انتهت
الانتخابات الرئاسية المصرية بكل ما ألمَّ بها من "إشكالات" و"تعقيدات"
وحروب إعلامية ومناورات سياسية, و"مؤامرات" تورطت فيها قوى سياسية
ولوبيات
إعلامية ومؤسسات الدولة العميقة, كادت تعصف بالنتيجة الحقيقية للانتخابات,
وتعلن "فوز الخاسر" و"سقوط الفائز", وبقي
السؤال الذي يشغل بال الكثير من
المراقبين للشؤون السياسية المصرية الداخلية عن كثب, ومن اقتربوا من
"الحالة المصرية" بعد ثورة 25 يناير وهو : "كيف نجح الفريق أحمد شفيق ليحل
ثانياً في المرحلة الأولى وينافس بقوة مرشح الثورة الدكتور محمد مرسي وكاد
يقترب من قصر العروبة؟, وهل يعني هذا أن الشارع المصري الذي خرج عن بكرة
أبيه يوم 12 فبراير فرحاً بنهاية حكم مبارك "ضاق ذرعاً بالثورة والثوار,
وحن إلى "نظام" أسقط رأسه وبقي يعمل بقوة الدفع الذاتي لقياداته التي ما
زالت تمسك بتلالبيب دولاب الدولة, ومكامن قوتها وتؤثر في صغار الموظفين,
وتتحكم في التعيينات والترقيات,أم أنها محاولة مستميتة من قِبل
"فلول"النظام السابق للعودة من جديد بعد أن دخلوا "السراديب", تحت مظلة
المجلس العسكري الذي يحكم البلاد, وبات عليه أن يسلم السلطة في 30 يونيو,
وهو غير جاد في عهوده وتعهداته, وبات يبحث عن طريقة يلتف بها على هذه
العهود ووجد في "شفيق" المخرج الذي يجعله مستمراً في الحكم, أو على الأقل
عدم المساءلة السياسية والجنائية عن كيفية إدارته للمرحلة الانتقالية, وما
وقع فيها من أخطاء قاتلة وصلت إلى حد إسالة الدماء في أحداث "ماسبيرو"-
وشارعي محمد محمود ومجلس الوزراء.
مَن يقرأ المشهد السياسي المصري
منذ الإعلان عن فتح باب الترشح للرئاسة حتى الانتهاء بإعلان اللجنة العليا
للانتخابات الرئاسية فوز د. محمد مرسي بمنصب الرئاسة, يُدرك تماماً أن
"المجلس العسكري" الذي فوجئ بإعلان الإخوان المسلمين وحزب الحرية والعدالة-
ذراعهم السياسي- ترشيحهم للمهندس خيرت الشاطر للرئاسة, نقطة تحول في
الصراع بينه وبين الجماعة, ونهاية "شهر العسل" الذي امتد منذ الاستفتاء على
الإعلان الدستوري, حتى رفضه طلب سحب الثقة من حكومة كمال الجنزوري, وتكليف
حزب الأغلبية في البرلمان لتشكيل حكومة ائتلاف وطني لإدارة شؤون البلاد,
ومن ثم بدأ البحث عن شخصية سياسية تنافس بقوة الإخوان وقد تكسر شوكتهم,
وتلحق بهم الهزيمة عبر صناديق الانتخابات.
وكانت
المفاجأة بإعلان رجل مبارك القوي عمر سليمان الترشح للرئاسة, وفي ظله دخل
الفريق أحمد شفيق السباق الرئاسي "احتياطياً", في مقابل رجل الإخوان القوي
خيرت الشاطر, وتنبهت الجماعة لتدفع بالدكتور محمد مرسي "احتياطياً" أيضاً
تحسباً لاستبعاد الأول من قِبل اللجنة العليا للانتخابات, المحصنة قراراتها
طبقاً للإعلان الدستوري, والتي لا يجوز الطعن عليها أمام أي جهة قضائية.
وهو
الأمر الذي حدث بالفعل فأخرجت اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية الأقوياء
الثلاثة "عمر سليمان"- لعدم استيفاء التوكيلات- و"خيرت الشاطر"-لوجود قضية
حكم فيها ضده ولم يرد اعتباره فيها- والشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل بسبب
حصول والدته على الجنسية الأمريكية, مما أفقده أحد شروط الترشيح, وانحصرت
المنافسة بين 13 مرشحاً أبرزهم د. عبدالمنعم أبو الفتوح- الذي دخل السباق
مبكراً- والأمين العام للجامعة العربية السابق عمرو موسى وحمدين صباحي
والدكتور محمد مرسي, الذي وقفت وراءه جماعة الإخوان وذراعها السياسي بكل
قوة.
وكانت
كل التوقعات- على الأرض- تشير إلى أن المنافسة في المرحلة الأولى ستكون
بين "أبو الفتوح" و"موسى" و"مرسي", ولم يكن أحد يتوقع على الإطلاق الظهور
القوي للفريق أحمد شفيق, ودخوله مرحلة الإعادة, وأيضاً الأصوات التي حصل
عليها المرشح الناصري حمدين صباحي والتي جعلته يحتل المرتبة الثالثة
متقدماً على الدكتور عبدالمنعم أبو الفتوح.
وهنا بدأت أوراق "اللعبة
السياسية" تتكشف, وظهر بجلاء أن من يديرون دفة مصر- المجلس العسكري- له
اليد الطولى بالدفع بـ"شفيق" وهو ما جاء على لسان الأخير عندما قال
"استأذنت المشير في الترشح", وأن الدولة العميقة بأجهزتها المختلفة, كشرت
عن أنيابها ضد الثورة ومرشحيها, وأن من دخلوا الجحور بعد 25 يناير بدؤوا في
الظهور كلاعب أساسي في الحشد والتعبئة واستخدام كافة الأساليب القذرة في
التأثير على الفئات الفقيرة والمطحونة, في القرى والنجوع والأرياف, وظهرت
العصبيات القبلية التي فقدت بريقها بعد الثورة لتقوم بدور مهم في محاولة
لتغيير المشهد السياسي, وكأن المسألة بالنسبة لهم "حياة أو موت", أما
العودة إلى نظام مبارك في صورة "شفيق" باستنساخ "مبارك 2", أو انتهاء نظام
ما قبل الثورة السلمية تماماً, وولادة نظام ديمقراطي مصري يؤمن بالتعددية ,
ويقدم أنموذجاً يحتذى به في التغيير السلمي عبر صناديق الانتخاب.
واستطاع
"المجلس العسكري" أن يدخل حرب الإعادة بتوجيه ضربة قوية مباغتة للقوى
الثورية والوطنية التي التفت حول الدكتور محمد مرسي على الرغم من خلافاتها
السياسية وتوجهاتها الحزبية, فاستغل حكم المحكمة الدستورية العليا الذي صدر
قبل 48 ساعة من عملية الاقتراع , وأصدر قراراً من رئيس المجلس العسكري بحل
البرلمان الذي يشكل فيه الإسلاميون 75 % من أعضائه, وهو القرار الذي استغل
إعلامياً بشكل لا مثيل له في توجيه الناخبين ناحية "شفيق" الذي صوره
الإعلام الممول طائفياً ومن رجال الأعمال الذين اثروا في عهد نظام مبارك,
أنه المنقذ من "الدولة الدينية" التي يمثلها د. مرسي, ومن "حكم المرشد",
وسياسة "التكويش" التي يريد بها الإخوان ابتلاع الدولة المصرية وإعلان
"الخلافة الإسلامية" وعاصمتها "القدس", وما إلى ذلك من الاتهامات التي طالت
حتى الحياة الخاصة للدكتور مرسي وملفه الصحي, واللعب بقوة بـ"الورقة
الطائفية", وتجييش تيارات "اليسار الحكومي"-حزب التجمع- و"الدكاكين
الليبرالية", بدءاً من الأحزاب الكرتونية التي كان يتلاعب بها النظام
السابق انتهاءً بشخصيات صدعت الرؤوس بالليبرالية أمثال د. أسامة الغزالي
حرب ود. سعد الدين إبراهيم, و"رجال الأعمال"من مافيا الأراضي ومن لديهم
مديونيات بالمليارات للبنوك, والمتورطين في قضايا فساد وغسيل أموال
واستيلاء على أراضي الدولة , انتهاءً بإعادة "البعث" في الوحدات الحزبية
للحزب الوطني- المنحل.-
وهذا
ما ظهر في نتيجة انتخابات الإعادة, التي حصل فيها الفريق أحمد شفيق على 12
مليوناً و300 ألف صوت, مقابل 13 مليوناً و200 ألف صوت للدكتور محمد مرسي,
بفارق 900 ألف صوت منها 225 ألف صوت حصل عليها "مرسي" من أصوات المصريين
بالخارج بنسبة 75 % مقابل 25 % لشفيق الذي لم يحصل إلا على 70 ألف صوت.
وبقراءة
للعناصر الداعمة للفريق شفيق التي وجدت في تنصيبه رئيساً وتوصيله إلى "قصر
العروبة" الفرصة الأخيرة لها في البقاء في الحياة السياسية, أو ضمان
مكاسبها المادية والامتيازات التي حصلت عليها أو المراكز القيادية التي
تبوأتها, نجد أن "شفيق" اعتمد على أربع قوى هي التي منحته الـ 12 مليون صوت
وهي:
أولاً: الدولة العميقة بوزاراتها وإداراتها ومؤسساتها
وهياكلها الإدارية والتي ما زالت تعمل بمنظومة وفلسفة مبارك بل وبالقيادات
نفسها التي عينها النظام السابق, وباتت التغييرات الثورية تهددها, وقد عملت
الأجهزة الحكومية بكل قوة لإنجاح شفيق, بدءاً من توكيلات الشهر العقاري
واستخراج بطاقات الرقم القومي لعناصر أمنية وعسكرية, انتهاءً بالعبث في
جداول الانتخابات والإبقاء على الموتى والمسافرين للخارج والزج بهم.
ثانياً:
الورقة الطائفية, وأصوات المسيحيين, فقد حرص شفيق على زيارة الكنائس
والالتقاء بالقساوسة والرهبان, وإرسال رسائل قوية في اتجاههم منها حرية
بناء الكنائس إلى أبعد من ذلك عندما قال إنه لو سمح بتدريس آيات من القرآن
الكريم فسوف يعمل على تدريس مقاطع من الإنجيل في المناهج الدراسية, وظهر
الحشد المسيحي للتصويت لشفيق منذ صباح اليوم الأول في الانتخابات, وسجلت
سيارات تنقل المسيحيين من أمام الكنائس, ورصد طابور طويل للقساوسة في إحدى
اللجان بالعاصمة المصرية, وتم تداول منشورات نسبت إلى قساوسة فيها توجيه
بالتصويت لشفيق, وهو ما ظهر جلياً في الدوائر الانتخابية التي بها تجمعات
قبطية قوية مثل "شبرا" و"مدينة نصر"، حيث حصل شفيق على أصوات كبيرة جداً,
وظهر بشكلٍ فج في القرى التي يقطنها نصارى فقط والتي صوتت بنسبة 99 % لشفيق
مثل لجان "دير أبو حنس" و"البياضية" و"دير البرشا " في المنيا- 400 كم
جنوب القاهرة" وفي قرية "الكشح" بمحافظة سوهاج- 700 كم جنوب العاصمة- وتقدر
عدد أصوات النصارى التي حصل عليها شفيق بـ2 مليون صوت.
ثالثاً:
أسر العسكريين والمتقاعدين, وقد تم حشد هذه الشريحة القوية والمؤثرة لصالح
شفيق, فكانت التوجيهات لجميع العسكريين والأمنيين بضرورة حشد أسرهم
للتصويت لشفيق, وهذا ظهر جلياً في حصوله على 72 % من الأصوات في محافظة
المنوفية التي تعد من أكثر المحافظات المصرية التي ينخرط أبناؤها في الجيش
والشرطة, ومحافظات الشرقية والدقهلية والقليوبية التي تفوق فيها "شفيق" على
الأصوات التي حصل عليها "مرسي".
رابعاً: القوة الأمنية الخفية والتي
تتمثل في جيوش المخبرين السريين ومرشدي وضباط جهاز مباحث أمن الدولة السابق
والذين يملكون كنوزاً من المعلومات ومفاتيح التأثير في شرائح المجتمع لما
كان لهم من "صلاحيات" بلا حدود و"حظوة" لدى القيادات الرسمية الحالية التي
لم يكن يعين أي منها في منصبه دون تقرير من أمن الدولة, وقد قام هؤلاء بدور
كبير في تخويف الشعب المصري من الإسلاميين, ونشر الإشاعات والمعلومات
الكاذبة, وتسويق لمقولة "شفيق..جاي..جاي" أي أن الأمر محسوم لشفيق, وانخرط
هؤلاء بين أبناء الشعب وظهروا في عربات مترو الأنفاق والقطارات والحافلات
العامة والخاصة, والنوادي والمحال التجارية لتسويق شفيق لدى الناس والتخويف
من الإخوان.
خامساً:
الوحدات الحزبية للحزب الوطني, والتي شكلها أمين التنظيم السابق أحمد عز,
وانفق عليها ببذخ وجعل ولاءها له ولجمال مبارك ومشروع التوريث, وتتمثل في
تشكيل وحدة حزبية من عشرين شخصاً في كل قرية وكل حي, وتضم وجهاء ورؤساء
نوادٍ رياضية وقيادات بالمجلس المحلي.
ساساً: أصحاب رؤوس الأموال من
رجال الأعمال وأعضاء مجلسي الشعب والشورى من الحزب الوطني وقيادات البنوك
وهؤلاء تولوا تمويل حملة شفيق والإنفاق عليها ببذخ وخصوصاً "شراء الأصوات"
فقد وصل سعر الصوت إلى ألف جنيه في المنوفية والشرقية, وبرزت ظاهرة "جمع
بطاقات الرقم القومي" نظير مبالغ مالية كبيرة للتصويت بها نيابة عن أصحابها
مقابل مبلغ مالي, وأثيرت أيضاً مسألة الأموال الخارجية من دول عربية دعمت
"شفيق".
سابعاً: الحرب الإعلامية الممنهجة والمنظمة التي قامت
بها صحف وقنوات ومواقع إلكترونية يملكها رجال أعمال ارتبطت مصالحهم بمبارك
وابنه وحاشيته، وجيش لهذه الحرب شخصيات ورموز إعلامية قوية استطاعت إثارة
البلبلة والقلق في الشارع المصري.
كل هذه العوامل وغيرها لعبت
دوراً قوياً في إبراز شفيق, واستماتت لتوصله إلى "قصر العروبة" ولكن كان
للشعب المصري كلمته بإطلاق "الرصاصة الأخيرة" على محاولة استنساخ "نظام
مبارك" وأعادت للميدان أيامه الـ18 التي توحدت فيها القوى السياسية
والوطنية وخلعت مبارك, والآن بدأت مرحلة تطهير "أجهزة الدولة العميقة"وبناء
نظام ديمقراطي مدني حديث يرتكز على الثوابت القيمية والأخلاقية ويعمل وفق
نظام القانون.
*رئيس رابطة الإعلاميين المصريين في السعودية
.......................
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..