(الجزء الثاني)
مقالي اليوم هو كالتتمة لمقالٍ نشرتُه قبلَ عامٍ وربع العام مع بدايات
الثورة المصرية(1)ويصح أن يكون أيضاً تتمة لمقال آخر نشرته في تلك الظروف كان
عنوانه أحداث مصر بين الفرح والفكر(2)فقد تحدثت في
ذينك المقالين عمَّا أراه
الأمثل في أسلوب تعامل أهل الرأي مع تلك الثورة , والعواقب المتوقعة في ترك الثورة
دون مطالب تحدد مصير ما بعدها.
يشتكي الجميع اليوم من هيمنة المجلس العسكري وتصرفه في الأمور وهيمنته
على صناعة الأنظمة على وجه يسلب الرئيس والجماهير أية سلطة كانوا يحلمون بها في ظل
الديمقراطية.
فبعد كلِ التغييرات التي حدثت في ظل المجلس لم يعد يُغَيِّرُ في الأمر
شيء لدى العسكر أن يتولى رئآسة مصر إخواني
أم سلفي أم ليبرالي , فالرئيس بعد كل تلك التغييرات سيكون كالرجل الذي يجعله
الحُوَاةُ معلقاً في الهواء في أعين الناظرين.
لماذا أصبح الأمر كذلك ؟
سؤالٌ أجدُ أن الإجابة عليه أحدُ الدروس الواجب استخلاصها من تجارب
الأمة قديمها وحديثها.
وحقيقة الأمر عندي أن النهايات مرهونة ببداياتها , فحين تريد دراسة
نجاح تجربة أو فشلها فلا بد أن ترجع إلى
أوائلها لتجد خيوط النجاح أو الفشل مجتمعة
هناك .
ما حدتَ في مصرَ وما يحدثُ مثالٌ واضح عندي لهذه القاعدة , فقطف
العسكر لنتائج الثورة في نهاية المطاف لم يكن أمراً خافياً على أهل البصيرة والنظر
منذ الأيام الأولى لأحداث ميدان التحرير, حيث كانت النماذج التاريخية , والمعطيات
الأولية لهذه النتيجة متوفرة بشكل ليس بالقليل في تلك الأحداث وما يحيط بها, ولا
يُتَصور أبداً أن معطياتٍ واضحةً كتلك كانت خافية على أساطين المحللين والمؤرخين
والعلماء والمفكرين , أكثر أولئك كانوا يتوقعون هذه النتيجة , لكن المشكلة تكمن في
أن صوت الجماهير كان من العُلُو بحيث
استقطبَ أصواتَ أكثرِ المفكرين الذين تماهوا معه وفقدوا قدرتهم الخاصة على التعبير
, وآخرون وهم قليلون جداً تحدثوا بصراحة لكن صوتهم لم يكن مسموعاً .
معظم من لهم صوتٌ وكلمةٌ مسموعة من العلماء وأهلِ الرأي إبان الثورة
المصرية اكتفوا بالدفع باتجاهها , ولم يحاول أحدٌ مطلقاً أن يوجه الجماهير لتكون
مطالبهم أبعد من إزاحة الرئيس , فمرحلة ما بعد رحيله لم يتحدث عنها أحد , وقد كان
هذا في ذاته تسليماً لمقاليد أمر تقرير مصيرِ مصرَ ما بعد الثورة ,لأؤلئك الذين
يملكون وحدهم القدرة على تحقيق المطلب الوحيد للثورة وهو إسقاط النظام أي الرئيس ,
وأعني بهم المجلس العسكري.
كان هناك تدابير عديدة أثناء الثورة يُمكن القيامُ بها من قِبَل
العلماء وأهل الرأي لجعل مطالب الثورة تشمل ملء المكان بعد رحيل الرئيس , وعدم ترك
ذلك لأهواء العسكر يتلاعبون بالمجتمع كيف يشاؤون , لكن أياً من هذه التدابير لم
يُطْرَحْ , سوى محاولة خجولة ومتواضعة سُميت حينها لجنة الحكماء لكن هذه اللجنة لم
تشتمل على أحد من العلماء أو المتبوعين فكرياً , بحيث تستقطب الجماهير وتقودهم
فكرياً , وكذلك لم يكن عملها يتجاوز التفاوضَ مع السلطة في نقل مطلب الثوار الوحيد
وهو إزاحة الرئيس أما مرحلة ما بعد ذهابه فلم يتحدث عنها أحد .
كلُ الثورات سواء أكانت عسكرية أم شعبية إذا لم تَضْمَن في داخلها
إعداد مرحلة ما بعدها فإنها تُختطف , والمصريون يعرفون اختطاف الثورات جيداً وأخص
الكبراء وأهل الرأي الذي عاصر معظمهم ثورة 1952هـ التي اختُطِفَت فور نجاحها , وإن
كان هذا الاختطاف لم يظهر جلياً للعيان إلا بعد عزل اللواء محمد نجيب بعد الثورة
بعامين , كما أن هذه الثورة لم يظهر اختطافها إلا بعد عام من نجاحها.
ما يحدث في مصر هو شئ طبيعي واختطاف تقليدي للثورة التي دخل العلماء والمفكرون
في خِضَمِّها ولم يحمل أحدٌ منهم عبء توجيهها ووضع البرامج لجعل مطالبها عملية
وحاميةً لها.
هذا الكلام ليس جديداً عليَّ وإن كان بعض الأحبة القراء قد يظنه
جديدا.
ففي أول أيام الثورة طالبت أحد كبار العلماء بتوجيه الثورة وعدم
الاكتفاء بالدفع إليها (3), وبينت أن فقهاء الشريعة في زمانهم قرروا أنه يجب أن يُعْلِن العلماء خلع الحاكم إذا
كانوا يرون عدم صلاحيته للحكم , ولا يتركوا أمر تَنَحِّيه أو تَنْحِيَتِه له أو
لأحد آخر , لأن الآخر الذي سيتولى أمر تَنْحِيَته هو من سيملك مقاليد تصريف الأمور
فيما بعد زواله.
بل يجب عند خلع الحاكم أن يُسَمِي العلماء للناس بديلاً ,هذا ما قلته
آنذاك .
وهذا هو ما سطره الفقهاء منذ عصور ساحقة , أما الآن فيمكن للعلماء
وأهل الرأي عند إعلان خلع الحاكم أن يعلنوا قيام مجلس للحكم يتولى إدارة شؤون
الدولة حتى تتكون حكومة دستورية .
وقد يرى البعض أن هذه الطريقة غير ناجحة .
والجواب : أن انتقال السلطة من يد بن علي وحكومته إلى إدارةٍ مؤقتة
بعيدة عن العسكر كان أسلوباً قريباً مما اقترحتُه وقد حقق هناك نجاحا في إيجاد
برلمان منتخب ومؤسسة رئاسية وحكومة مُعَبِّرَة عن البرلمان .
ولو تم ذلك الأمر أو قريباً منه في مصر أثناء الثورة واعتمد أهل الرأي
في قرارهم على الضغط الجماهيري الهائل لكانت مقاليدها اليوم بيد خِيَارها ولتحكم
هؤلاء بتصريف الأمور ولأقاموا الأمر على وفق ما يُقَامُ الخير والعدل .
فما يحدث في مصر اليوم من هيمنة المجلس العسكري واستبداده بالأمور,
أمرٌ في غالب ظني كان يتوقعه أغلب العلماء
والمحللين والمفكرين لأن معالمه كانت واضحةً من طريقة تعاملهم مع الثورة وهو
الاقتصار على الدفع دون التوجيه , وازداد وضوحُها حين تولى المجلس العسكري دور
البطولة في تلبية مطالب الثوار وبالتالي أخذ تزكية الجميع ليتولى كل الصلاحيات
التي تمكنه أن يفعل ما فعل.
العلماء والمفكرون والمحللون لم يكن يخفى عليهم أنه مع القول ولوجدلاً
بنزاهة المجلس العسكري,فإن العالم لن يتركه وشأنه , ولابد أن يكون للدول المهيمنة
المتأثرة بكل ما يدور في مصر دورها في
صناعة ما يجري فيه , وسوف يتعرض هذا المجلس للضغوط الرهيبة وأساليب العصا والجزرة
كي يفعل ما يريدون أو لِنَقُلْ: كي يفعل ما يقيه ويقي الأمة شرهم بحسب تصوراته
العسكرية.
لم تكن تخفى على أحد ثقافةُ أعضاءِ المجلس العسكري في مجالي الأمن
الداخلي والخارجي , وحين نُقارنُ تلك الثقافة بكل القرارات التي اتُخِذتْ في عهده نجدُ
أنها لا تخرج قيد أنملة عن مقياس تلك الثقافة , فترك الثورة دون توجيه ودون مطالب تحدد مرحلة
ما بعدها هو عبارةٌ عن تسليمٍ لمستقبل البلاد لأيديهم يتصرفون به بالطريقة التي
تُمليها عليهم ثقافتهم الأمنية المحضة.
العلماء والمفكرون والمحللون لم يكن يخفى عليهم آنذاك أن التأييد
الفوري من الولايات المتحدة الأمريكية للثورة لم يكن تأييداً نزيهاً , بل كان
وراءه ما وراءه , وهذا الماوراء لم يكن سراً فقد تحدث مستشارو السياسة الأمريكية كثيراً منذ عام
2005عن ضرورة التغيير في سياسة العلاقات الأمريكية الشرق أوسطية , وقد نشر مركز قناة الجزيرة للدراسات مُلخَّصاً
عن تقرير معهد الشرق الأوسط للسياسات وكان هذا الملخص بعنوان : بناء جسور لا جدران
, وهو أحد النماذج للكثير مما كُتِبَ في هذا الشأن.
كل ما ذكرته وأكثر منه كان معروفاً لدى النخب العلمية والفكرية ,
فلماذا لم يبوحوا به وَقتها وقَصَرُوا مهمتهم على الحشد والتأجيج ؟
الجواب الظاهر لدَيَّ أن سُلطة العقل الجمعي لها دوَّامَة تبتلعُ كلَّ
من يقترب من دائرتها ليكون جزءاً منها
وتُغَيِّبَ كلِ خصوصياته وقدراته ومهاراته.
سُلطة العقل الجمعي هي التي حالت بين كثيرٍ من قيادات العلم والفكر
وبين إبداء رأي البصيرة في تلك النازلة ذلك الرأي الذي كان كفيلاً بتجنيب مصر
خسارة هذه الثورة التي وإن اختلفت معها في آلياتها إلا أن خلافي هذا لا يمنعني من
النظر إلى طُرُق اغتنامها وتجنيب الأمة
مغبة الخسارة والفشل فيها.
(1) %D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%A9
بقلم: د.محمد السعيدي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..