الثلاثاء، 31 يوليو 2012

(حزب اللـه) واضاعة الفرصة التاريخية للشيعة العرب*

في واحد من اعلاناتها العديدة تقول “الوثيقة السياسية لحزب الله” وهي التي اقرها المؤتمر العام للحزب سنة 2009 واعتبرت حلقة هامة من حلقات تطوره الفكري والسياسي: “ان معايير الاختلاف والنزاع والصراع في رؤية حزب الله ومنهجه إنما تقوم على اساس سياسي-اخلاقي بالدرجة الاولى, بين مستكبر ومستضعف, وبين متسلط ومقهور, وبين متجبر ومحتل وطالب حرية واستقلال”. اليوم من حق الرأي العام, وكثير منه ايد حزب الله في السنوات الماضية, استدعاء هذا الاساس واسس اخرى عديدة ناضل من اجلها الحزب وبسببها كسب تأييد شرائح واسعة في العالم العربي. ومن حق الرأي العام, في ضوء موقف الحزب وامينه العام من ثورة الشعب السوري ووقوفه ضدها وانحيازه الى جانب المتجبر والظالم, محاكمة حزب الله بناء على الاسس والمعايير التي حددها لنفسه إزاء فهم ورؤية اي صراع. موقف حزب الله وتأييده لنظام الاسد ووصف حسن نصرالله اركان بطش النظام, وخاصة آصف شوكت, بالشهيد شكل صدمة كبيرة لوجدان ملايين الناس الذين ايدوا الحزب ونضالاته ومقاوماته, والآن يرونه يتخلى عن كل الآفاق الواسعة التي اخترقها ليرتد الى سراديب الطائفية وضيقها. اين هو الاساس السياسي والاخلاقي الذي ينبني عليه موقف الحزب من ثورة سوريا, واين هو الاساس الطائفي والمذهبي في ذلك الموقف؟

منذ تحرير الجنوب اللبناني سنة 2000 وإنكفاء إسرائيل تزايدت نجاحات حزب الله وحضوره السياسي في العالم العربي برمته. التوق الى نصر ضد اسرائيل, اي نصر, على خلفية تاريخ الهزائم الطويلة معها, اضافة الى كاريزما حسن نصر الله, والصورة التي قدمها الحزب عن نفسه, نقل الحزب الى خارج حدوده الطائفية الضيقة. ترك الحزب وراءه سنوات نهاية الثمانينات واوائل التسعينات عندما انخرط في صراعات دموية مع الشيوعيين والقوميين السوريين وغيرهم وتوتر داخل متاريس الطائفة الشيعية وحسب. مع نهاية التسعينات صار حزبا مختلفا وناضجا. وبرغم مناخات التطرف التديني والانشداد السلفي الضارب في المنطقة تمكن الحزب وخلال فترة قياسية من قطع خطوات كبيرة في تجسير العلاقة بين السنة والشيعة على قاعدة مشتركة – مقاومة اسرائيل. بدا لبضع سنوات, ووصولا الى حرب تموز 2006, ان الحزب يوسع من دائرة مناصريه في طول وعرض العالم العربي, بل وخارجه ايضا, مقدما نموذجا جديدا في الحركات الاسلامية برمتها.

لم تكن الصورة كاملة الوردية. فكما حال كل ايديولوجيا كامنة وموجهة, خاصة ان كانت دينية, تظل تشتغل آليات داخلية تعمل على تآكل ما قد يتم انجازه خارجيا. وهكذا ظلت هناك آليتان تشدان الحزب الى احداثياته الكتلوية المتقلصة: البرنامج الاجتماعي التديني وهويته الطائفية التي قيدت انطلاق الحزب محليا وحالت دون وصوله شرائح اوسع, والولاء السياسي لايران الذي قيد انطلاق الحزب عربيا. لكن وعلى العموم كان الرأسمالي المقاومي للحزب في الوعي العام في المنطقة اكبر من ان تؤثر فيه تلك القيود بشكل جوهري, وإن بقيت تثير الشكوك حول درجة تجاوز الحزب لحدوده الطائفية. عمليا, كان ثمة مقايضة كبرى عند مؤيديه من خارج اطره الحزبية تم غض النظر بموجبها عن كتلوية الحزب وانحيازاته الطائفية تقديرا لدوره وانجازه المقاومي. احد الجوانب المهمة, بل ربما الاهم, في كل ذلك ان التأييد للحزب والجماهيرية التي حظي بها, ورغم الشكوك والانفلاتات التي كانت تحدث هنا وهناك, تخطت الهوية الطائفية للحزب حيث تمتع بشعبية في الاوساط السنية في المنطقة ربما لم تحظ بها حركة شيعية على مدار التاريخ. مرة اخرى, كان هذا التجاوز للحدود الطائفية يتم في حقبة زمنية تمتاز بحدة تخندقها المذهبي والطائفي وسيرا عكس التيار وانجازا تاريخيا بحق.

كل ذلك الانجاز والرأسمال الكبير الذي راكمه حزب الله على مدار عقود ووصل به وبقائده الى مراتب من التأييد والشعبية غير مسبوقة تمت التضحية به بكل بساطة على مذبح الثورة السورية وتأييد النظام الاسدي. إنكفأ الحزب دفعة واحدة الى مربعه الطائفي وتخلى عن الشعارات والسياسات التي جذبت حوله دوائر المؤيدين الذين رأوا فيه نموذجا للحزب الاسلامي التقدمي وغير الطائفي والمتجاوز للتقليدية الدينية والمذهبية. كل الجسور التي شُيدت وبشكل غير مباشر بين الشيعة والسنة والمسيحيين في المنطقة عن طريق النموذج الذي قدمه حزب الله تم نسفها بسرعة قياسية. لو وقف حزب الله مع الشعب السوري وقفة عقلانية ومنسجمة مع شعاراته في اسناد المستضعفين والمظلومين والمقهورين لكان حقق قفزة اخرى الى الامام ليس على صعيد شعبية الحزب وحسب, بل وعلى صعيد ترسيخ العلاقة الصحية بين الشيعة والسنة في المنطقة العربية. لكان اثبت فعلا بأنه حزب خارج اطار التصنيفات الطائفية, لا يتحرك فقط لتأييد الاحتجاجات حينما تكون شيعية بينما يبتلع لسانه وينكشف بطريقة مخجلة عندما تكون الاحتجاجات غيرها. لو حدث ذلك لكان قدم خدمة جليلة وتاريخية للشيعة العرب على وجه التحديد وقطع الطريق على كل الادعاءات والاتهامات التي تشكك في ولائهم وتشير الى ان ايران هي من يحدد لهم الاجندة السياسية. موقف حزب الله من الثورة السورية شكل مفصلا تاريخيا وفرصة لا تعود لتأسيس علاقة مختلفة في المنطقة العربية تضعف الانقسام المذهبي في الكثير من البلدان العربية وتبطل مفعول الولاء للخارج. عندما وقف حزب الله مع النظام الاسدي والايراني ضد الشعب السوري سدد ضربة قاصمة لكل مطالبات الشيعة العرب والتي في اغلبها مطالبات عادلة بالمساواة في الحقوق والمواطنة. لقد كشف ظهر تلك المطالبات وربطها عنوة بالخارج, واظهر اصحابها وكأنهم ليسوا مواطنين في بلدانهم بل تابعين لطهران.

لكن ومن ناحية عملية وفعليه هل كان بإمكان حزب الله ان يتخلى عن ظهره الاستراتيجي: سوريا وإيران ويقامر على المجهول؟ الجواب نعم، كان بإمكانه القيام بذلك لو التزم بالمعايير الاخلاقية والسياسية التي اقرها الحزب لنفسه, ولو التزم بالحد الادنى من المسؤولية التاريخية التي تتجاوز اللحظة الراهنة وتنظر الى المستقبل بعيدا عن المحاور السياسية الراهنة التي خلقتها انظمة زائلة على حساب شعوب باقية في المنطقة الى الابد. لم يكن من المطلوب ان يقف حزب الله الى جانب الثورة السورية بالتمام والكمال, لكن كان بإمكانه ان يأخذ مسافة آمنة من النظام الدموي, وان يبتعد تدريجيا عنه, كما فعلت حركة حماس. كل مسافة يأخذها الحزب من النظام الاسدي (التابع لايران عمليا الآن) كانت تدخله اكثر واكثر في النسيج اللبناني وعمق النسيج العربي وتؤكد عروبته وانتماءه المحلي, وتنفي تبعيته الخارجية. سيقول كثيرون من انصار الحزب هنا ان اطرافا اخرى كثيرة سواء في سوريا او لبنان او العالم العربي تابعة للخارج بصورة او بأخرى. وهذا صحيح بالطبع لكنه مناكفة في غير مكانها لأن تبعية حزب الله للخارج, لإيران, لها اكلاف وتبعات مدمرة على الشيعة العرب عموما بما يستلزم طريقة اخرى للتحليل بعيدا عن المحاججة عبر توجيه نفس الاتهام للآخرين. حزب الله وبسبب صورته و”مجده” الذي بناه في العقدين الماضيين, وبسبب اعلامه وحضوره القوي, اصبح وكأنه الممثل الرسمي للشيعة العرب: يتبنى قضاياهم في اعلامه وتلفزيوناته وخطابه. وتنعكس مواقفه من الاحداث عليهم بشكل شبه تلقائي. ودليل ذلك ان كل تأييد من قبل حزب الله في الوقت الحاضر لأية مطالب للشيعة في اي بلد عربي يؤدي الى اضعاف تلك المطالب واتهامها بأنها ناتجة عن تدخل خارجي ومؤامرة ايرانية. لم يفقد حزب الله صورته ورأسماله المقاومي وحسب, ولا دوره في تجسير الهوة الطائفية والمذهبية في المنطقة, بل تحول الآن الى عبء على الشيعة العرب, يؤذيهم حينما يؤيديهم, وعوض ان يساهم في تعزيز مواطنتهم صار أداة تستخدمها ايران في التقسيم والتجزئة والتدخلات. انها نهاية تراجيدية لحزب لربما كان واعدا.

 
 
خالد الحروب -كامبردج
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..