قراءة
تاريخ الأحداث السياسية وتأثيراتها على الحراك الديني والفكري في فترة
معينة ، وتحليلها ، ومعرفة بواعثها واتجاهاتها تمثل مادة أساساً لفهم
الأحداث المعاصرة ، والتعامل معها، والإفادة منها في استشراف المستقبل
برؤية متزنة ، تعتمد على المعلومة وتحليلها أكثر من اعتمادها على التعامل الآني مع الأحداث بردة فعل تنقصها الرؤية الشمولية لعلاجها .
برؤية متزنة ، تعتمد على المعلومة وتحليلها أكثر من اعتمادها على التعامل الآني مع الأحداث بردة فعل تنقصها الرؤية الشمولية لعلاجها .
هذه توطئة لقراءة ما يجري الآن في شبكات التواصل الاجتماعي بعد أحداث
الثورات العربية ، ومقارنته بما كان يحدث من تموجات في الرأي ، وتقلبات في
الاتجاهات السياسية والفكرية إبان غزو الكويت للعراق.
ففي تلك المرحلة من الزمن (2 أغسطس 1990 م وما بعدها ) اهتزت منطقة
الخليج العربي بغزو العراق للكويت ، وتهديده دول الخليج ، وما أعقبه من
تدخل القوات الأجنبية وتكوين التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ،
وتزامن ذلك الحدث مع انطلاقة البث التلفزيوني المباشر الذي نقل وقائع الغزو
ثم التحرير ، وما بينهما من التحرك الدبلوماسي والعسكري حتى انتهت الأزمة.
لم يكن المشهد الفكري هادئاً تجاه تلك الأحداث ، بل كان صاخباً وساخناً ،
أفرز تحولات خطيرة في الرأي والنقاش الداخلي ، اتخذ من وسائل الاتصال
التقليدي منبراً لتسويق الأفكار والترويج لها. لكن أهم معالم ذلك الحراك
الفكري أنه كان ذا اتجاه واحد ، اجتهد في أطروحاته السياسية والفكرية
بمنهجية خالف بها المرجعية الشرعية التي كانت تمثلها هيئة كبار العلماء ،
لكن الهيئة والعلماء في ذلك الوقت كانوا يحظون بنفوذ وتأثير وقبول اجتماعي
مكنهم من احتواء ما نتج عن ذلك النقاش الساخن من تداعيات وتأثيرات على
المجتمع، وبخاصة على فئة الشباب.
الحراك السياسي والفكري الذي يتزامن الآن مع عهد الثورات العربية يختلف
بالكلية عن ما كان عليه في أزمة الخليج . اختلاف في المضمون والأساليب ،
يمكن إجماله في الآتي :
1- تأثيرات
الثورات العربية لم تقتصر على إقليم معين ، بل كانت شاملة لكل المنطقة
العربية، فأطاحت بنُظم سياسية عتيدة، وزلزلت كيانات لا تزال تقاوم الثورة ،
ومن سلم من الثورة لم يسلم من رياح التغيير التي أشعلت الإرادات الشعبية
التي وجدت الفرصة سانحة لتتقدم إلى حكوماتها بحقوقها ومطالبها السياسية
والقانونية والإنسانية والمعيشية.
2- وسائل
التواصل الإعلامي بين الجماهير لم تعد حكراً على الإعلام التقليدي الذي
كان خاضعاً لرقابة الحكومات ، أو ذلك الإعلام الخاص المسيس أو الممول منها.
وقد وجدت الجماهير في شبكات التواصل الاجتماعي متنفساً لها للتعبير عن
رأيها، أو التأييد لرموزها الذين يمثلون توجهاتها ويعبرون عن صوتها.
3- في
هذا المناخ التواصلي الفاعل والمؤثر ، لم يكن الحراك الفكري والسياسي
مقصوراً على توجه معين ، بل دخل فيه كل من كان قادراً على التعامل معه ،
ومن ثم توظيفه لخدمة أهدافه. وقد كشفت هذه الحالة عن توجهات فكرية وسياسية
لم يكن أحد يتنبأ بوجود خميرتها في المجتمع ، فضلاً عن أن يكون لها رموز
وناشطون وأتباع.
مشهد حراك الرأي الآن صاخب وكثيف ومتدفق ، إذ فتحت شبكات التواصل
الاجتماعي الباب على مصراعيه لجدل وحوار ونقاش ( وأحيان كثيرة لصراع )
سياسي وفكري بين أفراد أو جماعات تريد الوصول إلى حقوق أو مطالب تفصلها
بمقاييس رؤيتها ، غير مستصحبة لمنظومة النسيج العقدي أو السياسي ، أو
الأمني للمجتمع . نقاش وحوار وصراع يدور كل لحظة ، يذكر المتابع بـ (
ركن الخطابة ) في حديقة ( الهايد بارك ) اللندنية ، حيث كل خطيب يتحدث أو
يُصرَّخ ليجتمع حوله ( الأتباع ) ثم يفتح باب النقاش مع الخطيب ، لا ليستمع
لهم بل ليقنعهم برأيه هو ، الرأي الذي يؤمن به ، وليس بالضرورة أن يعبر عن
رأي المجتمع الذي يعيش فيه . لا ، بل إن واقع ما يدور في شبكات التواصل
الاجتماعي جاوز التعصب للرأي ، إلى تسفيه الآخر المخالف ، وانتقاصه ،
والتطاول عليه ، سواء كان ذلك الآخر : حكومة ، أو مؤسسة ، أو جماعة ، أو
شخصية اعتبارية في المجتمع ، أو حتى أحاد الناس .
المتابع عن كثب لطبيعة هذا الحراك المكثف والعنيف يستطيع أن يلحظ الاتجاهات التالية :
الأول
، أصحاب ( التوجه الإسلامي المُفرِط) ، والغلو والتطرف فيهم نسبي ، يختلف
من شخص لآخر، وفي الجملة فإنه يحاول استنساخ الصخب الفكري الذي شهده
المجتمع إبان غزو العراق للكويت ، وما أحدثه من انقلابات فكرية كادت تعصف
بالمجتمع ، لولا أن تداركته رحمة الله ثم تماسك العلماء الراسخين الذين
كانت لهم كلمة الفصل في وحدة الصف واجتماع الكلمة ، وها هو الآن يكرر
التجربة مع اختلاف في المتن والهوامش.
الثاني
، هم التنويريون ، الذين خلطوا عملاً صالحاً بآخر سيئاً ، فأصبحت رؤيتهم
مضطربة ومتأرجحة بين ما كانوا عليه وما طرأ عليهم من تحولات في الفكر
والمواقف ، فكانوا كالمنبت ، لا أرضاً قطع ، ولا ظهراً أبقى . التنويريون
طغت عليهم النزعة السياسية التي باتت تمثل جل اهتماماتهم، فمنهم من ابتعد
عن المنطلقات الشرعية ، ومنهم من تنكر لها أو انقلب عليها، وهذا ما جعل
بعضهم يلتقي مع الليبراليين في أهدافهم ، بل ربما كانوا مطية لهم من حيث
يشعرون أو لا يعلمون. هذا النوع من ( القيادات التنويرية ) التي تشهد
حضوراً في شبكات التواصل الاجتماعي اجتمعت حولها شريحة من الأتباع وتأثرت
بأطروحاتها ، فأصبحت فاقدة للرؤية ، لا تدري من أين انطلقت ، ولا ماذا تريد
، والى أين هي ذاهبة . ومحصلة نشاطهم في شبكات التواصل الاجتماعي لا
ينتظمها مشروع فكري تريد تحقيقه، ولا تأوي إلى ركن شرعي يعصمها من التأرجح
بين الاتجاهات ، بل ربما زلت أقدامها في منزلقات دينية أو سياسية أفقدتها
القدرة على السيطرة على نفسها ، إذ لم تدرك عواقب الرؤية المضطربة التي
أردتها فأصبحت من التائهين.
الثالث
، هم الليبراليون ، الذين أعلنوا تمردهم على دين الدولة وهوية المجتمع ،
ووجدوا في شبكات التواصل الاجتماعي متنفساً لفكرهم ، بعد أن وجدوا لهم
سنداً وعوناً في السياسة والإعلام رفع شأنهم ، وأقصى غيرهم . الليبراليون
الآن يبذلون وسعهم وجهدهم لاستغلال الفرصة السانحة التي هيأتها لهم الظروف
الدولية ، والمعطيات الداخلية لتصفية حساباتهم مع غيرهم ممن أسموهم بـ (
المحافظين ) أو ( التقليدين ) ، وهذا وصف يُعد ( في نظرهم ) ألطف
الأوصاف التي يمكن أن يطلقونها على مناوئيهم من ( السلفيين !!) .
في نشاط الليبراليين عبر شبكات التواصل الاجتماعي يتجلى المشروع التغريبي
في كل معالمه ، ابتداءً من تقويض مسلمات الشريعة وانتهاءً بإحلال القيم
الغربية التي ينادون بها بكرة وعشياً ، عبر طروحاتهم ، إلى ظهور فكر
الإلحاد. يتم ذلك من خلال تنسيق دقيق ، وخلايا منظمة ، تكون شبكات التواصل
الاجتماعي – وغيرها - وسيلة لنشر مخرجاتها والترويج لها .
الرابع
، هم الطائفيون ، الذين لهم مآرب سياسية كانت متخفية حتى آن أوان الإعلان
عنها ، والتصريح بغاياتها ، وانطلقت بأثر رجعي مثقلة بإرث دفين من الانتقام
العقدي والسياسي ، شجعها في ذلك نفوذ إيران الثورة ، والمد الشيعي ، الذي
يراد له أن يكون طوقاً على المنطقة بعد أن كان هلالاً !!
الخامس
، هم العلماء والدعاة وأهل الرأي الذين جمعوا بين العلم وفقه الواقع
والغيرة على الوطن ووحدته ونسيجه الاجتماعي ، والنظر إلى المقاصد والمآلات ،
فنهجوا منهج سلفهم من العلماء الذين عاصروا أحداثاً مر بها المجتمع منذ
توحيده ، فكانوا - بفضل من الله - السلطة الحافظة للمجتمع من الفرقة
والتشتت والتحزب. حضور هؤلاء وحراكهم الشرعي والفكري والسياسي عبر شبكات
التواصل الاجتماعي كان – ولا يزال - مصدراً للأمن الديني والفهم السياسي
المتزن ، مدركين أن التدرج في التغيير هو مطلب لا يتحقق بين عشية وضحاها ،
على الرغم من حرب الليبراليين وأعوانهم لهم ، ومحاولة عزلهم وإقصائهم ، أو
حتى فصلهم إذا اقتضى الأمر !!
والمتأمل لمضامين ما يدور من نقاش وحوار في الداخل يلحظ أن قضاياه تتعلق بمحاور ثلاثة ، هي :
1- قضايا
العقيدة ، والحوار فيها ينبغي أن يكون محسوماً . فقدَرُ هذه البلاد أن
تكون أرض الإسلام ، وحامية شريعته ومقدساته. ولم تقم للدولة قائمة إلا
بالتوحيد الذي جمع القيادة والشعب في عقد ديني واجتماعي متفق عليه ، لم
يضعه جون ستيوارت ميل في كتابه : ( مقال في الحرية )، ولا جان جاك روسو في
نظريته : ( العقد الاجتماعي ) ، بل نزل به الوحي على محمد صلى الله عليه
وسلم ، وثمرة هذا العقد ( البيعة الشرعية) على الحكم بكتاب الله تعالى وسنة
رسوله صلى الله عليه وسلم. فكل حوار أو نقاش عن هذا الأصل هو لغو وباطل .
2-
قضايا الإصلاح ، والنظر فيها ينبغي أن يكون منطلقاً من السياسة الشرعية
التي تتحقق بها المصالح وتُدرء بها المفاسد. على أن هناك مجالات تستلزم
الإصلاح الآني في ضوء المقاصد والمآلات ، مثل : الفتيا ، والقضاء، والشورى ،
وتفعيل الرقابة على المال العام ، والفساد المالي والإداري ، وحقوق
الإنسان ، والقضايا الاجتماعية، وغيرها مما يتطلب الإصلاح الناجز الذي يدفع
إلى تطوير الأداء ويحقق الأمن الاجتماعي للمواطن .
3- القضايا
المعيشية للمواطن ، وأهمها : البطالة ، والفقر ، والإسكان . وهذه مطالب
أساسية من حق المواطن أن تسارع الجهات المختصة في تلبيتها على الوجه الذي
يناسب تطلعات المواطن والقدرة الاقتصادية لبلاده.
والخلاصة ، أن ما يدور الآن من نقاش ديني وفكري وسياسي في المجتمع عبر
شبكات التواصل الاجتماعي هو حديث بصوت مسموع عن حقيقة ما يجري ، وما يمكن
أن يؤثر على وحدة الوطن وتماسكه . التغافل عن هذا الواقع أو تجاهله أو
الاكتفاء بترقبه ومتابعته ليس حلاً ، بل الحكمة في التعامل معه برؤية تهدف
إلى علاجه وتوجيهه وتسديده ، بطرائق وأساليب تحقق الأمن الاجتماعي ، علاج
يحفظ الحقوق ويبين الواجبات .
ومن المقترح في هذا السياق :
1- تتشكيل
هيئة عليا من أهل الاختصاص، الذين تتوافر فيهم سلامة المنهج والنزاهة
والاعتدال والإحاطة بالواقع ، وفهم منطلقاته، تكون مهمتها الأساس قراءة هذا
الحراك الفكري والسياسي والاجتماعي ، والتعامل معه وفق دراسات جادة تُبنى
عليها تصورات التعامل مع هذا الواقع الذي فرض نفسه ولم يكن لأحد خيار لجمه
أو تهدئته .
2- منح الصلاحيات العليا لهذه الهيئة لتمارس عملها بكل حرية وتجرد وحيادية .
3- النظر
في مضامين هذا النقاش استناداً إلى الأسس الشرعية والسياسية والأمنية التي
تمثل دعائم الوحدة الوطنية ، وتوجهات الإصلاح الذي يرجوه المواطن.
4- التعامل
مع الواقع من منطلق الوضوح والصراحة والشفافية ، التي تقود إلى تأسيس
شراكة حقيقية بين القيادة والشعب للنهوض بالمجتمع ، وحمايته من المخاطر
المحدقة به .
5-
التعامل مع المغردين خارج السرب ، والمخالفين لدين الدولة وأسسها وثوابتها
وفقاً للأنظمة والقوانين المعمول بها ، والصرامة في تطبيقها والآنية في
تنفيذها.
6- النظر
في مضامين هذا الحراك وما فيه من مطالب ، وفرز ما هو مناسب منها وفق
معايير الإصلاح الحقيقي ، المتجرد من النفعية الأيديولوجية أو المادية بكل
مستوياتها ، وترتيب أولياتها ، والسعي لدى الجهات المختصة لتحقيقها .
وإن من الواجب الشرعي والوطني أن تبذل طلائع النخب المثقفة ما تستطيعه
من الرأي والمشورة والدراسات الجادة لأصحاب القرار على اختلاف مستوياتهم ،
لتسهم في تشخيص المشكلات واقتراح ما تراه من حلول ، وهو أقل ما يمكن أن
تقدمه النخب المثقفة للوطن ، لتحفظ وحدته الدينية ونسيجه الاجتماعي ، في
وقت هو أحوج ما يكون لهم.
لجينيات
أ.د. محمد بن سعود البشر*
أستاذ الإعلام السياسي بجامعة الإمام محمد بن سعود ،
رئيس مركز الفكر العالمي عن السعودية
رئيس مركز الفكر العالمي عن السعودية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..