الجمعة، 13 يوليو 2012

الفوضى الخلاقة وسياسة ترتيب التحالفات

قالوا عنها: إنها حالة "جيوبوليتيكية"، تعمل على إيجاد نظام سياسي جديد فعَّال، بعد تدمير النظام القائم أو إعادة تَدْجِينه، في عملية تغيير تتسم بالسرعة والعنف والعدوانية؛ من أجل خلق تحالفات نفعية جديدة تدعم المصالح، وتدرُّ الأرباح على المستوى السياسي والاقتصادي.


وقالوا عنها: إنها سياسة انتهاز الفُرَص، والاستفادة من حالة الهَرج الإقليمي في إعادة ترتيب الأوضاع، بما يخدم مصالح القوى الكبرى، كمحاولة لتجنُّب التدخل العسكري وتلافي الخسائر البشرية والمادية التي تقتضيها الحروب.

وقالوا: إنها نوع من العلاج السياسي على طريقة الصدمة الكهربائية الطبية؛ لإعادة الحياة إلى دول أو أقاليم بنسق جديد، يضمن الولاءات والتحالفات للدول الكبرى.

ويتشارك في انفجار "الفوضى الخلاقة" العديد من المؤسسات المعلوماتية والاستخباراتية، والإعلامية والاقتصادية، التي تركز جهدها: على الطبقة الكادحة، وشريحة الشباب، والأقليات الدينية والعرقية، الذين يعانون من ويلات الأنظمة الاستبدادية؛ حيث يمثلون شرارة البَدْء التي تحرك الساكن وتهيِّئ الظروف لإعادة الترتيب، والاستفادة القصوى من التحالفات الوليدة بما يضمن السيطرة والأخذ بزمام الأمور.

الجذور التاريخية والثقافية:
يُرجِع البعض جذور هذه النظرية إلى المبادئ الماسونية، ومنهم من يربطها بالعقيدة المسيحية؛ حيث يذكر عن الأب "ديف فليمنج" - بكنيسة المجتمع المسيحي بمدينة بتيسبرج ببنسلفانيا - قوله: "إن الإنجيل يؤكد لنا أن الكون خلق من فوضى، وأن الرب قد اختار الفوضى؛ ليخلق منها الكون، وعلى الرغم من عدم معرفتنا لكيفية هذا الأمر، فإننا متيقِّنون أن الفوضى كانت خطوة مهمة في عملية الخلق".

ويرسم الأمريكي "صموئيل هنتجتون" آلية الفوضى الخلاقة بما يعرف بـ "فجوة الاستقرار"، وهي الفجوة التي يشعر بها المواطن بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون؛ فتنعكس بضيقها أو اتساعها على الاستقرار بشكل أو بآخر.

فاتساعها يولِّد إحباطًا ونقمة في أوساط المجتمع؛ مما يعمل على زعزعة الاستقرار السياسي، لا سيما إذا ما انعدمت الحرية الاجتماعية والاقتصادية، وافتقدت مؤسسات النظام إلى القابلية والقدرة على التكييف الإيجابي؛ فتتحول مشاعر الناس في أية لحظة إلى مطالب ليست سهلة للوهلة الأولى، وأحيانًا غير متوقعة؛ مما يفرض على مؤسسات النظام ضرورة التكيف من خلال الإصلاح السياسي، وتوسيع المشاركة السياسية، واستيعاب تلك المطالب.

أما إذا كانت تلك المؤسسات محكومة بالنظرة الأحادية، فإنه سيكون من الصعب الاستجابة لأي مطالب، إلا بالمزيد من الفوضى التي يرى "هنتجتون" أنها ستقود في نهاية الأمر إلى استبدال قواعد اللعبة واللاعبين.

نظرية لمنطقتنا العربية:
تعتبر نظرية "الفوضى الخلاقة" أحد أهم الأفكار التي أنتجها العقل الإستراتيجي الأمريكي في التعامل مع قضايا العالم العربي؛ حيث تمت صياغة هذا المصطلح بعناية فائقة من قبل النُّخب الأكاديمية، وصُناع السياسة في الولايات المتحدة، فعلى خلاف السائد في المجال التداولي لمفهوم الفوضى المُثقل بدلالات سلبية من أبرزها عدم الاستقرار، أضيف إليه مصطلح آخر يتمتع بالإيجابية وهو الخلق أو البناء، ولا يخفى على أحد خبث المقاصد الكامنة في صلب مصطلح "الفوضى الخلاقة"، بغرض التضليل والتمويه على الرأي العام العربي والعالمي.

وتمثل الأطروحة الرئيسية لنظرية الفوضى الخلاقة على اعتبار الاستقرار في العالم العربي عائقًا أساسيًّا أمام تقدُّم مصالح الولايات المتحدة في المنطقة؛ ولذلك لا بد من اعتماد سلسلة من التدابير والإجراءات تضمن تحقيق رؤيتها التي تطمح إلى السيطرة والهَيْمنة على العالم العربي، الذي يمتاز بحسب النظرية بأنه عالم عقدي وغني بالنفط، الأمر الذي يشكل تهديدًا مباشرًا لمصالح الولايات المتحدة.

وينادي أقطاب نظرية الفوضى الخلاقة باستخدام القوة العسكرية لتغيير الأنظمة كما حدث في أفغانستان والعراق، وتبني سياسة التهديد بالقوة، التي تساهم في تفجير الأمن الداخلي للعالم العربي، وتشجيع وتأجيج المشاعر الطائفية، وتوظيفها في خلق الفوضى، كما هو الحال في التعامل مع الوضع اللبناني والسوري والعراقي.

ويُعَد "مايكل ليدين" - العضو البارز في معهد "أمريكا انتربرايز" - أول من صاغ مفهوم "الفوضى الخلاقة"، أو "الفوضى البنَّاءة"، أو "التدمير البنَّاء"، في معناه السياسي الحالي، وهو ما عبر عنه في مشروع "التغيير الكامل في الشرق الأوسط"، الذي أعده عام 2003م؛ حيث ارتكز المشروع على منظومة من الإصلاحات: السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، الشاملة لكل دول المنطقة، وَفقًا لإستراتيجية جديدة تقوم على أساس الهدم، ثم إعادة البناء.

ولقد اعتمدها "المحافظون الجُدُد في الولايات المتحدة"؛ لتهديد الأمن العالمي عامة، وتغيير الأنظمة العربية والإسلامية خاصة، مثلما حصل في العراق، وكانت سوريا وإيران من الأهداف اللاحقة.

وتلخص وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة "كوندوليزا رايس" عملية الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط بقولها: "إن الولايات المتحدة سعت على مدى ستين عامًا إلى تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط على حساب الديمقراطية، ولم تحقق أيًّا منهما، وتتبنى الآن نهجًا مختلفًا.

إن هناك من يقول: إن الديمقراطية تقود إلى الفوضى والصراع والإرهاب، والحقيقة أن العكس هو الصحيح، بمعنى أن الفوضى تمثل الأساس المنهجي لخلق الديمقراطية الأمريكية المنشودة".

وحول أحداث عدم الاستقرار في بعض البلدان العربية - خاصة العراق - صرحت "رايس" لصحيفة "الواشنطن بوست" - في شهر أبريل 2005 - بقولها: "إن الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديمقراطي في البداية، هي من نوع الفوضى الخلاقة التي قد تنتج في النهاية وضعًا أفضل مما تعيشه المنطقة حاليًّا".

معاول وأساليب:
استخدمت الولايات المتحدة كثيرًا من المعاول من أجل تحريك الأوضاع الإقليمية؛ مثل: ملفات الإسلام، والإرهاب، وحقوق المرأة، كما خلقت جبهات عدة من أجل حرية التعبير بالمفهوم الغربي، كأزمة الرسوم المسيئة للرموز الإسلامية من جهة، ودعم الحريات الشخصية - كحقوق الشواذ والمثليين - من جهة أخرى، وتدخلت في كثير من الأماكن كداعم لحقوق الإنسان، ونُصرة الأقليات: "الأقباط بمصر، والأمازيغ في المغرب، والشيعة في اليمن، والأكراد بالعراق"، وحقوق المجتمع المدني، ولعبت أدوارًا خفية هنا وهناك لزرع النزعات والنزاعات الطائفية، والمذهبية، والعرقية، والإقليمية، وتشويه صورة المسلمين في عيون الآخرين، وزعزعة القِيَم الإسلامية داخل المجتمعات المحافظة.

لقد أرادت الولايات المتحدة بذلك - ولا زالت - فرض مناخ فكري يخلق لها بيئة آمنة للوجود المستقر في إطار المجتمعات العربية والإسلامية، دون مساعدة أو تدخل النُّخب الحاكمة لتلك المجتمعات، وربط العالم بشبكة اتصال واحدة من شأنها خلْق عقل جمعي مبرمج وَفْق النمط الغربي، الأمر الذي أدخل الذات الحضارية لمجتمعاتنا في حالة من عدم التوازن، وجعلها قابلة لاختراق الطرح المُعَوْلَم وَفقًا للصيغة الأمريكية.

نظرية خبيثة:
الفوضى لا تنتج إلا فوضى، فلقد أثبتت الوقائع أن نظرية "الفوضى الخلاقة" ليست أسلوبًا سياسيًّا ناجحًا وناجعًا على الإطلاق؛ فقد "تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن"، وسناريوهات الفشل المتلاحقة لهذه النظرية أصابت سَدَنتها بالإحباط؛ فها هو الشرق الأوسط الجديد يتشكل، ولكنه بالشكل الذي لا يرضي مهندسي هذه النظرية، ومَن سار على دربهم.

ففي العراق - التي طبقت فيه تلك النظرية المشؤومة بحذافيرها - لم يصل إلى ترتيب أوضاعه على النحو الذي يرضي أمريكا وحلفاءها، وما زالت المقاومة المسلحة شوكة في جنب الحكومة الحالية التي تَدِين بالولاء لسادة البيت الأبيض، وقبلها خرجت الجيوش الأمريكية من العراق وهي تجر ذيول الخيبة بعدما فقَدت من خيرة مقاتليها ما لا يُعد ولا يحصى، وتكبَّدت خلالها الميزانية الأمريكية من الخسائر ما يفوق الوصف.

وعلى فرض وجود دور لنظرية "الفوضى الخلاقة" فيما يحدث في ثورات الربيع العربي، إلا أن المحصلة إزاحة الكثير من الديكتاتوريات الحاكمة الجاثمة فوق صدر الشعوب العربية، والخادمة بامتياز للمشروع "الصهيوأمريكي" في المنطقة، وتنامي صعود التيار الإسلامي السياسي بدعم من الإرادة الشعبية الواعية، وهو ما يعني: السير في إطار الكثير من الثوابت، التي لا تخدم المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة.

يقول د. سعد بن مطر العتيبي:
"ومن خفايا هذه الأمة وأسرارِها التي لا يدركها المتربصون بها: أنها أمة قد يعاق جسدها، لكن أعضاءها تبقى فاعلة! وأن الإمعان في عدائها من أسباب شفائها؛ إذ يحرك ساكنها، ويُعِيد دَبِيب الحركة فيها، فما تَلْبَث أن تقف صارخة، فيفر الطاغية، وينقطع حبل الناس الممتد إليه، ويبقى العدو حائرًا! وهذه قضية أدهشت خصوم الإسلام، وقد أفصح عن ذلك أحد الصهاينة حين تنبَّه إلى ذلك؛ إذ قال: "في الشرق الأوسط كل شيء يمكن أن يحصل، وكل شيء يمكن أن ينقلب رأسًا على عقب في غضون يوم، في غضون ساعة.

آلاف المستشرقين ينالون الرزق من القضية المصرية، ولا يوجد حتى ولا واحد منهم تنبأ مسبقًا بما يحصل".

د.خالد النجار
المصادر:
الإسلام بين الماسونية ونظرية الفوضى الخلاقة؛ د. أحمد إبراهيم خضر.
الفوضى الخلاقة بين الفكر والممارسة.
http://elmassar-ar.com/ara/permalink/4728.html
نظرية الفوضى الخلاقة وإستراتيجيات الهيمنة في العالم العربي؛ حسن أبو هنية.
خاطرة من وحي الثورة الخامسة؛ د. سعد بن مطر العتيبي.


تاريخ الإضافة: 10/7/2012 ميلادي - 20/8/1433 هجري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..