَلْوَانَ خُيُولِهِمْ ،
هُمْ خَيْرُ فَوَارِسَ على ظَهْرِ الأرض يَوْمَئِذٍ ، أو من خَيْرِ فَوَارِسَ على
ظَهْرِ الأرض يَوْمَئِذٍ"([14])
.
وفي هذه الرواية عند مسلم لم يُصرح بفتح
القسطنطينية ، وليس في هذا إشكال ، فقد ورد التصريح بفتح القسطنطينية في هذا
الحديث عند أبي يعلى في مسنده ، وعليه فالوصف الوارد في حديث ابن مسعود t عند مسلم هو للملحمة الكبرى التي تقع قبل فتح
القسطنطينية .
ولفظ رواية أبي يعلى : عن يسير بن جابر قال :
"هاجت ريح ونحن عند عبد الله فغضب ابن مسعود حتى عرفنا الغضب في وجهه ، قال :
ويحك إن الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ، ولا يفرح بغنيمة ، ثم ضرب بيده إلى
الشام ، وقال : عدو يجتمع للمسلمين من ها هنا ، فيلتقون ، فيشترط شرطة للموت ولا
ترجع إلا وهي غالبة فيقتتلون حتى تغيب الشمس ، فيلتقون فيشترط شرطة للموت ولا ترجع
إلا وهي غالبة فيقتتلون حتى تغيب الشمس وكل غير غالب ، وتفنى الشرطة ، ثم يشترط
شرطة للموت لا ترجع إلا وهي غالبة فيقتتلون حتى تغيب الشمس فيفيء هؤلاء وهؤلاء وكل
غير غالب ، وتفنى الشرطة ، ثم يلتقون في اليوم الرابع فيقتلونهم ويهزمونهم حتى
تبلغ الدماء ثنن الخيل ، ويقتتلون حتى إن بني الأب كانوا يتعادون على مائة فيقتلون
لا يبقى منهم رجل ، فأي ميراث يقسم بعد هذا ، وأي غنيمة يفرح بها ، ثم يستفتحون
القسطنطينة ، فبينا هم يقسمون الدنانير بالترسة([15])
، إذ أتاهم فزع أكبر من ذلك ، أن الدجال قد خلف في ذراريكم ، فيرفضون ما في أيديهم
ويقبلون ، ويبعثون طليعة الفوارس ، قال رسول الله r :
هم يومئذ خير فوارس الأرض ، إني لأعلم أسماءهم ، وأسماء آبائهم ، وقبائلهم ،
وألوان خيولهم"([16])
.
3- عن أبي هريرة t ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r
قال : "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأعْمَاقِ أو
بِدَابِقٍ ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ من الْمَدِينَةِ ، من خِيَارِ أَهْلِ
الأرض يَوْمَئِذٍ ، فإذا تَصَافُّوا ، قالت الرُّومُ : خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ
الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا ، نُقَاتِلْهُمْ ، فيقول الْمُسْلِمُونَ : لا والله لا
نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا ، فَيُقَاتِلُونَهُمْ ، فَيَنْهَزِمُ
ثُلُثٌ لا يَتُوبُ الله عليهم أَبَدًا ، وَيُقْتَلُ ثُلُثُهُمْ أَفْضَلُ
الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ ، وَيَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لا يُفْتَنُونَ أَبَدًا ،
فَيَفْتَتِحُونَ قُسْطَنْطِينِيَّةَ ، فَبَيْنَمَا هُمْ يَقْتَسِمُونَ
الْغَنَائِمَ قد عَلَّقُوا سُيُوفَهُمْ بِالزَّيْتُونِ ، إِذْ صَاحَ فِيهِمْ
الشَّيْطَانُ إِنَّ الْمَسِيحَ قد خَلَفَكُمْ في أَهْلِيكُمْ ، فَيَخْرُجُونَ
-وَذَلِكَ بَاطِلٌ- فإذا جاؤوا الشام خَرَجَ ، فَبَيْنَمَا هُمْ يُعِدُّونَ
لِلْقِتَالِ يُسَوُّونَ الصُّفُوفَ ، إِذْ أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَيَنْزِلُ عيسى
ابن مَرْيَمَ r فَأَمَّهُمْ ، فإذا رَآهُ عَدُوُّ اللَّهِ
ذَابَ كما يَذُوبُ الْمِلْحُ في الْمَاءِ ، فَلَوْ تَرَكَهُ لانْذَابَ حتى
يَهْلِكَ ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ الله بيده ، فَيُرِيهِمْ دَمَهُ في
حَرْبَتِهِ"([17]) .
وحديث أبي هريرة هذا فيه زيادة وصف
للملحمة الكبرى ، وجيش المدينة هذا من المسلمين الذين ينهدون لنصرة الجيش الذي فيه
شرطة الموت كما في حديث ابن مسعود ، فحديث أبي هريرة بدأ في وصف الملحمة الكبرى من
يومها الرابع ، وأورد أوصافاً إضافية
لأحوال الملحمة سيأتي بيانها عند ذكر تفاصيل أحداث الملحمة ، والذي نقصده هنا بيان
أن حديث أبي هريرة الذي ذكرناه إنما هو من أحاديث الملحمة ، ومما يؤكد ذلك أنه بعد
انتهاء المعركة ذكر فتح القسطنطينية ووافق حديث ابن مسعود في مسألة اقتسام الغنائم
، وزعم خروج الدجال ونحو ذلك .
4- عن عَوْفَ بن مَالِكٍ t
قال : أَتَيْتُ النبي r
في غَزْوَةِ تَبُوكَ ، وهو في قُبَّةٍ من آدم ، فقال : اعْدُدْ سِتًّا بين يَدَيْ
السَّاعَةِ ، موتي ، ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، ثُمَّ مُوْتَانٌ يَأْخُذُ
فِيكُمْ كَقُعَاصِ الْغَنَمِ ، ثُمَّ اسْتِفَاضَةُ الْمَالِ ، حتى يعطي الرَّجُلُ
مِائَةَ دِينَارٍ فَيَظَلُّ سَاخِطاً ، ثُمَّ فِتْنَةٌ لا يَبْقَى بَيْتٌ من
الْعَرَبِ إلا دَخَلَتْهُ ، ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي
الأصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ ، فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً ، تَحْتَ كل
غَايَةٍ إثنا عَشَرَ أَلْفًا" ([18])
.
وفي رواية قال : أَتَيْتُ النبي r فَسَلَّمْتُ عليه ، فقال : عَوْفٌ ؟ فقلت : نعم
، فقال : ادْخُلْ ، قال : قلت : كلي أو بعضي ، قال : بَلْ كُلُّكَ ، قال :
"اعْدُدْ يا عَوْفُ سِتًّا بين يدي السَّاعَةِ ، أَوَّلُهُنَّ موتي ، قال :
فَاسْتَبْكَيْتُ حتى جَعَلَ رسول اللَّهِ r يسكتني ، قال : قلت : إِحْدَى ،
وَالثَّانِيَةُ : فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، قلت : اثْنَيْنِ ، وَالثَّالِثَةُ :
مُوتَانٌ يَكُونُ في أمتي يَأْخُذُهُمْ مِثْلَ قُعَاصِ الْغَنَمِ ، قال : ثَلاَثاً
، وَالرَّابِعَةُ : فِتْنَةٌ تَكُونُ في أمتي ، وَعَظَّمَهَا ، قُلْ : أَرْبَعاً ،
وَالْخَامِسَةُ : يَفِيضُ الْمَالُ فِيكُمْ حتى إن الرَّجُلَ ليعطي الْمِائَةَ
دِينَارٍ فَيَتَسَخَّطُهَا ، قُلْ : خَمْساً ، وَالسَّادِسَةُ : هُدْنَةٌ تَكُونُ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بني الأَصْفَرِ ، فَيَسِيرُونَ إِلَيْكُمْ على ثَمَانِينَ
غَايَةً ، قلت : وما الْغَايَةُ ؟ قال : الرَّايَةُ تَحْتَ كل رَايَةٍ اثْنَا
عَشَرَ أَلْفاً ، فُسْطَاطُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ في أَرْضٍ يُقَالُ لها :
الْغُوطَةُ ، في مَدِينَةٍ يُقَالُ لها دِمَشْقُ" ([19]) .
5- عن حَسَّانَ بن عَطِيَّةَ قال :
مَالَ مَكْحُولٌ وابن أبي زَكَرِيَّا إلى خَالِدِ بن مَعْدَانَ ، وَمِلْتُ
مَعَهُمَا ، فَحَدَّثَنَا عن جُبَيْرِ بن نُفَيْرٍ ، قال : قال لي جُبَيْرٌ : انْطَلِقْ بِنَا إلى ذِي مِخْمَرٍ ، وكان
رَجُلاً من أَصْحَابِ النبي r
فَانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا ، فَسَأَلَهُ عن الْهُدْنَةِ فقال : سمعت النبي r يقول : "سَتُصَالِحُكُمْ الرُّومُ صُلْحًا
آمِناً ، ثُمَّ تَغْزُونَ أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا فَتَنْتَصِرُونَ وَتَغْنَمُونَ
وَتَسْلَمُونَ ، ثُمَّ تَنْصَرِفُونَ حتى تَنْزِلُوا بِمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ ،
فَيَرْفَعُ رَجُلٌ من أَهْلِ الصَّلِيبِ الصَّلِيبَ فيقول : غَلَبَ الصَّلِيبُ ،
فَيَغْضَبُ رَجُلٌ من الْمُسْلِمِينَ فَيَقُومُ إليه فَيَدُقُّهُ ، فَعِنْدَ ذلك
تَغْدِرُ الرُّومُ ، وَيَجْتَمِعُونَ لِلْمَلْحَمَةِ" ، وزاد في رواية :
" فَيَجْتَمِعُونَ لِلْمَلْحَمَةِ ، فَيَأْتُونَ حِينَئِذٍ تَحْتَ ثَمَانِينَ
غَايَةٍ ، تَحْتَ كل غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا"([20]) .
وفي رواية حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ قَالَ :
مَالَ مَكْحُولٌ إِِلَى خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ ، وَمِلْنَا مَعَهُ فَحَدَّثَنَا
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ ، أَنَّ ذَا مِخْبَرِ ابْنَ أَخِي النَّجَاشِيِّ t
حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ r
يَقُولُ : "سَتُصَالِحُونَ الرُّومَ صُلْحًا آمِنًَا ، حَتَّى تَغْزُوا
أَنْتُمْ وَهُمْ عَدُوًّا مِنْ وَرَائِهِمْ ، فَتُنْصَرُونَ وَتَسْلَمُونَ
وَتَغْنَمُونَ ، حَتَّى تَنْزِلُوا بِمَرْجٍ ، فَيَقُولُ قَائِلٌ مِنَ الرُّومِ :
غَلَبَ الصَّلِيبُ وَيَقُولُ قَائِلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ : بَلِ اللَّهُ غَلَبَ ،
وَيَتَدَاوَلُونَهَا ، وَصَلِيبُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ بَعِيدٍ ،
فَيَثُورُ إِِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَدُقُّهُ ، وَيَثُورُونَ
إِِلَى كَاسِرِ صَلِيبِهِمْ فَيَضْرِبُونَ عُنُقَهُ ، وَيَثُورُ الْمُسْلِمُونَ
إِِلَى أَسْلِحَتِهِمْ ، فَيَقْتَتِلُونَ فَيُكْرِمُ اللَّهُ تِلْكَ الْعِصَابَةَ
بِالشَّهَادَةِ ، فَيَأْتُونَ مَلِكَهُمْ فَيَقُولُونَ : كَفَيْنَاكَ جَزِيرَةَ
الْعَرَبِ ، فَيَجْتَمِعُونَ لِلْمَلْحَمَةِ فَيَأْتُونَ تَحْتَ ثَمَانِينَ
غَايَةً تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفاً"([21]) .
رابعاً / فسطاط المسلمين في الملحمة
الكبرى :
عن أبي الدرداء t
أنه سمع رسول الله r يقول : "يوم الملحمة الكبرى فسطاط المسلمين بأرض
يقال لها الغوطة ، فيها مدينة يقال لها دمشق خير منازل المسلمين يومئذ"([22]) .
وفي حديث عوف بن مالك : "
فَيَسِيرُونَ إِلَيْكُمْ على ثَمَانِينَ غَايَةً ، قلت : وما الْغَايَةُ ؟ قال :
الرَّايَةُ تَحْتَ كل رَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفاً ، فُسْطَاطُ الْمُسْلِمِينَ
يَوْمَئِذٍ في أَرْضٍ يُقَالُ لها : الْغُوطَةُ ، في مَدِينَةٍ يُقَالُ لها
دِمَشْقُ" ([23])
.
وأصل الفسطاط عمود الخباء الذي يقوم عليه([24])
، وُيطلق الفسطاط على الخيمة ، ويطلق على المدينة التي يجتمع فيها الناس .
والمراد بكون فسطاط المسلمين يوم
الملحمة في الغُوْطة ، أي أن مقر إمامهم ورئاستهم والمكان الذي يتحصنون فيه عند
حرب الملحمة الكبرى في منطقة الغوطة .
قال ابن الأثير : " الغوطة : اسم
البساتين والمياه التي حول دمشق ، وهى غوطتها"([25]) .
وقال ياقوت : "قال ابن الأعرابي :
الغوطة مجتمع النبات ، وقال ابن شميل : الغوطة الوهدة في الأرض المطمئنة ، و
الغوطة هي الكورة التي منها دمشق ، استدارتها ثمانية عشر ميلاً ، يحيط بها جبال
عالية من جميع جهاتها ، ولا سيما من شماليها ، فان جبالها عالية جداً ، ومياهها
خارجة من تلك الجبال ، وتمد في الغوطة في عدة أنهر ، فتسقي بساتينها وزروعها ،
ويصب باقيها في أجمة هناك ، وبحيرة والغوطة كلها أشجار وأنهار متصلة"([26]) .
خامساً / مكان الملحمة :
وفيه عدة مسائل :
المسألة الأولى / دليل مكان الملحمة :
حديث أبي هريرة t
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r
قال : لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأعْمَاقِ أو بِدَابِقٍ ،
فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ من الْمَدِينَةِ من خِيَارِ أَهْلِ الأرض
يَوْمَئِذٍ..."([27]) .
المسألة
الثانية / المراد بالأعماق([28]) -بفتح الهمزة
وبالعين المهملة- :
وقال ياقوت : "ولعله جاء بلفظ
الجمع ، والمراد به العمق ، وهي كورة قرب دابق بين حلب وانطاكية([31])"([32]) .
وقد ذكر المؤرخون الأعماق بهذا المسمى
في عدة أحداث تاريخية ، ومن ذلك مارواه ابن عساكر في تاريخه ، وفيه : " وفي
سنة ست وسبعين ، غزا محمد بن مروان([33])
الصائفة([34])
، وخرجت فيه الروم إلى الأعماق في جمادي الأولى ، فلقيه أبان بن الوليد بن عقبة بن
أبي معيط ودينار
بن دينار فهزمهم
الله..." ([35])
.
وزعم التوربشتي أن الأعماق إنما اسم
موضع بعينه من أطراف المدينة النبوية([36])
، وقوله لا دليل عليه .
وقد يكون لتسمية الأعماق بهذا الاسم من
جهة أن العمق ما بعد من أطراف المفازة البعيدة ، وجمعه أعماق ، ويقال الأعماق
النواحي والأطراف([37])
.
موقع الأعماق الآن([38])
:
ما ذكره ياقوت من أن الأعماق تقع بين حلب
وأنطاكية وبالقرب من دابق أكده المعاصرون ، إذ أن الأعماق الآن من أعمال أنطاكية ،
وهي من أراضي الشام ، لكنها تابعة الآن للدولة التركية ، فالمتجه من حلب إلى أنطاكية
، وعند دخوله الأراضي التركية يجد الأعماق .
ويُحتمل أن المراد بالأعماق منخفض
العمق الواقع الآن في عفرين الواقعة في الزاوية الشمالية الغربية من سوريا .
وقد ذكر صفي الرحمن المباركفوري أن
الأعماق كورة على الحدود التركية الشامية في شمالي أنطاكية مائلة إلى الشرق متصلة
بدابق([39]) .
ولعل وصف المباركفوري لمكان الأعماق
أدق ، وذلك لاهتمامه الخاص بالأماكن التاريخية .
وعلى كل حال فالأعماق تقع في المنطقة
الواقعة بين حلب إلى أنطاكية ، والعلم عند الله تعالى .
المسألة الثالثة / المراد بدابق :
ضبطها القاضي عياض في المشارق دابَق
-بفتح الباء- على وزن هَاجَر([40])
.
وقد حكى النووي أنها دابِق –بكسر
الباء- على وزن صاحِب ، ودابَق-بفتح الباء- ، ثم قال : "والكسر هو الصحيح
المشهور ، ولم يذكر الجمهور غيره"([41])
.
قال ياقوت الحموي : "قرية قرب حلب
، من أعمال عزاز([42]) ، بينها وبين حلب أربعة فراسخ ، عندها مرج معشب
نزه ، كان ينزله بنو مروان إذا غزا الصائفة إلى ثغر مصيصة([43]) ، وبه قبر سليمان بن عبد الملك بن مروان ، وكان
سليمان قد عسكر بدابق ، وعزم أن لا يرجع حتى يفتح القسطنطينية ، أو تؤدي
الجزية..."([44]) .
موقع دابق الآن :
وصف الأقدمون دابق بأنها تقع شمالي حلب في سوريا
الآن ، وذكر ياقوت أنها تبعد عن حلب أربعة فراسخ ، أي (22كم تقريباً) .
وقد بذلت الجهد لمعرفة موقعها الآن
فوجدت أن المعاصرين وصفوها بأنها تقع شمالي حلب ، وتتبع الآن لناحية اخترين ، ولكن
المسافة تختلف عن المسافة التي ذكرها ياقوت حيث أن المسافة بين حلب ودابق (44كم) ،
وقد يرجع الفرق في المسافة بين ياقوت والمعاصرين لكون المسافة المقاسة (44كم)
بالنظر إلى مسافة طريق السيارة .
والذي يهمنا في هذا المقام أن دابق
موجودة إلى الآن في مكانها من العصور الأولى وهي آهلة بالسكان ، وبين دابق والحدود
التركية (10كم) ([47]) .
ويحيط بهذه القرية المروج الواسعة
والبساتين الخضراء على مد البصر .
صورة للمروج حول دابق
المسألة الرابعة / نزول الروم في
الأعماق أو دابق :
هل تقع الملحمة في الأعماق أو في دابق
؟
جاءت الرواية لا تَقُومُ السَّاعَةُ
حتى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأعْمَاقِ أو بِدَابِقٍ" .
قال القاري : " وفي المفاتيح هما
موضعان أو شك من الراوي"([48])
.
ولا شك بأن الأعماق ودابق موضعان
مختلفان ، لكنهما متقاربان ، ويُحتمل أن الشك من الرواي ، لكن الخطب يسير .
ويبقى سؤال في هذا الموضع ، هل المرج
ذي التلول الوارد في قصة الهدنة مع الروم هو مرج دابق الواقع حول دابق ، والذي
وقعت فيه كثير من المعارك التاريخية ؟
لم يرد في النصوص ما يؤكد هذا الأمر أو
يخالفه ، فالعلم عند الله تعالى .
والناظر في خريطة سوريا يستطيع أن يميز
هذا الموقع بكل وضوح فدابق تقع شمالي حلب ، والأعماق تقع مابين حلب إلى أنطاكية ،
وعلى وجه التحديد مابين دابق وأنطاكية ، والعلم عند الله تعالى .
خريطة
سوريا (مع ملاحظة أن الخريطة جعلت أنطاكية من ضمن حدود سوريا على الأصل)
سادساً / الطرفان المتقاتلان في الملحمة الكبرى
:
مر معنا فيما مضى أن الهدنة كانت بين
المسلمين والروم ، ثم وقع غدر الروم بالمسلمين ، ثم ذهاب الروم إلى ملكهم ، وجمعهم
الجيوش للمسلمين ، ويمكن عرض أطراف الملحمة الكبرى على النحو التالي :
الطرف الأول / المسلمون :
نصت الأحاديث على أن الطرف الأول في الملحمة
الكبرى هم المسلمون ، ومن ذلك :
حديث ابن مسعود عند مسلم وفيه :
"عَدُوٌّ يَجْمَعُونَ لأهْلِ الإسْلام ، وَيَجْمَعُ لهم أَهْلُ الإسْلامِ
، قلت : الرُّومَ تَعْنِي ، قال : نعم ،
وَتَكُونُ عِنْدَ ذَاكُمْ الْقِتَالِ رَدَّةٌ شَدِيدَةٌ ، فَيَشْتَرِطُ
الْمُسْلِمُونَ" .
وفي آخر الحديث : " فإذا كان
يَوْمُ الرَّابِعِ ، نَهَدَ([49])
إِلَيْهِمْ بَقِيَّةُ أَهْلِ الإسلام" .
حديث أبي هريرة عند مسلم ، وفيه :
"لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأعْمَاقِ أو بِدَابِقٍ ،
فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ من الْمَدِينَةِ ، من خِيَارِ أَهْلِ الأرض
يَوْمَئِذٍ ، فإذا تَصَافُّوا ، قالت الرُّومُ : خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ
الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا ، نُقَاتِلْهُمْ ، فيقول الْمُسْلِمُونَ : لا
والله لا نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا..." .
وتخصيص أهل الشام([50])
دون غيرهم من المسلمين لا يدل عليه الدليل ، إذ أن الأحاديث جاءت عامة في أن الطرف
الأول أهل الإسلام ، ونص الحديث على أن أهل الإسلام يجمعون لهذه الملحمة ، وهذا
الجمع عام في الأفراد والسلاح ونحوها ، فالقتال في الشام ، ولكن الذين يقاتلون هم
أهل الإسلام بدون التخصيص لأهل الشام .
نعم قد يكون لأهل الشام أعداد كبيرة في
هذه الملحمة لكون فسطاط ومقر المسلمين يوم الملحمة في الشام .
وممن جاء النص على مشاركتهم في الملحمة
الكبرى :
-جيش يخرج من المدينة ويقاتل مع
المسلمين في اليوم الرابع من الملحمة الكبرى :
كما عند مسلم من حديث أبي هريرة : " لا
تَقُومُ السَّاعَةُ حتى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأعْمَاقِ أو بِدَابِقٍ ، فَيَخْرُجُ
إِلَيْهِمْ جَيْشٌ من الْمَدِينَةِ من خِيَارِ أَهْلِ الأرض يَوْمَئِذٍ ..."
.
ودل على مجيئهم للملحمة في اليوم
الرابع ما جاء في حديث ابن مسعود عند مسلم : " فإذا كان يَوْمُ الرَّابِعِ ،
نَهَدَ إِلَيْهِمْ
بَقِيَّةُ أَهْلِ الإسلام" .
وقد اختلف أهل العلم في تحديد المدينة
التي يخرج منها جيش المدينة على النحو التالي :
القول الأول / حلب :
وقد انتصر كمال الدين ابن أبي جرادة([51]) صاحب كتاب بغية
الطلب في تاريخ حلب لهذا القول وساق الأدلة على ذلك ، وأدلته هي :
1-
حديث أبي هريرة t عند مسلم ، وفيه : "لا تَقُومُ السَّاعَةُ
حتى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأعْمَاقِ أو بِدَابِقٍ ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ
من الْمَدِينَةِ من خِيَارِ أَهْلِ الأرض يَوْمَئِذٍ" .
قال
كمال الدين : "وجه الاستدلال بهذا الحديث على فضل حلب قوله r "ينزل الروم بالأعماق وبدابق فيخرج إليهم
جيش من المدينة من خيار أهل الأرض"
ذكره بحرف الفاء وإنها للتعقيب ، والمدينة المذكورة التي يخرج منها الجيش
هي حلب ، لأنها أقرب المدن الى دابق ، وفي تلك الناحية إنما ينطلق اسم المدينة على
حلب عند الإطلاق لا على يثرب ، كما في قوله تعالى ،(ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﰇ) [القصص:20]
وفي
قوله تعالى (ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﰀ) [الكهف:82]
، حيث انصرف الإطلاق إلى المدينة التي يفهم
إرادتها عند الإطلاق"([52])
.
2-
قال كمال الدين : "أخبر r في حديث أبي هريرة أنهم من خيار أهل الأرض ،
وما زالت عساكر حلب في كل عصر موصوفة بالمصابرة والغناء والثبات عند المقاتلة
واللقاء .
ويؤيد ذلك ما يأتي في فضل أنطاكية من
قوله r
"لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على أبواب بيت المقدس و ما حولها ، وعلى
أبواب أنطاكية و ما حولها ، وعلى باب دمشق و ما حولها ظاهرين على الحق لا يبالون
من من خذلهم و لا من نصرهم..." ([53])
.
لأن الطائفة و الله أعلم هي جيش حلب ، لأنه r قال : "لا تزال طائفة من أمتي" ، و
أنطاكية استولى عليها الروم سنين عدة ، ثم
فتحها سليمان بن قطلمش، ثم استولى عليها الفرنج الى زمننا هذا ، فلولا أن يكون
المراد بالطائفة المذكورة جيش حلب ، و أنه يقاتل حول أنطاكية لتطرق الخلف الى
كلامه r
، و ما زالت عساكر حلب ظاهرة على من
مجاورها بأنطاكية في قديم الزمان و حديثه إلا ما ندر وقوعه"([54]) .
القول الثاني / دمشق :
ولم أقف لهم على دليل ، ويمكن أن يستدل
لهم بأن فسطاط المسلمين يوم الملحمة في الغوطة في دمشق .
القول الثالث / المدينة النبوية –
طيبة- :
ودليله ظاهر حديث أبي هريرة t : "، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ من
الْمَدِينَةِ من خِيَارِ أَهْلِ الأرض يَوْمَئِذٍ" .
القول المختار:
الجيش الذي يخرج من المدينة الذي يظهر
أنه يخرج من المدينة النبوية –طيبة- ، وذلك لأن سياق النص يدل على أن المراد
المدينة .
كما أن لفظة المدينة الأصل أنها إذا
أطلقت فهي تنصرف إلى المدينة النبوية ، فهي علم على المدينة ، ولا تصرف إلى غيرها
إلا إذا ورد ما يقيد ذلك ، وليس في النص أي مقيد .
وقد ضعف بعض أهل العلم أن يكون المراد
بالمدينة مدينة النبي محمد r
من جهتين ([55]) :
الجهة الأولى : دلالة آخر حديث أبي
هريرة t
أن الجيش الخارج إلى الروم هو جيش المهدي ، فهم بعد فتح القسطنطينية يعودون إلى
بيت المقدس عند سماع أن الدجال خرج ، ويقاتلون الدجال مع عيسى u ،
ولا يخفى أن المهدي إمام المسلمين عند خروج الدجال ، وأرض دولته في الشام .
الجهة الثانية : كيف يُقال أن الجيش
الذي يخرج من المدينة يكون من المدينة النبوية ، وهي خراب في ذلك الوقت كما دلت
على ذلك الأحاديث .
والذي أراه أن هذين الاستشكالين ضعيفان
، والرد عليهما كما يأتي :
الوجه الأول : لا إشكال عندنا في كون
المهدي يقاتل الروم ، لكن ذلك لا يمنع أن يخرج مدد من المدينة النبوية لمساعدة
المهدي في الملحمة ، ثم إن القول بأن المهدي هو الذي يُقاتل الروم في الملحمة لم
يرد فيه نص صريح .
الوجه الثاني : خراب المدينة الذي يكون
قبل الملحمة الكبرى ليس خراباً كلياً ، بل هو خراب جزئي ، ولا يمنع ذلك من وجود
المؤمنين بها ، وقد ذكرنا الأدلة على ذلك فيما مضى .
مناقشة القائلين بأن الجيش يخرج من حلب
:
احتجاجهم بقوله"ينزل الروم بالأعماق وبدابق
فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض" ذكره بحرف الفاء وإنها للتعقيب ، والمدينة
المذكورة التي يخرج منها الجيش هي حلب ، لأنها أقرب المدن إلى دابق ، وهذا
الاحتجاج غير صحيح ، إذ لا يلزم من ذكر مكان المعركة وهي الأعماق ودابق أن تكون
المدينة المقصودة هي حلب ، ولماذا لا تكون أنطاكية أو غيرها من المدن القريبة من
الأعماق ودابق ، وتخصيصها ليس عليه دليل ، فيُصار إلى الأصل ، وهو أن المقصود
المدينة .
وأما احتجاجه بأن هذا الجيش من خيار
أهل الأرض ، واستشهاده بأثر ابن عساكر ،
فالأثر غير صحيح.
وقد جاءت نصوص عامة بمشاركة طوائف وقبائل في
الملاحم عموماً ، ولم تُقيد بالملحمة الكبرى ومشاركتهم في الملحمة الكبرى محتملة
على الأغلب ، ومن هؤلاء :
- بنو تميم :
قال أبو هُرَيْرَةَ t : لا أَزَالُ أُحِبُّ بنى تَمِيمٍ من ثَلاثٍ
سَمِعْتُهُنَّ من رسول اللَّهِ r ،
سمعت رَسُولَ اللَّهِ r يقول : "هُمْ أَشَدُّ أُمَّتِي على
الدَّجَّالِ ، قال : وَجَاءَتْ صَدَقَاتُهُمْ ، فقال النبي r : "هذه صَدَقَاتُ قَوْمِنَا ، قال :
وَكَانَتْ سَبِيَّةٌ منهم عِنْدَ عَائِشَةَ ، فقال رسول اللَّهِ r
: "أَعْتِقِيهَا فَإِنَّهَا من
وَلَدِ إسماعيل"([56])
.
وفي رواية : " هُمْ أَشَدُّ الناس
قِتَالاً في الْمَلاحِمِ"([57])
.
وبنوا تميم من بني إسماعيل كما هو
معلوم .
قال ابن حجر : "في رواية الشعبي عن أبي
هريرة عند مسلم هم أشد الناس قتالاً في الملاحم ، وهي أعم من رواية أبي زرعة ،
ويمكن أن يحمل العام في ذلك على الخاص ، فيكون المراد بالملاحم أكبرها ، وهو قتال
الدجال ، أو ذكر الدجال ليدخل غيره بطريق الأولى"([58]) .
وقال ابن حجر أيضاً : "وفي الحديث
أيضا فضيلة ظاهرة لبني تميم ، وكان فيهم في الجاهلية ، وصدر الإسلام ، جماعة من
الأشراف والرؤساء"([59]) .
- الموالي من دمشق :
عن أبي هُرَيْرَةَ قال : قال رسول
اللَّهِ r :
" إذا وقعت الملاحم ، خرج بعث من الموالي من دمشق ، هم أكرم العرب فرساً ،
وأجوده سلاحاً ، يؤيد الله بهم الدين "([60])
.
الطرف الثاني في الملحمة الكبرى /
الروم :
جاءت الأدلة صريحة بأن هذا الطرف هم الروم
، ومن ذلك :
1- حديث ابن مسعود عند مسلم وفيه
:"عَدُوٌّ يَجْمَعُونَ لأهْلِ الإسْلام ، وَيَجْمَعُ لهم أَهْلُ الإسْلامِ ،
قلت : الرُّومَ تَعْنِي ، قال : نعم"
.
2- حديث أبي هريرة عند مسلم : "لا
تَقُومُ السَّاعَةُ حتى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأعْمَاقِ أو بِدَابِقٍ...".
3- حديث عوف بن مالك عند البخاري ،
وفيه : " ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأصْفَرِ
فَيَغْدِرُونَ ، فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً..." .
4- حديث ذي مخبر الصحيح ، وفيه :
" فَعِنْدَ ذلك تَغْدِرُ الرُّومُ ، وَيَجْتَمِعُونَ لِلْمَلْحَمَةِ" .
وأصحاب هذا المعسكر –أي الروم- على دين
النصارى ، وقد جاء في حديث الصلح الآمن
النص على دينهم ، "حتى تَنْزِلُوا بِمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ ، فَيَرْفَعُ
رَجُلٌ من أَهْلِ النَّصْرَانِيَّةِ الصَّلِيبَ ، فيقول : غَلَبَ الصَّلِيبُ
فَيَغْضَبُ رَجُلٌ من الْمُسْلِمِينَ فَيَدُقُّهُ فَعِنْدَ ذلك تَغْدِرُ
الرُّومُ"([61])
.
ولا يصح قول ابن الملك بأن هذا الطرف
هم التتار([62])
، إذ أن الأحاديث صريحة في أن الطرف الذي يقاتل المسلمون في الملحمة الكبرى هم
الروم ، وقد مر معنا تحديد جنس الروم
عدد الروم المشاركين :
ورد في روايات حديث عوف وحديث ذي مخبر
عدد الروم الذين يجتمعون للملحمة ، وقد اختلفت الروايات في عدهم ، ومنها :
1- تسعمائة وستون ألف مقاتل (960000) (ثمانون
غاية تحت كل غاية إثنا عشر ألفاً) :
وقد دل على هذا العدد ما يأتي :
أ-
حديث عوف بن مالك ، وفيه :
"ثُمَّ هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بَنِي الأصْفَرِ فَيَغْدِرُونَ
، فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً ، تَحْتَ كل غَايَةٍ إثنا عَشَرَ
أَلْفًا" ([63])
.
وفي رواية : "وَالسَّادِسَةُ :
هُدْنَةٌ تَكُونُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ بني الأَصْفَرِ ، فَيَسِيرُونَ إِلَيْكُمْ
على ثَمَانِينَ غَايَةً ، قلت : وما الْغَايَةُ ؟ قال : الرَّايَةُ تَحْتَ كل
رَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفاً ،
ب- حديث ذي مخبر ، وفيه "فَعِنْدَ ذلك تَغْدِرُ الرُّومُ ، وَيَجْتَمِعُونَ
لِلْمَلْحَمَةِ" ، وزاد في رواية : " فَيَجْتَمِعُونَ لِلْمَلْحَمَةِ ،
فَيَأْتُونَ حِينَئِذٍ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةٍ ، تَحْتَ كل غَايَةٍ اثْنَا
عَشَرَ أَلْفًا"([64])
.
ذي مخبر ، فَيَجْتَمِعُونَ
لِلْمَلْحَمَةِ فَيَأْتُونَ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ
اثْنَا عَشَرَ أَلْفاً"([65])
.
2- ثمانمائة آلف مقاتل(800000) ( ثمانون غاية مع كل غاية عشرة آلاف) :
وقد جاء هذا العدد في حديث ذي مخبر من
طريق محمد بن مصعب القرقساني ، عن الأوزاعي ، عن حَسَّانَ بن عَطِيَّةَ عن خَالِدِ
بن مَعْدَانَ عن جُبَيْرِ بن نُفَيْرٍ عن ذي مِخْمَرٍ عَنِ النبي r وفيه : " فَعِنْدَ ذلك تَغْدِرُ الرُّومُ
وَتَكُونُ الْمَلاَحِمُ فيجتمعون إِلَيْكُمْ فَيَأْتُونَكُمْ في ثَمَانِينَ
غَايَةً مع كل غَايَةٍ عَشْرَةُ آلاَفٍ"([66])
.
3- مليون مقاتل (ألف ألف) :
عن عبد الله بن عمرو t قال
: " يوشك أن يخرج ابن حمل الضأن ثلاث مرات ... في ألف ألف من الناس خمس مائة
ألف في البر وخمس مائة ألف في البحر ينزلون أرضاً يقال لها العميق..."([67])
وهذه الرواية غير صحيحة .
القول المختار :
القول الأول هو القول الصحيح ، فعدد
جيش الروم الذي سيشارك في الملحمة هو (960000) ، وقلنا بصحته لصحة أدلته وثبوتها .
وأما رواية في ثَمَانِينَ غَايَةً مع كل غَايَةٍ عَشْرَةُ
آلاَفٍ فهي ضعيفة ، إذ أن حديث ذي مخمر جاء من طريق الأوزاعي عن حسان بن عطية
به من عدة طرق .
فقد رواه عن الأوزاعي الوليد بن مسلم ،
ومحمد بن كثير المصيصي ، وبشر بن بكر وكلهم رواه تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً .
وكذلك حديث عوف بن مالك عند البخاري
وغيره من روايات الحديث الصحيحة جاءت بلفظ : " فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ
ثَمَانِينَ غَايَةً ، تَحْتَ كل غَايَةٍ إثنا عَشَرَ أَلْفًا" .
وقد خالف محمد بن مصعب القرقساني-وهو صدوق كثير
الغلط- الثقات فرواه عن الأوزاعي
ثَمَانِينَ غَايَةً مع كل غَايَةٍ عَشْرَةُ آلاَفٍ .
وأما رواية ألف ألف- أي مليون مقاتل- فهي غير
صحيحة أيضاً .
وقد أغفلت ذكر بعض الروايات الضعيفة
الواردة في هذا المقام ، واكتفيت ببعضها لأن تتبع الضعيف لا منتهى له .
وقد ذهب ابن حجر إلى أن "جملة
العدد المشار إليه تسعمائة ألف وستون ألفاً ، ولعل أصله ألف ألف ، فألغيت
كسوره"([68])
.
ولا دليل على قول الحافظ ابن حجر على إلغاء
الكسور المذكور ، وأن الأصل هو ألف ألف (مليون) ، بل إن الدليل نص صراحة على العدد
المذكور دون غيره "فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً ، تَحْتَ كل
غَايَةٍ إثنا عَشَرَ أَلْفًا" ، أي تسعمائة ألف وستون ألفاً ، وليس ألف ألف .
سابعاً / تحرير وبيان مسائل في أحاديث
الملحمة الكبرى :
قبل الشروع في عرض وتصوير أحداث الملحمة الكبرى
، فإن أحاديث الملحمة الكبرى قد اشتملت على ألفاظ ومسائل يجب تحريرها وبيانها حتى
يسهل تصوير أحداث الملحمة الكبرى ، وسأذكرها على حسب ورودها في الأحاديث :
المسألة الأولى / معنى الغاية :
جاء في وصف عدد جيش الروم بأنهم يأتون
في ثمانين غاية تحت كل غاية إثنا عشر ألفاً ، ويدل على ذلك :
1- حديث عوف بن مالك فَيَأْتُونَكُمْ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً ،
تَحْتَ كل غَايَةٍ إثنا عَشَرَ أَلْفًا"([69]).
وفي رواية
فَيَسِيرُونَ إِلَيْكُمْ على ثَمَانِينَ غَايَةً ، قلت : وما الْغَايَةُ ؟
قال : الرَّايَةُ تَحْتَ كل رَايَةٍ اثْنَا عَشَرَ أَلْفاً ، فُسْطَاطُ
الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ في أَرْضٍ يُقَالُ لها : الْغُوطَةُ ، في مَدِينَةٍ
يُقَالُ لها دِمَشْقُ" ([70])
.
2- وفي حديث ذي مخبر : "فَيَجْتَمِعُونَ
لِلْمَلْحَمَةِ فَيَأْتُونَ تَحْتَ ثَمَانِينَ غَايَةً تَحْتَ كُلِّ غَايَةٍ
اثْنَا عَشَرَ أَلْفاً"([71])
.
وقد اختلف أهل العلم في ضبط رواية غاية
، وفي سبب اشتقاقها على النحو التالي :
ذكر أبو أحمد الحسن بن عبد الله
العسكري أن غاية رُويت على ثلاثة أوجه([72]) ، أصحها :
غاية –بالياء- :
قال ابن فارس : "فأما الغاية فهي
الراية وسميت بذلك لأنها تظل من تحتها ... إنما سميت غاية بغاية الحرب وهي الراية
لأنه ينتهي إليها كما يرجع القوم إلى رايتهم في الحرب"([73]) .
وقال القاضي عياض : "معناها
الراية ، سميت بذلك لأنها تنصب ، أغييتها إذا نصبتها"([74]) .
وقال ابن الأثير : "الغاية
والراية سواء"([75]) .
وقال ابن حجر : " غاية أي راية ،
وسميت بذلك لأنها غاية المتبع إذا وقفت وقف"([76]) .
وقد علل ابن حجر تسميتها في موضع آخر
بالغاية وفسرها بالراية وعلل سبب التسمية لأنها تشبه السحابة([77]) .
والذي يظهر أن رواية غاية –بياء واحدة-
هي الأصح ، وأما معناها فهو راية الحرب ، وهو العلم المعروف ، فهم يأتون تحت
ثمانين راية ، وتحت كل راية من هذه الرايات اثنا عشر ألف مقاتل .
وقد صرحت بعض روايات الحديث بمعنى
الغابة ، فعند أحمد بسند صحيح " فَيَسِيرُونَ إِلَيْكُمْ على ثَمَانِينَ
غَايَةً ، قلت : وما الْغَايَةُ ؟ قال : الرَّايَةُ ، تَحْتَ كل رَايَةٍ اثْنَا
عَشَرَ أَلْفاً " ([78])
.
والرواية صريحة كما هو ظاهر على أن
المراد بالغاية الراية .
المسألة الثانية / معنى شرطة الموت :
في بداية القتال يشترط المسلمون شرطة
للموت لا ترجع إلا غالبة .
وقد جاء
ذكر شرطة الموت في حديث ابن مسعود t
عند مسلم ، وفيه : "وَتَكُونُ عِنْدَ ذَاكُمْ الْقِتَالِ رَدَّةٌ شَدِيدَةٌ ،
فَيَشْتَرِطُ([79])
الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لا تَرْجِعُ إلا غَالِبَةً ، فَيَقْتَتِلُونَ
حتى يَحْجُزَ بَيْنَهُمْ اللَّيْلُ فَيَفِيءُ هَؤُلاء وَهَؤُلاء([80])
كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ ، ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ
شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لا تَرْجِعُ إلا غَالِبَةً ، فَيَقْتَتِلُونَ حتى يَحْجُزَ
بَيْنَهُمْ اللَّيْلُ ، فَيَفِيءُ هَؤُلاء وَهَؤُلاء كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ ،
وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ ، ثُمَّ يَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لا
تَرْجِعُ إلا غَالِبَةً ، فَيَقْتَتِلُونَ حتى يُمْسُوا ، فَيَفِيءُ هَؤُلاء
وَهَؤُلاء ،كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ ، وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ ، فإذا كان يَوْمُ
الرَّابِعِ ، نَهَدَ إِلَيْهِمْ بَقِيَّةُ أَهْلِ الإسلام ، فَيَجْعَلُ الله
الدَّبْرَةَ عليهم فَيَقْتُلُونَ مَقْتَلَةً ، إِمَّا قال : لا يُرَى مِثْلُهَا ،
وَإِمَّا قال : لم يُرَ مِثْلُهَا ، حتى إِنَّ الطَّائِرَ لَيَمُرُّ
بِجَنَبَاتِهِمْ فما يُخَلِّفُهُمْ حتى يَخِرَّ مَيْتًا ، فَيَتَعَادُّ بَنُو
الأبِ كَانُوا مِائَةً فلا يَجِدُونَهُ بقى منهم إلا الرَّجُلُ الْوَاحِدُ "([81])
.
ولفظ رواية أبي يعلى : عن أسير بن جابر قال : هاجت
ريح ونحن عند عبد الله فغضب ابن مسعود حتى عرفنا الغضب في وجهه ، قال : ويحك إن
الساعة لا تقوم حتى لا يقسم ميراث ، ولا يفرح بغنيمة ، ثم ضرب بيده إلى الشام ،
وقال : عدو يجتمع للمسلمين من ها هنا ، فيلتقون ، فيشترط شرطة للموت ولا ترجع إلا
وهي غالبة فيقتتلون حتى تغيب الشمس من ها هنا فيلتقون فيشترط شرطة للموت ولا ترجع
إلا وهي غالبة فيقتتلون حتى تغيب الشمس وكل غير غالب وتفنى الشرطة ثم يشترط شرطة
للموت لا ترجع إلا وهي غالبة فيقتتلون حتى تغيب الشمس فيفيء هؤلاء وهؤلاء وكل غير
غالب وتفنى الشرطة ثم يلتقون في اليوم الرابع فيقتلونهم ويهزمونهم حتى تبلغ الدماء
ثنن([82])
الخيل ، ويقتتلون حتى إن بني الأب كانوا يتعادون على مائة فيقتلون لا يبقى منهم
رجل ، فأي ميراث يقسم بعد هذا ، وأي غنيمة يفرح بها ، ثم يستفتحون القسطنطينة ،
فبينا هم يقسمون الدنانير بالترسة... "([83])
.
معنى شرطة الموت لغة :
الشُرْطة بضم الشين وسكون الراء .
قال ابن فارس : "شرط : الشين والراء والطاء
، أصل يدل على علم ، وعلامة ، وما قارب ذلك من علم .
من ذلك الشرط العلامة ...وسمي الشرط : لأنهم
جعلوا لأنفسهم علامة يعرفون بها ، ويقولون أشرط فلان نفسه للهلكة ، إذا جعلها
علماً للهلاك"([84])
.
معنى الشرطة الواردة في حديث الملحمة :
خلاصة كلام أهل اللغة وشراح الحديث في معناها ما يأتي :
1- الشرطة أول طائفة من الجيش تشهد
الوقعة .
قال الشاعر :
ألا لله درك من**** فتى قوم إذا رهبوا
فكان أخي لشرطتهم**** إذا يدعى لها يثب
وإنما سموا شرطة لتقدمهم أمام الجيش ،
ولذلك سمي قرنا الحمل الشرطين ، وهو أول نجم من الربيع .
قال بعض أهل اللغة : ومن هذا سمي نخبة
أصحاب السلطان الشرط ، وذلك لأنه قد رتبهم ببابه ، وقدمهم على غيرهم من جنده([85]) .
2- أشرط نفسه للشيء ، أي أعلمها ، ومنه
سمي الشرط لأن لهم علامات يعرفون بها ، وشرطة الموت أي أنهم يتعالمون بينهم بعلامة
يختصون بها([86])
.
والذي يظهر من كلام أهل اللغة وسياق
الروايات الواردة في لفظة شرطة الموت في حديث الملحمة أن الشرطة هم نخبة من الجيش يتقدمون إلى القتال ،
ويتعاقدون على الاجتهاد ، ويشترطون الثبات حتى النصر أو الشهادة([87]) .
ويدل على ذلك قوله في الحديث :
"فيشرط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة" .
المسألة الثالثة / خلوا بيننا وبين وبين الذين
سبوا منا نقاتلهم :
عن أبي هريرة t ،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r
قال : "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتى يَنْزِلَ الرُّومُ بِالأعْمَاقِ أو
بِدَابِقٍ ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِمْ جَيْشٌ من الْمَدِينَةِ ، من خِيَارِ أَهْلِ
الأرض يَوْمَئِذٍ ، فإذا تَصَافُّوا ، قالت الرُّومُ : خَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ
الَّذِينَ سَبَوْا مِنَّا نُقَاتِلْهُمْ ، فيقول الْمُسْلِمُونَ : لا والله لا
نُخَلِّي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا ، فَيُقَاتِلُونَهُمْ..."([88]) .
قوله في الحديث قالت الروم : خلوا
بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم وقع الخلاف في ضبط سبوا منا ، هل هي بالفتح أو
بالضم ، وذكروا في ذلك وجهين :
الوجه الأول / خلوا بيننا وبين الذين
سُبُوا منا – بضم السين وفتح الباء - :
قال القاضي عياض : "وأكثرهم على
ما لم يسم فاعله"([89])
. أي بالضم .
واعتمد الدكتور عمر الأشقر على الضبط
بالضم فقال : "ويلاحظ أنه يكون في صفوف المسلمين أعداد كبيرة من النصارى
الذين أسلموا وحسن إسلامهم ، ففي صحيح مسلم ...خلوا بيننا وبين الذين سُبُوا منا
..."([90]) .
فكأن المعنى عنده أن جماعة من الروم
سباهم المسلمون ثم أسلم هؤلاء السبايا وقاتلوا مع المسلمين ، فقال الروم للمسلمين
: خلوا بيننا وبين الذين سُبُوا منا ، فرد عليهم المسلمون : لا والله لا نخلي
بينكم وبين إخواننا ، أي أن هؤلاء النصارى
بعد أن أسلموا أصبحوا إخواننا ولن نسمح لكم بقتالهم .
الوجه الثاني / خلوا بيننا وبين الذين
سَبَوا منا – بفتح السين وفتح الباء - :
وهو من رواية السجزي ، قال
القاضي عياض : "عند بعضهم سبوا بفتح السين والباء"([91]).
وقال الملا علي القاري : " سَبَوا
منا-على بناء الفاعل- نقاتلهم ، يريدون بذلك مخاتلة المؤمنين ، ومخادعة بعضهم
عن بعض ، ويبغون تفريق كلمتهم ، والمرادون بذلك هم الذين غزوا بلادهم فسبوا ذريتهم
، كذا ذكره التوربشتي رحمه الله ، وهو الموافق للنسخ والأصول"([92]) .
وقد حاول التوربشتي أن يذكر تعليلاً
أخر لقول الروم هذا حتى يؤكد ترجيح رواية فتح السين والباء ، بأن جعل هذا القول
منهم ليس في الملحمة الكبرى بين المسلمين والروم ، وإنما في معركة لاحقة بعد
الملحمة الكبرى ، وقبل فتح القسطنطينية ، فعند التوربشتي أن المسلمين في الشام
عندما أحدثوا مقتلة عظيمة للروم وسبوا منهم ، أتى الروم إلى الأعماق أو دابق
للانتقام من المسلمين لما فعلوه بالروم في الملحمة الكبرى ، فتدخل الجيش القادم من
المدينة في هذه المعركة الجديدة ، فطلب منهم الروم أن يبتعدوا عنهم وأن يخلوا
الطريق بين الروم والمسلمين الذين قتلوا وسبوا من الروم في الملحمة الكبرى
فقالت الروم : خلوا بيننا وبين الذين
سَبَوا منا – بفتح السين وفتح الباء - ، فرد عليهم الجيش القادم من المدينة بقوله
: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا([93])
.
القول المختار :
صَوَّب القاضي عياض الوجه الأول وهو
رواية الضم خلوا بيننا وبين الذين سُبُوا منا([94])
، وذهب النووي إلى صواب الروايتين جميعاً رواية الفتح سَبَوا منا والضم سُبُوا منا
.
قال النووي : " روى سبوا على
وجهين فتح السين والباء وضمهما ، قال القاضي في المشارق : الضم رواية الأكثرين ،
قال : وهو الصواب . قلت : كلاهما صواب ، لأنهم سُبوا أولاً ، ثم سَبوا الكفار .
وهذا موجود فى زماننا ، بل معظم عساكر الإسلام
فى بلاد الشام ومصر سُبوا ثم هم اليوم بحمد الله يَسْبون الكفار ، وقد سبوهم في
زماننا مراراً كثيرة ، يَسْبون فى المرة الواحدة من الكفار ألوفاً ، ولله الحمد
على إظهار الإسلام وإعزازه"([95])
.
والذي يظهر أن رواية سَبَوا منا
–بالفتح- هي الأرجح لأنها متفقة مع السياق وواقع الأحداث ،
فكأن جماعة من المسلمين قد سَبوا من الروم ، وهؤلاء هم الذين قاتلوا الروم في أول
ثلاثة أيام من الملحمة ، فأراد الروم أن ينتقموا من هؤلاء المسلمين ، فلما قَدم
جيش المدينة لنصرة المسلمين في الملحمة الكبرى ، وحالوا بين الروم وبين المسلمين
الذين قاتلوا الروم في الثلاثة أيام الأولى ، قال الروم : خلوا بيننا وبين الذين
سَبَوا منا نقاتلهم – بفتح السين وفتح الباء - .
فرد عليهم جيش المدينة : لا والله لا
نخلي بينكم وبين إخواننا ، أي أن هؤلاء الذين سَبَوا منكم اخواننا في الدين ، ولن
نسمح لكم بقتالهم .
قال القرطبي -صاحب المفهم- :
"الرواية الصحيحة بفتح السين والباء ، أي الذين أصابوا منا سبياً ، وقد قيده
بعضهم بضم السين والباء وليس بشيء ، لأن قول المسلمين في جوابهم : لا والله ما
نخلي بينكم وبين إخواننا ، يعنون : أنهم منهم في الأنساب والدين ، فلو أن الروم
طلبوا من سُبي منهم لما قالوا لهم ذلك مطلقاً ، والله تعالى أعلم"([96]) .
وقال المباركفوري : " وبين الذين
سَبَوا منا-بفتح السين والباء- مبنياً للفاعل ، أي الذين أسروا رجالنا ، والدليل
على كون سبوا مبنياً للفاعل قوله " نقاتلهم" فإنهم لا يقاتلون من أُسِرَ
منهم ، وإنما يُقاتلون من أَسَرَهم ، وهذا يُفيد أن بعض الحروب تقع في هذه الجهة-
وهي جهة الشام وتركيا-بين المسلمين والنصارى قبل نزول الروم ، فينتصر فيها
المسلمون ، ويأسرون النصارى ، وحينئذ تنزل الروم بحجة إنقاذهم ، وتبدي أنها لا
تريد غير من أسرهم ، ولكنها تكون مخادعة في ذلك"([97]) .
وقول التوربشتي بأن هذه المقولة من
الروم ليست في الملحمة الكبرى وإنما في معركة لاحقة لا دليل عليه ، إذ أن سياق
حديث أبي هريرة الذي ذُكرت فيه هذه المقولة يدل على أن هذه الحرب هي الملحمة
الكبرى ، وهو متفق مع سياق حديث ابن مسعود في ذكر الملحمة ، فهما حديثان يكمل
أحدهما الآخر.
وأما قول النووي بترجيح الوجهين فلا
وجه له ، حيث أن الحديث واحد ومخرجه واحد والقصة واحدة فلا يمكن أن تأتي بالوجهين
.
ثامناً / عرض أحداث الملحمة الكبرى :
بالنظر إلى مجموع الروايات الصحيحة في
حديث ابن مسعود وأبي هريرة y تكون أحداث الملحمة الكبرى على النحو التالي :
1- بعد غدر الروم بالمسلمين ونقضهم
للهدنة يعودون إلى بلادهم ويجمعون لقتال المسلمين .
2- ينطلق من الروم إلى الأعماق أو
دابق حول مدينة حلب في سوريا –الشام-
تسعمائة ألف وستون ألف مقاتل (960000) .
3- المسلمون يجمعون للروم ويستعدون لهم
.
4- يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع
إلا غالبة ، والشرطة كما مر معنا هم نخبة من جيش المسلمين يتقدمون لقتال الروم
ويتعاقدون على الشهادة أو النصر والرجوع غالبين ، وينتج عن هذا :
أ- تقتتل شرطة الموت مع الروم حتى غروب
الشمس إذ يحجز بينهم الليل .
ب- تفنى شرطة الموت الأولى التي قاتلت
الروم ، أي أنها تهلك .
وقد استشكل أهل العلم قول النبي r في الحديث : "فَيَشْتَرِطُ الْمُسْلِمُونَ
شُرْطَةً لِلْمَوْتِ لا تَرْجِعُ إلا غَالِبَةً ، فَيَقْتَتِلُونَ حتى يَحْجُزَ
بَيْنَهُمْ اللَّيْلُ ، فَيَفِيءُ هَؤُلاء وَهَؤُلاء كُلٌّ غَيْرُ غَالِبٍ ،
وَتَفْنَى الشُّرْطَةُ" .
إذ كيف تفيء أي ترجع شرطة المسلمين
ويرجع الروم إلى معسكره كل غير غالب ، ثم يقول : وتفنى الشرطة ؟ إذ يلزم من فنائهم
أنهم لا يرجعون إلى معسكرهم غير غالبين .
وقد تعددت الأجوبة عن هذا الإشكال ،
ومن ذلك([98])
:
- كان مع الشرطة جمع آخر من الجيش وهم
الراجعون غير غالبين لا الشرطة .
- يشترطون فيما بينهم شرطاً أن لا
يرجعوا إلا غالبة ، يعني يومهم ذلك فإذا حجر بينهم الليل ارتفع الشرط الذي شرطوه .
- الفئة العظيمة من المسلمين أفرزوا من
بينهم طائفة تتقدم الجيش للمقاتلة واشترطوا عليها أن لا ترجع إلا غالبة فلذلك
بذلوا جهدهم وصدقوا فيما عاهدوا وقاتلوا حتى قتلوا عن آخرهم وهو المراد من قولهم
وتفنى الشرطة... وقوله فيفيء هؤلاء وهؤلاء المراد منهما الفئتان العظيمتان لا
الشرطة .
والذي يظهر والعلم عند الله تعالى أن
شرطة المسلمين تفنى مع غروب الشمس ولا يبقى منهم أحد ، والمراد بقوله فيفيء هؤلاء
وهؤلاء كل غير غالب ، أي أن جيش المسلمين وجيش الروم يرجع كل منهم إلى مكانه ، ولم
يتغلب أحدهما على الآخر ، فالمراد بهؤلاء الأولى جيش المسلمين عموماً ، ونسب الفيء
والرجوع إليهم دون الشرطة لأن الشرطة تمثلهم ، فلو انتصرت لنسب النصر والغلبة
للجيش ، ولكن لما لم تحصل الغلبة أو عدمها للشرطة وهلكوا نسب الفيء والرجعة لجيش
المسلمين
ويُحتمل أن الشرطة تتقدم جيش المسلمين
للموت أو الشهادة ويسندهم باقي جيش المسلمين في القتال ، فيقتتلون حتى غروب الشمس
، فتكون الشرطة قد هلكت ، ويعود جيش المسلمين وجيش الروم كل إلى مكانه .
ج _ يشترط المسلمون في اليوم الثاني
شرطة ثانية للموت لا ترجع إلا غالبة ، ويقع في هذا اليوم مثل ما وقع في اليوم
الأول .
د - يشترط المسلمون في اليوم الثالث
شرطة ثالثة للموت لا ترجع إلا غالبة ، ويقع في هذا اليوم مثل ما وقع في اليوم
الأول والثاني .
5- في اليوم الرابع ينهد –أي ينهض ويتجه- بقية المسلمين لمساعدة الجيش
الإسلامي ، ومن ذلك جيش يخرج من المدينة النبوية ، وعندما يصل هذا الجيش إلى موقع
الملحمة تقع الأحداث التالية :
أ-
يتقابل جيش المدينة مع جيش الروم فيتصافّون ، أي يتقابلون صفوفاً في الحرب([99]) ، ويحول جيش
المدينة بين الروم وبين الجيش الإسلامي الذي كان يقاتل الروم في الأيام الماضية ،
فيطلب الروم من جيش المدينة أن يسمحوا لهم بقتال الجيش الإسلامي الذي سبى من الروم
، فيرد عليهم جيش المدينة بأن هؤلاء إخواننا ، ولن نسمح لكم بقتالهم .
ب-
يقاتل المسلمون -بما فيهم جيش المدينة- الروم ، وينقسم جيش المسلمين إلى
ثلاثة أثلاث :
الثلث الأول : ينهزم فلا يتوب الله
عليهم أبداً .
الثلث الثاني : يقتل وهم أفضل الشهداء
عند الله .
الثلث الثالث : ينتصرون على الروم في
الملحمة الكبرى .
ج _
مع انتصار المسلمين على الروم تحصل في هذه الملحمة مقتلة عظيمة جداً حتى
أنه قال : "فَيَجْعَلُ الله الدَّبْرَةَ عليهم فَيَقْتُلُونَ مَقْتَلَةً ،
إِمَّا قال : لا يُرَى مِثْلُهَا ، وَإِمَّا قال : لم يُرَ مِثْلُهَا" .
والدبرة الهزيمة([100])
أي أن الله يجعل الهزيمة على الروم ، ويحدث فيهم القتل العظيم ، وهذه المقتلة لن
يقع مثلها في المستقبل – لا يرى مثلها- ، أو لم يقع مثلها في الماضي –لم ير مثلها-
، على الشك من راوي الحديث .
ويدل على عظم هذا المقتلة أمران :
الأمر الأول : أن الطائر عند مروره بمكان المقتلة لا يجاوزها
حتى يسقط ميتاً ، ففي الحديث : "حتى
إِنَّ الطَّائِرَ لَيَمُرُّ بِجَنَبَاتِهِمْ فما يُخَلِّفُهُمْحتى يَخِرَّ مَيْتًا" .
ولعل سبب موت الطائر من نتن ريح جثث
القتلى في الملحمة الكبرى([101])
.
وعلل بعضهم موت الطائر بسبب مسافة مسقط الموتى ،
أي أن الموتى منتشرين في مسافة واسعة ، ولا وجه لتعليله ، إذ أن الأقرب أن الموت
بسبب نتن ريح القتلى كما يقع من نتن ريح جثث يأجوج ومأجوج .
الأمر الثاني
: أن بني الأب يكون منهم مائة فلا يبقى إلا رجل واحد ، وفي بعض الروايات لا يبقى
أحد ، فلا يفرح حينئذ بغنيمة ولا يقسم ميراث ، وهذا الأمر يدل على عظم المقتلة.
ففي الحديث : "فَيَتَعَادُّ بَنُو
الأبِ كَانُوا مِائَةً ، فلا يَجِدُونَهُ بقى منهم إلا الرَّجُلُ الْوَاحِدُ"
.
قال الملا علي القاري : "خلاصة المعنى أنهم
يشرعون في عد أنفسهم ، فيشرع كل جماعة في عد أقاربهم فلا يجدون من مائة إلا
واحداً"([102])
.
6- ثلث المقاتلين المسلمين الذين انتصروا على
الروم يفتتحون القسطنطينية ، وهي العلامة التي تسبق الدجال ، وسيأتي الكلام عليها
.
تاسعاً / هل وقعت الملحمة الكبرى :
الوصف الذي سلف في بيان الملحمة الكبرى
وأطرافها وعدد جنودها ومكانها ليس من ترف العلم وفضوله ، ولا من باب تسويد الصفحات
وتكثيرها ، وإنما من باب تحقيق وصف هذه العلامة ، بحيث يتصورها القارئ على وجهها
الصحيح .
فكلما لت لات وعجن عاجن في هذا الباب
يُستوقف على هذه الأوصاف المستقاة من معين السنة الصحيحة الجامعة بين الروايات على
ضوء منهج السلف الصالح .
وعليه يمكن أن نقول أن هذه العلامة
بأوصافها المذكورة لم تقع إلى الآن .
قال ابن حجر (852هـ) : " قال ابن
المنير(683هـ) : أما قصة الروم فلم تجتمع إلى الآن ، ولا بلغنا أنهم غزوا في البر
في هذا العدد ، فهي من الأمور التي لم تقع بعد"([103])
.
ونحن الآن عام (1429هـ) لم يجتمع الروم على
الصفة التي وردت في أحاديث الملحمة ، ولم تقع أي معركة كبرى على تلك الصفة .والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى
آله وصحبه وسلم .
كتبه
/ محمد بن إسماعيل الرياني
عضو هيئة التدريس
بجامعة الإمام
([33]) محمد بن
مروان بن الحكم الأموي ، أمير الجزيرة ، كان موصوفاً بالشجاعة ، وله حروب مشهودة
مع الروم ، وأخوه عبد الملك بن مروان .
انظر سير أعلام
النبلاء (5/ 148) ، والبداية والنهاية (9/ 15) .
([51]) هو : كمال الدين عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة العقيلي –ابن
العديم- ، كان محدثاً حافظاً مؤرخاً بليغاً ، ولد بدمشق وارتحل إلى فلسطين والحجاز
والعراق ، ومات بالقاهرة سنة (660هـ) ، من مصنفاته : بغية الطلب في تاريخ حلب ،
ودفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري .
انظر تاريخ الإسلام
(48/ 423) ، وشذرات الذهب (5/ 303) .
([67])
أخرجه البزار في مسنده (6/ 447) رقم (2486) ، وفي سنده علي بن زيد بن
جدعان ضعيف كما في التقريب (401) ، وسند الحديث ضعيف ، والحديث قد جاء أصله من طرق
أخرى صحيحه ، وباختلاف كبير في الألفاظ ، والذي يعنينا هنا عدد جيش الروم ، فابن
جدعان لم يتابعه أحد على هذا العدد فهي ضعيفة ، والحديث موقوف عن عبد الله بن عمرو
t وهو من
المعروفين بالرواية عن أهل الكتاب ، وعليه فلا يصح قول العلامة المحقق الشيخ حمود
التويجري في إتحاف الجماعة (1/ 396) : " وله حكم الرفع ، لأنه لا دخل للرآي
في مثل هذا ، وإنما يُقال عن توقيف" .
ومن المتقرر عند أهل
الحديث أن قول الصحابي الموقوف عليه الذي لا يقال من قبل الرآي له حكم الرفع ،
واستثنوا منها إذا كان الصحابي من المعروفين بالأخذ عن أهل الكتاب ، رضي الله عن
ابن عمر ورحم الله الشيخ التويجري ، فمن نحن بجانب علمهم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..