المثقف الجديد
08-02-1433 03:16
كل
من لديه إلمام بعلم توحيد الإلهية سبق أن اطلع على كلام شتى المذاهب
الطوائف في أحكام تعليق التمائم التحصينية التي فيها ذكر الله، والخلاف
الوارد فيها مع ترجيح المنع من تعليق التمائم ولو كان فيها ذكر الله تعالى
لمحاذير أبرزها سد ذرائع الشرك.لكن
فيما يتعلق بتعليق بعض الآيات في الانتخابات لدعوة الناس إليها، مثل قوله
تعالى: "وأن احكم بينهم بما أنزل الله"، في ذلك نقول: ما حكم هذا "التعليق
السياسي" إن كان وجه الشبه بين الحزب الإسلامي في "عدم تحكيم شرع الله"
والحزب الآخر الذي لا يحكم بشرع الله متقارباً؟!
فأحياناً يكون تعليق بعض الأحزاب الإسلامية للافتات تحمل آية "وأن احكم بينهم بما أنزل الله"، مثل تعليق المحاكم الوضعية لقوله تعالى: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"، وهي إنما تحكم بالأحكام الوضعية، وترى أن الحكم باسم الشعب وليس باسم الله! أفليس هذا شبيهاً بمن أنشأ حزبه وأقامه على الحكم بما أنزل الله، وليس بما أقره الشعب! ثم هو يقول إن الخيار ما اختاره الشعب؟!
الفكرة التي أناقشها في هذا المقال ليست وليدة اللحظة، فقد سبق أن نشرت وسائل إعلامية عن مواطن مصريّ أنه أرسل إلى وزير العدل يطالبه فيه أن ينزع الآيات القرآنية من هذه المحاكم لأنها لا تحكم بالعدل! فإن كان لهذا الاعتراض مسوغ حال توافر شرطه، فلعل ذلك يسوّغ ذلك لنا أن نقول للحزب الذي لا يحكم بما أنزل الله: نرجو منك أن تتوقف عن تعليق التمائم السياسية! لأن تعليقك لها إنما هو ذريعة لانتشار الحكم بغير ما أنزل الله، على أنه نوع من أنواع الحكم بما أنزل الله، ولأن تعليق هذه التميمة السياسية، يكون في علّة منعها شبه من أهم علل منع تعليق التمائم التحصينية، وهو جعل الحكم بما لم ينزله الله حكما بما أنزله الله.في شأن مقارب، سبق لي أن سمعت حواراً جرى بين الدكتور محمد السعيدي والدكتور راشد الغنوشي سأله فيه سؤالاً معناه: إن كان حزبك إسلامياً، وغير علماني، فقل لي: ما الفرق بين برنامجك وبرنامج أي حزب علماني آخر؟! هذا هو سؤال الدكتور السعيدي نقلته بالمعنى. لكن الصورة تنقل بأن نعكس الصورة: ماذا لو ادعت جميع الأحزاب العلمانيّة أنها أحزاب إسلاميّة ثم طالبت الأحزاب الإسلامية التي تعلمنتْ بأن توجد فرقاً بين أحزابها التي أصبح اسمها "إسلامية" وبين هذا الحزب الذي يسمي نفسه "إسلامياً"!
إن تجويزنا لعبور السياسي الإسلامي إلى ضفة السياسي العلماني واحتفاظه مع ذلك باستحقاقات المسمى الإسلامي، يوجب علينا أن نجوّز أن يدعي العلماني الذي عبر إليه الإسلامي أنه إسلامي، فما دام الفرق في الاسم لا المسمى، فما المانع من تغيير الاسم مع بقاء المسمى؟!
أنتقل الآن إلى الجزء الثاني من المقال فأقول: المشكلة التي أتحدث عنها لم تعد مقتصرة على طرفي سياسةٍ يقدم أحدهما تنازلات يعبر بها إلى الضفة الأخرى، بل وصل في بعض صوره إلى تبادل بعض التيارات الإسلامية الأدوار.
فمن يسمون في الوسط الخليجي بـ"السروريين" كانوا يستنكرون على من يسمون "الجاميّة" ما يسمونه مغالاتهم في طاعة ولاة الأمر والسكوت عن المنكرات، من دون أن يلتفتوا إلى مغالاة أنفسهم فيما يسمونه النصيحة والإنكار.
إلى هنا والأمر طبيعي، فثمة طرفان، أحدهما ينكر على الآخر مبالغته في الطاعة وعدم الإنكار على ولي الأمر، والآخر ينكر على الآخر مبالغته في الإنكار وتهوينه من شأن معصية لولي الأمر.
لكن الغريب أنه بعد الأحداث الأخيرة وتولي الإخوان المسلمين في بعض البلدان العربية مقاليد الأمور أو اقترابهم من ذلك، صار من كانوا يمارسون فقه الإنكار يمارسون فقه الطاعة وعدم الإنكار مع الإخوان السياسيين، فشرعوا يسكتون للإخوان في البلدان العربية على منكرات أشد من التي يرفضونها من حكام بلدانهم. وأضحوا يتهمون من يعترض على السياسيين الإخوانيين أو ينكر عليهم بعض منكراتهم بمعاداته للمشروع الإسلامي، ويدعون صباح مساء لمن وصل إلى الحكم في بلدان أولئك بالصلاح والتوفيق والسداد ويوالونهم (وهم لا طاعة لهم عليهم) أشد مما يوالون حكامهم في بلدانهم (الذين تجب لهم الطاعة عليهم).
وفي الجانب الآخر: أصبح من كانوا يرون أنه أي حاكم وصل إلى الحكم، سواء بالشورى أو الانتخاب أو بالقوّة وجبت طاعته، ونصيحته سرّاً، ما دام مسلماً، غدا همهم الوحيد ذم ساسة البلدان الذين وصلوا إلى سدة الحكم، وأصبحوا يمارسون ضدهم التصرفات نفسها التي كانوا يستنكرونها على من يسمونهم "السروريين" حين يتصرفون بها مع الحكام والرؤساء السابقين في البلدان العربية والإسلامية، مغالطين بذلك مذهبهم في وجوب الطاعة والصبر والنصيحة في السر لولاة الأمر.فالفريقان تبادلا الأدوار، دون أن يشعر أحد منهما بأنه عبر إلى الضفة الآخر وترك الآخر يحل مكانه في الأحداث الجارية في هذه الأيّام.
والآن أصل إلى الجزء الثالث من مقالي فأقول: إضافة إلى ما ذكرته في القسمين السابقين، فإن بعض التيارات الإسلامية في الخليج تبادلت الأدوار فيما يتعلق بالموقف من الأحداث السياسية التي تعصف بالمنطقة. فإن الأمر لم يقف على هذا الحد.
بل إن التناقض وانقلاب الموازين بلغ مداه الأقصى عند بعض أهل العلم والدعاة والتلاميذ: فالمعروف منذ انتشار الإسلام حتى اليوم، في الأحداث الكبرى العاصفة بالأمم أن التلاميذ وطلبة العلم والدعاة يتبعون علماءهم الراسخين في العلم. وقد انقلبت الحال، والذي حدث هو أن بعض مشاهير المنتديات والتويتر والفيسبوك من التلاميذ، أو من طلبة العلم الدعاة، أصبح لهم أتباع (في الموقع وفي المنهج) ممن لهم طول باع في العلم، فانقلبت الآية، فبدلاً من أن يتبع التلميذ شيخه ويعدل رأيه وفقاً لتوجيهه، أصبح بعض أهل العلم يبحثون عن "هاشتاق" التلميذ أو الداعية، لينضموا إليه ويكونوا من أتباعه، وجدّ على خطاب بعضهم وفي تعليقاته وفي فتاويه ما أخذه تقليداً من تلميذه دون أن يعرف مستنده فيه. وما أطرحه هنا لا يصح تسويغه في باب رواية الأكابر عن الأصاغر لأنه ليس من بابه، ولكنه من باب اتباع بعض العلماء لتلاميذهم مجملاً في مجال من مجالات الحياة التي تكاد تكون عرضة لأن تنزل فيها كل يوم نازلة من النوازل التي لا يمكن أن يستقل فيها العلماء بعضهم عن بعض فيها، فضلاً عن أن يصبح العلماء فيها أتباعاً لتلاميذهم فيها!ومن ذلك: اتباع بعض علماء العقيدة والسنّة لبعض الدعاة والباحثين الذين يميلون إلى المبالغة في الإنكار في تسميّة خصومهم المبالغين في النصيحة السرية بـ"غلاة" الطاعة، وعدم توقفهم في ذلك أو تردّدهم فيه. مع أن إطلاق لفظ "الغلاة" على مجموعة تختلف معها سياسيّاً، أو تختلف معها في فقه الواقع والمصالح والمفاسد والاستحسان، لا يجعل من العدل والإنصاف أن تطلق عليهم لفظاً يقلّ أن يطلق في التراث الإسلامي (لتعيين طائفة من الناس به) إلا على من كان مبتدعاً في الأصل، وأصبح غالياً في ابتداعه بعد ابتداعه بأن ازداد فيه وغلا، كما يطلق على "غلاة المعطلة" و"غلاة المرجئة" و"غلاة القدرية" و"غلاة الشيعة" إلخ. مع أن هذا التيار نفسه كان يستنكر من التيار المضادّ له توسّعه في إطلاق الابتداع على التيارات المنافسة له، فهل عبر هو الآخر إلى تلك ضفة خصمه في هذا المعنى دون أن يشعر أيضاً؟
إن تتبع العواطف والسعي وراءها من دون أن يكون المرء وقّافاً عند كل كبيرة وصغيرة، ومحترزاً من الشبه، قد يدفع المرء إلى أن يجد نفسه آخر الآمر متناقضاً، أو أن يجد نفسه مع خصمه في خندق واحد دون أن يشعر، أو أن يجد نفسه حتى وهو عالم وقد صار تابعا لتلميذه الذي لم يتسلح بالمعرفة وإن كان متسلحاً بالطلاقة التعبيريّة، بل وقد يجد نفسه وقد رجع عن اتباع شيخ مذهبه في مسائل هي من محاسن المذهب وفضائله ومناقب إمامه، وقصد إلى اتباع سلوكيات ليست من شيم الصالحين، فضلاً عن أن تكون من ميراث سيد النبييين. فعلى سبيل المثال: عندما انتشرت "مواقع التواصل" وجد بعض المشايخ من أتباع الإمام أحمد الذين عدلوا عن طريقة إمامهم الذين ينتسبون إليه ويقتدون به (في أبواب العقائد والفتن) إلى طريقة التعبير عن مشاعرهم وأحياناً عن مشاعر يسمونها "مشاعر الشارع!" أو تقليدهم لبعض تلاميذهم المشاهير.فنجدهم يتداولون بعض الأخبار السيئة، ويبثون في متابعيهم مشاعر النقمة والانتقام، والمتابع يرى بعض المشايخ المنتسبين لأحمد قد التهى بالتعليق على الساسة وأحوالهم ومصائرهم وأمراضهم وأعراضهم، وانشغل بموت السياسيين عن موته! ولو أن هؤلاء الذين يعدون أنفسهم أتباع أحمد بن حنبل نظروا لسيرته وترفعه عن نقل الأخبار السيئة لاستحيوا من زعم الاقتداء به حال طفولته، فضلا عن ذلك حال إمامته! إذ كان عمّ الإمام أحمد يسأله لماذا لم يوصل الأخبار التي وكله بإرسالها؟ فيقول له الإمام أحمد: "أنا كنت أرفع تلك الأخبار؟ رميت بها في الماء"! وتلك الأخبار التي كان أحمد يتلفها ويرميها في الماء كان يطلبها ابن بسطام ليقدمها للخليفة! فجعل ابن بسطام يسترجع ويقول: "غلام يتورع فكيف نحن"! وكان الإمام أحمد صبياً يكتب للنساء أخبارهن إلى أزواجهنّ، ويرسله معلمه لذلك، فإذا أملين عليه خبراً لا يحبه، رفض أن يكتبه، وكان ذلك بدء تميزه!
فما كان يتحرز منه الإمام أحمد وهو صبي، هو ما يقع فيه بعض أتباعه من المشايخ وهم في الشيخوخة أو على أعتابها!
وكذلك، المتابع يرى بعض المشايخ شغل نفسه بتحريض الناس على عقوبة من أساء إليهم! ولو أنه تأمل في مواقف إمام مذهبه في مثل هذه المواقف، لوجد أنه يخالفه أشد المخالفة، فعلى سبيل المثال: فإن الإمام أحمد أرسل إليه الخليفة قائلاً: إن هنا علويا ممن ظلمك، فإن أحببت ضربته أو حبسته أو بعثته إليك فقال: لا أعرف هذا، أطلقوه ولا تتعرضوا له، فقال أحد جلساء أحمد: سفك الله دمه، أشاط بدمائكم، فقال أحمد: ما أراد إلا استئصالنا، لكن لا تتعرضوا له، لعل له والدة أو أخوات أو بنات! وفي واحد من أنبل مواقف الإمام أحمد: عندما كان يبعث الخليفة يعقوب وعتاباً إلى أحمد فيقولان: يقول أمير المؤمنين: ما تقول في ابن أبي دؤاد وماله؟ فيرفض الإمام أحمد إجابتهم بشيء!
فسؤالي هنا تبعاً للأسئلة التي أثارتها الأجزاء السابقة من المقال: لماذا انحدر مشايخ يدعون أنهم أتباع للإمام أحمد عن سمته وتورعه في هذه المنعطفات المضيئة من حياته، وتركوها، وتخلفوا عن إمام مذهبهم، واتبعوا أتباعهم، ثم بعد ذلك أوهموا الناس بأن صنيعهم هو الصحيح؟!
قد قيل: عش رجباً تر عجباً.
فأحياناً يكون تعليق بعض الأحزاب الإسلامية للافتات تحمل آية "وأن احكم بينهم بما أنزل الله"، مثل تعليق المحاكم الوضعية لقوله تعالى: "وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"، وهي إنما تحكم بالأحكام الوضعية، وترى أن الحكم باسم الشعب وليس باسم الله! أفليس هذا شبيهاً بمن أنشأ حزبه وأقامه على الحكم بما أنزل الله، وليس بما أقره الشعب! ثم هو يقول إن الخيار ما اختاره الشعب؟!
الفكرة التي أناقشها في هذا المقال ليست وليدة اللحظة، فقد سبق أن نشرت وسائل إعلامية عن مواطن مصريّ أنه أرسل إلى وزير العدل يطالبه فيه أن ينزع الآيات القرآنية من هذه المحاكم لأنها لا تحكم بالعدل! فإن كان لهذا الاعتراض مسوغ حال توافر شرطه، فلعل ذلك يسوّغ ذلك لنا أن نقول للحزب الذي لا يحكم بما أنزل الله: نرجو منك أن تتوقف عن تعليق التمائم السياسية! لأن تعليقك لها إنما هو ذريعة لانتشار الحكم بغير ما أنزل الله، على أنه نوع من أنواع الحكم بما أنزل الله، ولأن تعليق هذه التميمة السياسية، يكون في علّة منعها شبه من أهم علل منع تعليق التمائم التحصينية، وهو جعل الحكم بما لم ينزله الله حكما بما أنزله الله.في شأن مقارب، سبق لي أن سمعت حواراً جرى بين الدكتور محمد السعيدي والدكتور راشد الغنوشي سأله فيه سؤالاً معناه: إن كان حزبك إسلامياً، وغير علماني، فقل لي: ما الفرق بين برنامجك وبرنامج أي حزب علماني آخر؟! هذا هو سؤال الدكتور السعيدي نقلته بالمعنى. لكن الصورة تنقل بأن نعكس الصورة: ماذا لو ادعت جميع الأحزاب العلمانيّة أنها أحزاب إسلاميّة ثم طالبت الأحزاب الإسلامية التي تعلمنتْ بأن توجد فرقاً بين أحزابها التي أصبح اسمها "إسلامية" وبين هذا الحزب الذي يسمي نفسه "إسلامياً"!
إن تجويزنا لعبور السياسي الإسلامي إلى ضفة السياسي العلماني واحتفاظه مع ذلك باستحقاقات المسمى الإسلامي، يوجب علينا أن نجوّز أن يدعي العلماني الذي عبر إليه الإسلامي أنه إسلامي، فما دام الفرق في الاسم لا المسمى، فما المانع من تغيير الاسم مع بقاء المسمى؟!
أنتقل الآن إلى الجزء الثاني من المقال فأقول: المشكلة التي أتحدث عنها لم تعد مقتصرة على طرفي سياسةٍ يقدم أحدهما تنازلات يعبر بها إلى الضفة الأخرى، بل وصل في بعض صوره إلى تبادل بعض التيارات الإسلامية الأدوار.
فمن يسمون في الوسط الخليجي بـ"السروريين" كانوا يستنكرون على من يسمون "الجاميّة" ما يسمونه مغالاتهم في طاعة ولاة الأمر والسكوت عن المنكرات، من دون أن يلتفتوا إلى مغالاة أنفسهم فيما يسمونه النصيحة والإنكار.
إلى هنا والأمر طبيعي، فثمة طرفان، أحدهما ينكر على الآخر مبالغته في الطاعة وعدم الإنكار على ولي الأمر، والآخر ينكر على الآخر مبالغته في الإنكار وتهوينه من شأن معصية لولي الأمر.
لكن الغريب أنه بعد الأحداث الأخيرة وتولي الإخوان المسلمين في بعض البلدان العربية مقاليد الأمور أو اقترابهم من ذلك، صار من كانوا يمارسون فقه الإنكار يمارسون فقه الطاعة وعدم الإنكار مع الإخوان السياسيين، فشرعوا يسكتون للإخوان في البلدان العربية على منكرات أشد من التي يرفضونها من حكام بلدانهم. وأضحوا يتهمون من يعترض على السياسيين الإخوانيين أو ينكر عليهم بعض منكراتهم بمعاداته للمشروع الإسلامي، ويدعون صباح مساء لمن وصل إلى الحكم في بلدان أولئك بالصلاح والتوفيق والسداد ويوالونهم (وهم لا طاعة لهم عليهم) أشد مما يوالون حكامهم في بلدانهم (الذين تجب لهم الطاعة عليهم).
وفي الجانب الآخر: أصبح من كانوا يرون أنه أي حاكم وصل إلى الحكم، سواء بالشورى أو الانتخاب أو بالقوّة وجبت طاعته، ونصيحته سرّاً، ما دام مسلماً، غدا همهم الوحيد ذم ساسة البلدان الذين وصلوا إلى سدة الحكم، وأصبحوا يمارسون ضدهم التصرفات نفسها التي كانوا يستنكرونها على من يسمونهم "السروريين" حين يتصرفون بها مع الحكام والرؤساء السابقين في البلدان العربية والإسلامية، مغالطين بذلك مذهبهم في وجوب الطاعة والصبر والنصيحة في السر لولاة الأمر.فالفريقان تبادلا الأدوار، دون أن يشعر أحد منهما بأنه عبر إلى الضفة الآخر وترك الآخر يحل مكانه في الأحداث الجارية في هذه الأيّام.
والآن أصل إلى الجزء الثالث من مقالي فأقول: إضافة إلى ما ذكرته في القسمين السابقين، فإن بعض التيارات الإسلامية في الخليج تبادلت الأدوار فيما يتعلق بالموقف من الأحداث السياسية التي تعصف بالمنطقة. فإن الأمر لم يقف على هذا الحد.
بل إن التناقض وانقلاب الموازين بلغ مداه الأقصى عند بعض أهل العلم والدعاة والتلاميذ: فالمعروف منذ انتشار الإسلام حتى اليوم، في الأحداث الكبرى العاصفة بالأمم أن التلاميذ وطلبة العلم والدعاة يتبعون علماءهم الراسخين في العلم. وقد انقلبت الحال، والذي حدث هو أن بعض مشاهير المنتديات والتويتر والفيسبوك من التلاميذ، أو من طلبة العلم الدعاة، أصبح لهم أتباع (في الموقع وفي المنهج) ممن لهم طول باع في العلم، فانقلبت الآية، فبدلاً من أن يتبع التلميذ شيخه ويعدل رأيه وفقاً لتوجيهه، أصبح بعض أهل العلم يبحثون عن "هاشتاق" التلميذ أو الداعية، لينضموا إليه ويكونوا من أتباعه، وجدّ على خطاب بعضهم وفي تعليقاته وفي فتاويه ما أخذه تقليداً من تلميذه دون أن يعرف مستنده فيه. وما أطرحه هنا لا يصح تسويغه في باب رواية الأكابر عن الأصاغر لأنه ليس من بابه، ولكنه من باب اتباع بعض العلماء لتلاميذهم مجملاً في مجال من مجالات الحياة التي تكاد تكون عرضة لأن تنزل فيها كل يوم نازلة من النوازل التي لا يمكن أن يستقل فيها العلماء بعضهم عن بعض فيها، فضلاً عن أن يصبح العلماء فيها أتباعاً لتلاميذهم فيها!ومن ذلك: اتباع بعض علماء العقيدة والسنّة لبعض الدعاة والباحثين الذين يميلون إلى المبالغة في الإنكار في تسميّة خصومهم المبالغين في النصيحة السرية بـ"غلاة" الطاعة، وعدم توقفهم في ذلك أو تردّدهم فيه. مع أن إطلاق لفظ "الغلاة" على مجموعة تختلف معها سياسيّاً، أو تختلف معها في فقه الواقع والمصالح والمفاسد والاستحسان، لا يجعل من العدل والإنصاف أن تطلق عليهم لفظاً يقلّ أن يطلق في التراث الإسلامي (لتعيين طائفة من الناس به) إلا على من كان مبتدعاً في الأصل، وأصبح غالياً في ابتداعه بعد ابتداعه بأن ازداد فيه وغلا، كما يطلق على "غلاة المعطلة" و"غلاة المرجئة" و"غلاة القدرية" و"غلاة الشيعة" إلخ. مع أن هذا التيار نفسه كان يستنكر من التيار المضادّ له توسّعه في إطلاق الابتداع على التيارات المنافسة له، فهل عبر هو الآخر إلى تلك ضفة خصمه في هذا المعنى دون أن يشعر أيضاً؟
إن تتبع العواطف والسعي وراءها من دون أن يكون المرء وقّافاً عند كل كبيرة وصغيرة، ومحترزاً من الشبه، قد يدفع المرء إلى أن يجد نفسه آخر الآمر متناقضاً، أو أن يجد نفسه مع خصمه في خندق واحد دون أن يشعر، أو أن يجد نفسه حتى وهو عالم وقد صار تابعا لتلميذه الذي لم يتسلح بالمعرفة وإن كان متسلحاً بالطلاقة التعبيريّة، بل وقد يجد نفسه وقد رجع عن اتباع شيخ مذهبه في مسائل هي من محاسن المذهب وفضائله ومناقب إمامه، وقصد إلى اتباع سلوكيات ليست من شيم الصالحين، فضلاً عن أن تكون من ميراث سيد النبييين. فعلى سبيل المثال: عندما انتشرت "مواقع التواصل" وجد بعض المشايخ من أتباع الإمام أحمد الذين عدلوا عن طريقة إمامهم الذين ينتسبون إليه ويقتدون به (في أبواب العقائد والفتن) إلى طريقة التعبير عن مشاعرهم وأحياناً عن مشاعر يسمونها "مشاعر الشارع!" أو تقليدهم لبعض تلاميذهم المشاهير.فنجدهم يتداولون بعض الأخبار السيئة، ويبثون في متابعيهم مشاعر النقمة والانتقام، والمتابع يرى بعض المشايخ المنتسبين لأحمد قد التهى بالتعليق على الساسة وأحوالهم ومصائرهم وأمراضهم وأعراضهم، وانشغل بموت السياسيين عن موته! ولو أن هؤلاء الذين يعدون أنفسهم أتباع أحمد بن حنبل نظروا لسيرته وترفعه عن نقل الأخبار السيئة لاستحيوا من زعم الاقتداء به حال طفولته، فضلا عن ذلك حال إمامته! إذ كان عمّ الإمام أحمد يسأله لماذا لم يوصل الأخبار التي وكله بإرسالها؟ فيقول له الإمام أحمد: "أنا كنت أرفع تلك الأخبار؟ رميت بها في الماء"! وتلك الأخبار التي كان أحمد يتلفها ويرميها في الماء كان يطلبها ابن بسطام ليقدمها للخليفة! فجعل ابن بسطام يسترجع ويقول: "غلام يتورع فكيف نحن"! وكان الإمام أحمد صبياً يكتب للنساء أخبارهن إلى أزواجهنّ، ويرسله معلمه لذلك، فإذا أملين عليه خبراً لا يحبه، رفض أن يكتبه، وكان ذلك بدء تميزه!
فما كان يتحرز منه الإمام أحمد وهو صبي، هو ما يقع فيه بعض أتباعه من المشايخ وهم في الشيخوخة أو على أعتابها!
وكذلك، المتابع يرى بعض المشايخ شغل نفسه بتحريض الناس على عقوبة من أساء إليهم! ولو أنه تأمل في مواقف إمام مذهبه في مثل هذه المواقف، لوجد أنه يخالفه أشد المخالفة، فعلى سبيل المثال: فإن الإمام أحمد أرسل إليه الخليفة قائلاً: إن هنا علويا ممن ظلمك، فإن أحببت ضربته أو حبسته أو بعثته إليك فقال: لا أعرف هذا، أطلقوه ولا تتعرضوا له، فقال أحد جلساء أحمد: سفك الله دمه، أشاط بدمائكم، فقال أحمد: ما أراد إلا استئصالنا، لكن لا تتعرضوا له، لعل له والدة أو أخوات أو بنات! وفي واحد من أنبل مواقف الإمام أحمد: عندما كان يبعث الخليفة يعقوب وعتاباً إلى أحمد فيقولان: يقول أمير المؤمنين: ما تقول في ابن أبي دؤاد وماله؟ فيرفض الإمام أحمد إجابتهم بشيء!
فسؤالي هنا تبعاً للأسئلة التي أثارتها الأجزاء السابقة من المقال: لماذا انحدر مشايخ يدعون أنهم أتباع للإمام أحمد عن سمته وتورعه في هذه المنعطفات المضيئة من حياته، وتركوها، وتخلفوا عن إمام مذهبهم، واتبعوا أتباعهم، ثم بعد ذلك أوهموا الناس بأن صنيعهم هو الصحيح؟!
قد قيل: عش رجباً تر عجباً.
عبدالواحد الأنصاري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..