المجتمعون فى دمشق كانوا يخططون لقتل معارضيهم، فعاجلهم الأخيرون وتغدوا بهم قبل أن يتعشى بهم الزبانية، الذين قتلوا فى دمشق ماتوا بكرامة وشيعوا فى جنازة مهيبة. أما الذين قتلوا فى الحولة وفى غيرها من المدن السورية فقد تعرضوا للتعذيب والتشويه والاغتصاب وقضوا بلا كرامة، ولم يجرؤ أحد على أن ينقل جثثهم أو يدفنهم.
حين طالعت صور المغدورين من أركان النظام النياشين ترصع صدورهم تداعى أمام عينى شريط أشلاء آلاف السوريين الذين افترسهم الشبيحة وشممت رائحة الجثث المتعفنة والمحترقة فى حمص ودرعا وأدلب. ورأيت أرواح ضحايا القتل اليومى تسبح فى الفضاء، فى بحر من الدموع والدماء. وسمعت نشيج الثكالى وآهات المكلومين وصرخات المعذبين فى أقبية السجون.
لا مجال للتشف أو الشماتة. ولست أرى مروءة أو شهامة فى التكبير الذى سمعته من البعض حين تلقوا خبر مقتل أقرب المقربين من الرئيس السورى. حتى إذا كانوا يشكلون خلية القتل القمع خلية القتل والقمع. فالموت له جلاله، وحين يتم قتلا فالتدبر فيه أولى والاتعاظ أوجب. وإذا كانت قلوب الجبابرة من صخر، حتى أصبحت محصنة ضد التعلم والاعتبار، فإن ذلك لا يفاجئنا كثيرا.
كأنما شاءت المقادير أن يدفع كل منهم ثمن جبروته. لم يعتبر القذافى من نهاية صدام حسين الذى كان أكثر رجولة منه، لكن ملك ملوك أفريقيا أصر على أن يتمادى فى غيّه، وقرر أن يسحق من جرؤ على معارضته. وقد أصابتنى قشعريرة حين علمت بما فعل فيه بعد القبض عليه، لكنى حين سمعت من الليبيين ما فعله الرجل بشعبه ووطنه أدركت أن جزاء الرجل كان من جنس عمله. وان نهايته البشعة لم تكن سوى صدى للبشاعات التى أنزلها بالليبيين. كما أننى أشك كثيرا فى أن الرئيس الأسد تلقى شيئا من رسائل نهاية القذافى.
لا أعرف كيف تلقى الرئىس بشار الأسد خبر مقتل رجاله، الذى يحمل أكثر من دلالة. فما عاد الأمر مؤامرة دبرتها جماعات إرهابية قادمة من خارج البلاد. ولكن القاصى والدانى صار مدركا أن ما فى سوريا هو انتفاضة شعب ضاق ذرعا بالاستبداد والفساد. وما عاد التمرد مقصورا على المحافظات النائية التى يسهل التسلل إليها من الجيران، لأن رياح الثورة طالت المدينتين الكبيرتين ــ دمشق وحلب ــ اللتين عول عليهما فى صموده. بل إن أصابع الثوار وصلت إلى قلب دوائر السلطة وجهة القرار. حتى بدا وكأنها تقف بباب الرئيس الأسد شخصيا. ثم ان تماسك النظام نفسه بات مهددا، بعدما تعددت الانشقاقات حتى بين قيادات الجيس، الأمر الذى أدى إلى تصدعه واقتراب نهايته.
بقيت حكاية المؤامرة على سوريا فى استهدافها. وهى صحيحة ولا أحد يستطيع أن ينكرها. لكن أحدا لا يستطيع أن ينكر أيضا أن إذلال النظام السورى للشعب هو الذى مكن لمخططات التآمر أن تنفذ إلى الساحة وتسهم فى زلزلة أركانه. حتى أزعم أن تآمر النظام على شعبه كان أقوى تأثيرا من تآمر الأخيرين عليه.
لا أحد ينكر أن للنظام مآثره التى مثلت فى إيوائه لعناصر المقاومة الفلسطينية أو مساندته للمقاومة اللبنانية. لكن جرائمه بحق الشعب السورى لا تنسى أيضا، وبوسع البعض ان يقول إن نظام دمشق تستر بانحيازه إلى جانب المقاومة الفلسطينية لكى يصرف الانتباه عن تلك الجرائم. حتى رأينا أن الجيش السورى استخدم فى الحرب ضد الشعب السورى بأكثر مما أسهم فى الحرب ضد أعداء سوريا.
لقد استمعت إلى خطاب السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، الذى ألقاه مساء الأربعاء الماضى (18/7) بعد التفجير الذى حدث فى دمشق، وقد ندد فيه بالمؤامرة على سوريا. وذكر أن تصفية قضية فلسطين هى الهدف من وراء كل ما يجرى. وكان محقا حين قال إن السيدة كلينتون وزيرة خارجية أمريكا حين زارت المنطقة أخيرا لم تشر بكلمة إلى الشعب الفلسطينى أو قضيته. لكنه وقع فى المحظور ذاته حين حكى فى كل شىء ولم يشر بكلمة إلى محنة الشعب السورى.
حين تستمر آلة القتل فى سوريا بصورة أكثر شراسة، وحين يواصل المستبدون فى العالم العربى نهجهم دون أن يستوعبوا شيئا من دروس ما يجرى، فإننا لا نستطيع أن تعذرهم أو تتعاطف معهم، وليس أمامنا إلا أن نترك كل واحد منهم لمصيره الذى يستحقه على أيدى شعبه.
إننى لم أذرف دمعة على أعوان الأسد الذين قتلوا فى دمشق، لأن ما حل بالشعب السورى جفف من مآقى، حتى ما عاد لدى بقية من دمع أذرفه على قاتليه.
فهمي هويدي
* نقلا عن صحيفة "الشروق" المصرية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..