التاريخ : 23/6/2012 الموافق السبت 4 شعبان 1433 هـ |
الحمدلله ، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :
فقد
قلت سابقا وفي أكثر من مكان إنّ من أسوأ مفرزات ما يُسمى بـ(الربيع
العربي) – بغض النظر عن الموقف منه إيجابيا كان أو سلبيا - هو صيال أهل
الأهواء على ثوابت الشريعة وأصول السنة الثابتة ، وبروز شخصيات غير مؤهلة
في منهجها ولا
رجاحة عقولها ولا أسنانها لتوجيه الأمّة ، أصبحت هي الموجهة
في المسائل الحادثة خاصة الفتن الحادثة بين الناس والولاة .
ومن
المسائل الّتي ثار حولها خلاف متجدد هو مسألة طاعة ولاة الأمور ، وجواز
المشاركة في المظاهرات والاعتصامات والعصيان الذي يفعله المشاركون في
الثورات .
ورأيي
في هذه الثورات قلته قديما وليس غرضي العودة إليه . وإنّما أزعجني ما ثار
مؤخرا وعلى يد بعض من نحبهم ونكره أن نرى منهم ما يُشمّ منه التعرض لمقام
الشريعة والأصول التي أصّلها أئمّة السلف، من استخفاف بشريعة السمع والطاعة
لأئمّة الجور والظلم .
ولم
أكن أحب الخوض في هذا الأمر لسببين ، أولهما غلبة الأهواء وتسلطها في هذه
الأيّام ، والآخر : أنّ غالب المفرزات كانت تصدر ممّن لا أكترث لكلامهم .
لكن
لما رأيت بعض الفضلاء قد خاض في هذا الأمر ونسي أصوله التي يرفعها دائما،
وربّما غرّته وقائع الأيّام والدهور أحببت اجتزاء وصلة من التاريخ لنرى كيف
تصرف أئمة السنة حيالها ، وقدر الله أنّي كنت أطالع مقدمة تحقيق كتاب
الشريعة للآجري التي كتبها الدكتور عبدالله الدميجي، فرأيتها مناسبة لأن
أعرضها على القارئ الكريم ولنر كيف كانت ردة فعل أئمة السنة، ولينظر طالب
الحق اين يقف من منهج هؤلاء الأعلام والمسافة التي تفصله عنهم ، وما هي
حقيقة الغلو في الطاعة التي يتحدث عنها هؤلاء الفضلاء .
الفترة
التي سنتحدث عنها هي ما بين 250 إلى 360ه تقريبا تزيد أو تنقص قليلا،، و
حالة البلاد الإسلامية سأوجزها من خلال كلمات يسيرة عن حالها في عهد كل
خليفة ، وأهمّ ما أريد الإشارة إليه هو ضعف منصب الإمامة وتضييع الأمانة
فيه ، وتسلط أهل البدع والسفهاء واللصوص على مقاليد الأمور، والحالة
الاجتماعية والاقتصادية،وهي أهمّ ما يسوّغ البعض لنفسه إهدار أصل السمع
والطاعة لأجله : الاستبداد، تولية الفاسدين، نهب الأموال، تسليط العدو
الخارجي على الدولة إضعاف المسلمين ....إلخ.
توارد على منصب الولاية في هذه الفترة اثنا عشر خليفة ، وهم كما يلي :
1- المستعين بالله أبو العباس:
المستعين بالله: أبو العباس أحمد بن المعتصم بن الرشيد، وهو أخو الواثق والمتوكل .
قال الذهبي : «وكان متلافا للمال, مبذرا، فرق الجواهر، وفاخر الثياب, اختلت الخلافة بولايته، واضطربت الأمور»
وقال : «
وهاجت الفتنة الكبرى بالعراق، فتنكر الترك للمستعين، فخاف، وتحول إلى
بغداد، فنزل بالجانب الغربي على نائبه ابن طاهر، فاتفق الأتراك بسامراء،
وبعثوا يعتذرون، ويسألونه الرجوع، فأبى عليهم، فغضبوا، وقصدوا السجن،
وأخرجوا المعتز بالله، وبايعوا له، وخلعوا المستعين، وبنوا أمرهم على شبهة،
وهي أن المتوكل عقد للمعتز بعد المنتصر، فجهز المعتز أخاه أبا أحمد
لمحاربة المستعين، وتهيأ المستعين، وابن طاهر للحصار، وإصلاح السور، وتجرد
أهل بغداد للقتل، ونصبت المجانق، ووقع الجد، ودام البلاء أشهرا، وكثرت
القتلى، واشتد القحط، وتمت بينهما عدة وقعات بحيث إنه قتل في نوبة من جند
المعتز ألفان إلى أن ضعف أهل بغداد وذلوا وجاعوا وتعثروا، فما أصبرهم على
الشر والفتن!»
تسلط الأتراك في ولايته وخاصة وزيراه وصيف وبغا ، ولم يكن للمستعين مع وصيف وبغا أمر حتى قيل في ذلك:
خليفة في قفص ... بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له ... كما تقول الببغا
2- المعتز بالله: محمد بن المتوكل بن المعتصم.
المعتز بالله: محمد -وقيل: الزبير- أبو عبد الله بن المتوكل بن المعتصم بن الرشيد.
ولد
سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وأمه أم ولد رومية تسمى قبيحة، وبويع له عند
خلع المستعين في سنة اثنتين وخمسين، وله تسع عشرة سنة؛ ولم يل الخلافة قبله
أحد أصغر منه.
وهو أول خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب، وكان الخلفاء قبل يركبون بالحلية الخفيفة من الفضة..
وكان
المعتز مستضعفًا من الأتراك، فاتفق أن جماعة من كبارهم أتوه وقالوا: يا
أمير المؤمنين أعطنا أرزاقنا لنقتل صالح بن وصيف، وكان المعتز يخاف منه،
فطلب من أمه مالًا لينفقه فيهم، فأبت عليه وشحت نفسها، ولم يكن بقى في بيوت
المال شيء، فاجتمع الأتراك على خلعه، ووافقهم صالح بن وصيف، ومحمد بن بغا،
فلبسوا السلاح وجاءوا إلى دار الخلافة، فبعثوا إلى المعتز أن اخرج إلينا،
فبعث يقول: قد شربت دواء وأنا ضعيف، فهجم عليه الجماعة، وجروا برجله،
وضربوه بالدبابيس، وأقاموه في الشمس في يوم صائف، وهم يلطمون وجهه ويقولون:
اخلع نفسك، ثم أحضروا القاضي ابن أبي الشوارب والشهود وخلعوه، ثم أحضروا
من بغداد إلى دار الخلافة -وهي يومئذ سامرا- محمد بن الواثق، وكان المعتز
قد أبعده إلى بغداد، فسلم المعتز إليه بالخلافة وبايعه، ثم إن الملأ أخذو
المعتز بعد خمس ليالٍ من خلعه، فأدخلوه الحمام فلما اغتسل عطش، فمنعوه
الماء، ثم أخرج -وهو أول ميت مات عطشًا- فسقوه ماء بثلج، فشربه وسقط ميتًا.
3- المهتدي بالله: محمد بن الواثق بن المعتصم.
المهتدي بالله الخليفة الصالح: محمد أبو إسحاق -وقيل: أبو عبد الله- بن الواثق بن المعتصم بن الرشيد.
كان
المهتدي أسمر، رقيقًا، مليح الوجه، ورعًا متعبدًا، عادلًا، قويًّا في أمر
الله، بطلًا، شجاعًا لكنه لم يجد ناصرًا ولا معينًا.. فكانت خلافته سنة إلا
خمسة عشر يومًا .
4- المعتمد على الله: أحمد بن المتوكل بن المعتصم.
ولما
قتل المهتدي وكان المعتمد محبوسًا بالجوسق، فأخرجوه وبايعوه، ثم إنه
استعمل أخاه الموفق طلحة على المشرق، وصير ابنه جعفرًا ولي عهد، وولاه مصر
والمغرب، لقبه المفوض إلى الله، وانهمك المعتمد في اللهو واللذات، واشتغل
عن الرعية، فكرهه الناس.
وفي
أيامه دخلت الزنج البصرة وأعمالها وأخربوها، وبذلوا السيف وأحرقوا وخربوا
وسبوا، وجرى بينهم وبين عسكره عدة وقعات وأمير عسكره في أكثرها الموفق
أخوه، وأعقب ذلك الوباء الذي لا يكاد يتخلف عن الملاحم بالعراق، فمات خلق
لا يحصون، ثم أعقبه هزات وزلازل، فمات تحت الردم ألوف من الناس، واستمر
القتال مع الزنج من حين تولى المعتمد سنة ست وخمسين إلى سنة سبعين، فقتل
فيه رأس الزنج لعنه الله واسمه بهبوذ، وكان ادعى أنه أرسل إلى الخلق فرد
الرسالة وأنه مطلع على المغيبات.
وذكر الصولي أنه قتل من المسلمين ألف ألف وخمسمائة ألف آدمي، وقتل في يوم واحد بالبصرة ثلاثمائة ألف، وكان له منبر في مدينته يصعد عليه ويسب عثمان، وعليًّا، ومعاوية، وطلحة، والزبير، وعائشة، رضي الله عنهم.
وكان ينادي على المرأة العلوية في عسكره بدرهمين وثلاثة وكان عند الواحد من الزنج العشر من العلويات يطؤهن ويستخدمهن .
وفي
سنة 271ه « دخل إلى المدينة النبوية محمد وعلي ابنا الحسين بن جعفر بن
موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فقتلا خلقا من
أهلها وأخذا أموال جزيلة، وتعطلت الصلوات في المسجد النبوي أربع جمع لم
يحضر الناس فيه جمعة ولا جماعة، فإنا لله وإنا إليه راجعون وجرت بمكة فتنة
أخرى واقتتل الناس على باب المسجد الحرام أيضا»
ثم تضعضع أمر الخلافة ولم يكن للمعتمد حل ولا ربط وقال المعتمد في ذلك:
أليس من العجائب أن مثلي ... يرى ما قل ممتنعًا عليه؟
وتؤخذ باسمه الدنيا جميعًا ... وما من ذاك شيء في يديه
إليه تحمل الأموال طرًّا ... ويمنع بعض ما يجبى إليه
يقول
ابن الأثير واصفا حالة البلاد في تلك الفترة : « وفيها – أي سنة 266ه-
اشتد الحال وضاق الناس ذرعا بكثرة الهياج والفتن وتغلب القواد والأجناد على
كثير من البلاد بسبب ضعف منصب الخلافة»
5- المعتضد بالله: أحمد بن الموفق طلحة بن المتوكل بن المعتصم.
وكان
المعتضد شهمًا، جلدًا، موصوفًا بالرجولة، قد لقى الحروب، وعرف فضله، فقام
بالأمر أحسن قيام، وهابه الناس، ورهبوه أحسن رهبة، وسكنت الفتن في أيامه
لفرط هيبته.
وكانت أيامه طيبة، كثيرة الأمن والرخاء.
وكان قد أسقط المكوس، ونشر العدل، ورفع الظلم عن الرعية.
وكان يسمى السفاح الثاني؛ لأنه جدد ملك بني العباس، وكان قد خلق وضعف، وكاد يزول، وكان في اضطراب من وقت قتل المتوكل ..
قال
ابن جرير: وفيها عزم المعتضد على لعن معاوية على المنابر، فخوفه عبيد الله
الوزير اضطراب العامة، فلم يلتفت، وكتب كتابًا في ذلك، ذكر فيه كثيرًا من
مناقب علي، ومثالب معاوية، فقال له القاضي يوسف: يا أمير المؤمنين! أخاف
الفتنة عند سماعه، فقال: إن تحركت العامة وضعت السيف فيها، قال: فما تصنع
بالعلويين الذين هم في كل ناحية قد خرجوا عليك؟ وإذا سمع الناس هذا من
فضائل أهل البيت كانوا إليهم أميل، فأمسك المعتضد عن ذلك.
6- المكتفي بالله: علي بن المعتضد.
المكتفي بالله: أبو محمد علي بن المعتضد، ولد في غرة ربيع الآخر سنة أربع وستين ومائتين، وأمه تركية اسمها جيجك.
بويع
بالخلافة عند موت والده بعهد منه، في جمادى الأولى، سنة تسع وثمانين،
فاستخلف ستة أعوام ونصفا، وأهمّ أحداث خلافته هو فتنة القرامطة وما أحدثوه
في المسلمين من قتل وسبي .
ومات المكتفي شابا: في سابع ذي القعدة من سنة 295ه.
7- المقتدر بالله: جعفر بن المعتضد.
قال
المسعودي في التنبيه : « وكان ربع القامة الى القصر ما هو، دري اللون،
صغير العينين، أحور حسن الوجه واللحية أصهبها، أفضت الخلافة اليه، وهو
صفير، غرّ ترف، لم يعان الأمور، ولا وقف على أحوال الملك. فكان الأمراء
والوزراء والكتاب، يدبرون الأمور، ليس له في ذلك حل ولا عقد، ولا يوصف
بتدبير ولا سياسة وغلب على الأمر النساء والخدم وغيرهم، فذهب ما كان في
خزائن الخلافة من الأموال والعدد بسوء التدبير الواقع في المملكة، فأداه
ذلك الى سفك دمه، واضطربت الأمور بعده، وزال كثير من رسوم الخلافة»
ولم
يلِ الخلافة قبله أصغر منه؛ فإنه وليها وله ثلاث عشرة سنة، فاستصباه
الوزير العباس بن الحسن، فعمل على خلعه، ووافقه جماعة على أن يولوا عبد
الله بن المعتز، وبعث ابن المعتز إلى المقتدر يأمره بالانصراف إلى دار محمد
بن طاهر لكي ينتقل ابن المعتز إلى دار الخلافة، فأجاب، ولم يكن بقي معه
إلا طائفة يسيرة، فقالوا: يا قوم! نسلم هذا الأمر ولا نجرب نفوسنا في دفع
ما نزل بنا، فلبسوا السلاح وقصدوا المخرم وبه ابن المعتز، فلما رآهم من
حوله ألقى الله في قلوبهم الرعب، فانصرفوا منهزمين بلا قتال، وهرب ابن
المعتز، ووزيره وقاضيه، ووقع النهب والقتل في بغداد، وقبض المقتدر على
الفقهاء والأمراء الذين خلعوه، وسلموا إلى يونس الخازن فقتلهم إلا أربعة
-منهم القاضي أبو عمر- سلموا من القتل، وحبس ابن المعتز، ثم أخرج فيما بعد
ميتًا، واستقام الأمر للمقتدر؛ فاستوزر أبا الحسن علي بن محمد بن الفرات،
فسار أحسن سيرة، وكشف المظالم، حض المقتدر على العدل، ففوض إليه الأمر
لصغره، واشتغل باللعب واللهو، وأتلف الخزائن .
وفي
عهده بنى القرمطي دارًا سماها دار الهجرة، وكان في هذه السنين قد كثر
فساده وأخذه البلاد وفتكه المسلمين، واشتد الخطب به، وتمكنت هيبته في
القلوب، وكثر أتباعه، وبث السرايا، وتزلزل له الخليفة، وهزم جيش المقتدر
غير مرة، وانقطع الحج في هذه السنين خوفًا من القرامطة، ونزح أهل مكة عنها،
وقصدت الروم ناحية خلاط، وأخرجوا المنبر من جامعها وجعلوا الصليب مكانه ..
وفي
عهده هاجت فتنة كبرى ببغداد بسبب قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ
رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] فقالت الحنابلة: معناها يقعده
الله على عرشه، وقال غيرهم: بل هي الشفاعة، ودام الخصام، واقتتلوا جماعة
كثيرة.
قال
السيوطي : كان المقتدر جيد العقل، صحيح الرأي لكنه كان مؤثرًا للشهوات
والشراب مبذرًا، وكان النساء غلبن عليه، فأخرج عليهن جميع جواهر الخلافة
ونفائسها، وأعطى بعض حظاياه الدرة اليتيمة ووزنها ثلاثة مثاقيل، وأعطى
زيدان القهرمان سبحة جوهر لم ير مثلها، وأتلف أموالًا كثيرة، وكان في داره
أحد عشر ألف غلام خصيان غير الصقالبة والروم والسود .
8- القاهر بالله: محمد بن المعتضد.
أمر
بتحريم القيان والخمر، وقبض على المغنين، ونفى المخانيث، وكسر آلات اللهو،
وأمر ببيع المغنيات من الجواري على أنهن سواذج، ليشتريهن برخص، وكان مع
ذلك لا يصحو من السكر، ولا يفتر عن سماع الغناء.
ومن
جوره أنّه قتل إسحاق بن إسماعيل النوبختي ، ألقاه على رأسه في بئر وطمت،
وذنبه أنه زايد القاهر قبل الخلافة في جارية، واشتراها، فحقد عليه .
قال محمد الأصبهاني: كان سبب خلع القاهر سوء سيرته، وسفكه الدماء فامتنع من الخلع، فسملوا عينيه حتى سالتا على خديه .
وقال
الصولي: كان أهوج، سفاكًا للدماء، قبيح السيرة، كثير التلون والاستحالة،
مدمن الخمر، ولولا جودة حاجبه سلامة لأهلك الحرث والنسل.
وكان قد صنع حربة يحميها، فلا يطرحها حتى يقتل بها إنسانًا.
وفي
عهده هاجت الفتن يقول السيوطي : « وفي سنة خمس وعشرين اختل الأمر جدًّا،
وصارت البلاد بين خارجي قد تغلب عليها أو عامل لا يحمل مالًا، وصاروا مثل
ملوك الطوائف، ولم يبقَ بيد الراضي غير بغداد والسواد مع كون يد ابن رائق
عليه، ولما ضعف أمر الخلافة في هذه الأزمان ووهت أركان الدولة العباسية،
وتغلبت القرامطة والمبتدعة على الأقاليم»..
9- الراضي بالله: محمد بن المقتدر بن المعتضد.
الراضي بالله: أبو العباس محمد بن المقتدر بن المعتضد بن طلحة بن المتوكل.
ولد
سنة سبع وتسعين ومائتين، وأمه أم ولد رومية اسمه ظلوم، بويع له يوم خلع
القاهر، فأمر ابن مقلة أن يكتب كتابًا فيه مثالب القاهر ويقرأ على الناس .
وفي
سنة تسع وعشرين اعتل الراضي، ومات في شهر ربيع الآخر وله إحدى وثلاثون سنة
ونصف، وكان سمحًا، كريمًا، أديبًا، شاعرًا، فصيحًا، محبًّا للعلماء، وله
شعر مدون، وسمع الحديث من البغوي وغيره. قال الخطيب: للراضي فضائل: منها
أنه آخر خليفة له شعر مدون، وآخر خليفة خطب يوم الجمعة، وآخر خليفة جالس
الندماء، وكانت جوائزه وأموره على ترتيب المتقدمين، وآخر خليفة سافر بزي
القدماء .
10- المتقي لله: إبراهيم بن المقتدر بن المعتضد.
المتقي لله: أبو إسحاق إبراهيم بن المقتدر بن المعتضد بن الموفق طلحة بن المتوكل.
بويع
له بالخلافة بعد موت أخيه الراضي، وهو ابن أربع وثلاثين سنة، وأمه أمة
اسمها خلوب، وقيل: زهرة، ولم يغير شيئًا قط، ولا تسرى على جاريته التي كانت
له، وكان كثير الصوم والتعبد، ولم يشرب نبيذًا قط، وكان يقول: لا أريد
نديمًا غير المصحف، ولم يكون له سوى الاسم، والتدبير لأبي عبد الله أحمد بن
علي الكوفي كاتب بجكم.
11- المستكفي بالله: عبد الله بن المكتفي بن المعتضد.
المستكفي
بالله: أبو القاسم عبد الله بن المكتفي بن المعتضد، أمه أم ولد اسمها أملح
الناس، بويع بالخلافة عند خلع المتقي، في صفر سنة ثلاث وثلاثين وعمره إحدى
وأربعون سنة، ومات تورون في أيامه، ومعه كاتبه أبو جعفر بن شيرزاد فطمع في
المملكة، وحلف العساكر لنفسه، فخلع عليه الخليفة، ثم دخل أحمد بن بويه
بغداد فاختفى ابن شيرزاد، ودخل ابن بويه دار الخلافة، فوقف بين يدي الخليفة
فخلع عليه ولقبه: معز الدولة، ولقب أخاه عليًّا: عماد الدولة، وأخاهما
الحسن: ركن الدولة، وضرب ألقابهم على السكة، ولقب المستكفي نفسه: إمام
الحق، وضرب ذلك على السكة، ثم إن معز الدولة قوي أمره وحجر على الخليفة،
وقدر له كل يوم برسم النفقة خمسة آلاف درهم فقط، وهو أول من ملك العراق من
الديلم، وأول من أظهر السعاة ببغداد، وأغرى المصارعين والسباحين، فانهمك
شباب بغداد في تعلم المصارعة والسباحة، حتى صار السباح يسبح وعلى يده كانون
وفوقه قدرة، فيسبح حتى ينضج اللحم.
ثم
إن معز الدولة تخيل من المستكفي، فدخل عليه في جمادى الآخرة سنة أربع
وثلاثين فوقف -والناس وقوف على مراتبهم- فتقدم اثنان من الديلم إلى الخليفة
فمد يديه إليهما ظنًّا أنهما يريدان تقبيلها، فجذباه من السرير حتى طرحاه
إلى الأرض، وجراه بعمامته، وهاجم الديلم دار الخلافة إلى الحرم ونهبوها،
فلم يبق فيها شيء، ومضى معز الدولة إلى منزله، وساقوا المستكفي ماشيًا
إليه، وخلع، وسملت عيناه يومئذ، وكانت خلافته سنة وأربعة أشهر، وأحضروا
الفضل بن المقتدر وبايعوه، ثم قدموا ابن عمه المستكفي، فسلم عليه بالخلافة،
وأشهد على نفسه بالخلع، ثم سجن إلى أن مات سنة ثمانٍ وثلاثين وثلاثمائة
وله ست وأربعون سنة وشهران وكان يتظاهر بالتشيع.
وفي
عهده سنة 333ه يقول الذهبي : « عظم الغلاء ببغداد حتى هرب الناس وبقي
النساء. فكن المخدرات يخرجن عشرين عشرين من بيوتهن، ممسكات بعضهن بعضا،
يصحن: الجوع الجوع. وتسقط الواحدة منهن بعد الأخرى ميتة من الجوع. فإنا لله
وإنا إليه راجعون»
وفي
نهاية عهده يقول ابن كثير متحدثا عن سنة 334ه: « وفي هذه السنة وقع غلاء
شديد ببغداد حتى أكلوا الميتة والسنانير والكلاب، وكان من الناس من يسرق
الأولاد فيشويهم ويأكلهم.وكثر الوباء في الناس حتى كان لا يدفن أحد أحدا،
بل يتركون على الطرقات فيأكل كثيرا منهم الكلاب، وبيعت الدور والعقار
بالخبز، وانتجع الناس إلى البصرة فكان منهم من مات في الطريق ومنهم من وصل
إليها بعد مدة مديدة»
12- المطيع لله: الفضل بن المقتدر بن المعتضد.
المطيع
لله: أبو القاسم الفضل بن المعتضد، أمه أم ولد اسمها شغلة ولد سنة إحدى
وثلاثمائة، وبويع له بالخلافة، عند خلع المستكفي في جمادى الآخرة سنة أربع
وثلاثين وثلاثمائة، وقرر له معز الدولة كل يوم نفقة مائة دينار فقط.
وكان مع معز الدولة ابن بويه كالأسير .
وفي
عهده كتبت الشيعة ببغداد على أبواب المساجد لعنة معاوية، ولعنة من غصب
فاطمة حقها من فدك، ومن منع الحسن أن يدفن مع جده، ولعنة من نفى أبا ذر، ثم
إن ذلك محي في الليل، فأراد معزل الدولة أن يعيده فأشار عليه الوزير
المهلبي أن يكتب مكان ما محي: لعن الله الظالمين لآل رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- وصرحوا بلعنة معاوية فقط .
وفي
عهده وفي سنة اثنتين وخمسين يوم عاشوراء ألزم معز الدولة الناس بغلق
الأسواق ومنع الطباخين من الطبيخ ونصبوا القباب في الأسواق، وعلقوا عليها
المسوح، وأخرجوا النساء منتشرات الشعور يلطمن في الشوارع ويقمن المآتم على
الحسين، وهذا أو يوم نيح عليه فيه ببغداد، واستمرت هذه البدعة سنين .
يقول
ابن كثير : «ثم دخلت سنة تسع وخمسين وثلثمائة في عاشر المحرم منها عملت
الرافضة بدعتهم الشنعاء فغلقت الأسواق وتعطلت المعايش ودارت النساء سافرات
عن وجوههن ينحن على الحسين بن علي ويلطمن وجوههن، والمسوح معلقة في الأسواق
والتبن مدرور فيها.
وفيها دخلت الروم إنطاكية فقتلوا من أهلها الشيوخ والعجائز وسبوا الصبايا والأطفال نحوا من عشرين ألفا فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وذلك
كله بتدبير ملك الأرمن نقفور لعنه الله، وكل هذا في ذمة ملوك الأرض أهل
الرفض الذين قد استحوذوا على البلاد وأظهروا فيها الفساد قبحهم الله»
قال الذهبي: كان المطيع وابنه مستضعفين مع بني بويه .. وهم شيعة .
وفي
عهده اشتد الغلاء ببغداد حتى أكلوا الجيف، والروث وماتوا على الطرق، وأكلت
لحومهم، وبيع العقار بالرغفان، ووجدت الصغار مشوية مع المساكين، واشترى
لمعز الدولة كر دقيق بعشرين ألف درهم، والكر سبعة عشر قنطارًا بالدمشقي .
قال
ابن كثير : «ثم جاءت سنة 351 وفيها كان دخول الروم إلى حلب صحبة الدمستق
ملك الروم لعنه الله، في مائتي ألف مقاتل .. فأول ما استفتح به الدمستق
قبحه الله أن استحوذ على دار سيف الدولة، وكانت ظاهر حلب ، فأخذ ما فيها من
الأموال العظيمة والحواصل الكثيرة، والعدد وآلات الحرب، أخذ من ذلك ما لا
يحصى كثرة، وأخذ ما فيها من النساء والولدان وغيرهم، ثم حاصر سور حلب فقاتل
أهل البلد دونه قتالا عظيما، وقتلوا خلقا كثيرا من الروم، وثلمت الروم
بسور حلب ثلمة عظيمة، فوقف فيها الروم فحمل المسلمون عليهم فأزاحوهم عنها،
فلما جن الليل
جد
المسلمون في إعادتها فما أصبح الصباح إلا وهي كما كانت، وحفظوا السور حفظا
عظيما، ثم بلغ المسلمون أن الشرط والبلاحية قد عاثوا في داخل البلد ينهبون
البيوت، فرجع الناس إلى منازلهم يمنعونها منهم قبحهم الله، فإنهم أهل شر
وفساد، فلما فعلوا ذلك غلبت الروم على السور فعلوه ودخلوا البلد يقتلون من
لقوه، فقتلوا من المسلمين خلقا كثيرا وانتهبوا الأموال وأخذوا الأولاد
والنساء.
وخلصوا
من كان بأيدي المسلمين من أسارى الروم، وكانوا ألفا وأربعمائة ، فأخذ
الأسارى السيوف وقاتلوا المسلمين، وكانوا أضر على المسلمين من قومهم،
وأسروا نحوا من بضعة عشر ألفا ما بين صبي وصبية، ومن النساء شيئا كثيرا،
ومن الرجال الشباب ألفين، وخربوا المساجد وأحرقوها، وصبوا في جباب الزيت
الماء حتى فاض الزيت على وجه الأرض، وأهلكوا كل شئ قدروا عليه، وكل شئ لا
يقدرون على حمله أحرقوه، وأقاموا في البلد تسعة أيام يفعلون فيها الأفاعيل
الفاسدة العظيمة، كل ذلك بسبب فعل البلاحية والشرط في البلد قاتلهم الله.
وكذلك
حاكمهم ابن حمدان كان رافضيا يحب الشيعة ويبغض أهل السنة، فاجتمع على أهل
حلب عدة مصائب، ثم عزم الدمستق على الرحيل عنهم خوفا من سيف الدولة، فقال
له ابن أخيه: أين تذهب وتدع القلعة وأموال الناس غالبها فيها ونساؤهم؟ فقال
له الدمستق: إنا قد بلغنا فوق ما كنا نأمل، وإن بها مقاتلة ورجالا غزاة،
فقال له لابد لنا منها، فقال له: اذهب إليها، فصعد إليها في جيش ليحاصرها
فرموه بحجر فقتلوه في الساعة الراهنة من بين الجيش كله، فغضب عند ذلك
الدمستق وأمر بإحضار من في يديه من أسارى المسلمين، وكانوا قريبا من ألفين ،
فضربت أعناقهم بين يديه لعنه الله، ثم كر راجعاً.
تعليق :
والله
إني حين اخترت هذه المقاطع كنت في حيرة من كثرة ما قرأت من الأحداث
العظيمة التي مرت بالأمّة، أستطيع أن أقول وبجلاء: إنّ البلاد العربية
الّتي تثور هذه الأيّام لم تجرّب عشر معشارها سواء من حيث تردي الحالة
الاقتصادية والاجتماعية ، أو من حيث سفك الدماء والسجن والنفي ، أو من حيث
نهب أموال الأمّة واللعب بها .. والمصادر موجودة ليرجع كل مستبصر إليها
ويقرأ بتمعّن وليقارن ، هذا إذا أسقطنا من الحساب غياب الآلة الإعلامية
التي تنقل لنا الأحداث ، وقد تضخّمها، فلا أشكّ أنّ المدوّن في كتب التاريخ
والتراجم هو أقلّ بكثير من الواقع في تلك الفترة .
وأنا لا أقول هذا مدافعا عن ظالم أو سارق ، أو مغتصب أو مستبد، أو مهوّنا من حالة البلاد العربية وتردّيها،
لكني أريد أن أنطلق من هذا إلى زبدة المقال ، ألا وهي موقف الأئمة -أئمة
السلف- الذين اتفق على إمامتهم والتأسي بهم أهل السنة السلفيّون ، لننظر
ماذا كان موقفهم من ولاة الأمور في ذلك الوقت ومن الدعوة لعصيانهم في غير
معصية ، فنحن نرى بجلاء أنّ كل المعطيات الّتي رتّب عليها (جفاة الطّاعة)
رأيهم في جواز العصيان والتظاهر والاعتصام لخلع السلطان أو للضغط عليه كل
تلك المعطيات كانت متوافرة في تلك الحقبة ، ومع هذا لا تجد لأولئك الأئمة
فيما اطلعت عليه تأليبا على الولاة أو كلاما فيهم أو مشاركة في ثورة أو شغب
أو تمرد .. فما السبب يا ترى ؟
هل كانوا من علماء السلاطين كما يُتهم كبار العلماء السلفيين اليوم ؟
أم كانوا أهل ظلم وموالاة لأعداء الشعب والمستبدين كما يُقال ؟
أم كانوا منكفئين لا يعلمون ما يجري ولا يهتمون لمصاب الناس ؟
أم كانوا أهل ترف ورغد عيش ولهذا لا يحسون بغيرهم ؟
على
كل طالب حق أن يتأمّل الأسماء التالية جيدا ويبحث عن كلماتهم في تلك
الأحداث ومواقفهم ، وليسأل نفسه أين هم عن أحداث الأمة الجسام ؟
فنحن
للأسف الشديد نحسب لصوص الفتن ومستغلي عواطف الجمهور ومتسلقي المنابر
خطباء الفتن نحسبهم هم أهل العلم الحقيقيين ، وأنّهم أشفق على الأمة وأنصح
لها ممن ينصح بالكف والسكينة والصبر والاعتزال.. ولو تأمّلنا جيدا لعرفنا
أنّ المهيّجين والفوضويين ومثيري الفتن والشغب هم القساة الذين دفعوا
بالضعفاء في فم التنّين ثم اقاموا عليهم اللطميات .
عاش في الفترة التي ذكرناها (250-360) أو جزء منها مجموعة من أئمّة السنة وهم كما يلي دون مراعاة ترتيب:
عبد بن حميد صاحب المسند.
الحارث بن مسكين.
أبو حاتم السجستاني .
الدارمي صاحب المسند.
البخاري .
مسلم.
أبو داود.
الترمذي .
ابن ماجه.
المزني.
يونس بن عبد الأعلى
محمد بن يحيى الذهلي.
أبو زرعة الرازي.
محمد بن عبد الله بن عبد الحكم.
بقي بن مخلد.
أبو حاتم الرازي.
ابن أبي الدنيا.
الحارث بن أبي أسامة.
عبد الله بن أحمد بن حنبل.
الإمام البزار صاحب المسند.
الإمام الحافظ صالح بن محمّد الملقب :جزرة.
محمد بن نصر المروزي الإمام.
أبو جعفر الترمذي شيخ الشافعية بالعراق
محمد بن داود الظاهري.
ابن سريج شيخ الشافعية.
أبو بكر البرديجي المحدث.
جعفر بن محمد بن الحسن بن المستفاض.
النسائي صاحب السنن.
أبو يعلى الموصلي صاحب المسند.
وأبو بكر الروياني صاحب المسند.
وابن المنذر الإمام صاحب الأوسط .
وابن جرير الطبري المحدث المفسر المؤرخ.
ومحمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب الصحيح.
وأبو بكر بن أبي داود السجستاني.
وأبو عوانة صاحب الصحيح.
وأبو القاسم البغوي المسند.
الإمام الطحاوي شيخ الحنفية.
وابن مجاهد المقرئ.
وابن أبي حاتم المحدث صاحب التفسير.
والإصطخري شيخ الشافعية.
القاضي أبو عبد الله المحاملي.
الحافظ أبو العباس بن عقدة.
أبو بكر الخرقي شيخ الحنابلة.
أبو إسحاق المروزي إمام الشافعية.
والكرخي شيخ الحنفية.
والقاضي أبو القاسم التنوخي.
وأبو علي بن أبي هريرة من كبار الشافعية.
محمد بن حبان صاحب الصحيح.
ابن الأعرابي .
أبو القاسم الطبراني صاحب المعاجم .
الحافظ محمد بن إسحاق بن منده
الإمام أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني
ولاحظ
أنّه في وسط تلك الفتن المدلهمّة وانغماس الناس فيها انشغل هؤلاء الأئمة
بتصنيف مجموعة من أعظم كتب الإسلام كالصحيحين والسنن الأربعة مثلا ، ومسند
البزار، وصحيح ابن حبان، وصحيح ابن خزيمة ، ومعجم ابن الأعرابي، ومعاجم
الطبراني وسنن الدارقطني والعلل له، وعلل ابن أبي حاتم وتفسير الطبري
وتفسير ابن أبي حاتم .
وكتب
السنة كالسنة لعبدالله بن أحمد والإيمان والتوحيد لابن منده ، والتوحيد
لابن خزيمة، وتعظيم قدر الصلاة للمروزي والسنة له ، والرد على المريسي
للدارمي أبي عثمان والرد على الجهمية له ، والشريعة للآجري والإبانة لابن
بطة وشرح أصول الاعتقاد لللالكائي والسنة للبربهاري والسنة للطبري والإمامة
لأبي نعيم ، وفضائل الخلفاء والنزول والعرش للدارقطني وغيرها كثير ..
كلها صنفت في هذه الفترة العصيبة أو جزء منها.. تصور لو أنّ أصحابها شغلوا بالفتن والثورات والمشاركة فيها ؟
شغل
هؤلاء الأئمة بما كلفهم الله به من حفظ العلم والسنة وتبليغها للناس ، ولم
يتدخّلوا فيما يقدره الله من الثورات والفتن التي تثور بسبب البعد عن
شريعة الله ، وهي جزء من سنة التدافع الكونيّة، التي يصحّح الله بها
الموازين المختلّة، فاقتصر عملهم على بيان حكم الله في الحاكم والمحكوم دون
محاباة .
فهُم
كما أنّهم لم يشاركوا العامة غضبهم وثوراتهم لم يشاركوا السلاطين والظلمة
في دفع نتائج جورهم وظلمهم ، بل لزموا الحياد واكتفوا بتبليغ السنة
والشريعة أحب من أحب وكره من كره .
ولهذا
فإني حاولت أن أجد لهم كلمة فيما حصل في تلك الأزمنة من فتن فلم أجد إلاّ
تثبيت العلم والسنّة وذمّ البدعة ومفارقة أهلها .. فلله درّهم .
وخاتمة
القول : إنّ على طالب الحق أن لا يغترّ بتأصيلات المرحلة ، أعني بها تلك
الآراء الّتي تتولّد قوّتها لا من قوّة المرجعيّة والأصل الّذي تستند عليه ،
وإنّما من دافعيّة الواقع والحالة النفسية الّتي يعيشها كثير من
المؤصِّلين في هذه الأيّام ، وأكثرهم يُرضي جماهير غاضبة ولا يكترث لرضا
الله تعالى أو على الأقل الموضوعية والمنهجيّة العلميّة .
فالسّمع
والطّاعة أصل عظيم من أصول السنّة تمّ الاستخفاف به للأسف الشّديد على يد
ثلّة ممّن يرفع عقيرته بالشّريعة ، فلمّا خالفت الشريعة رغبته وهواه انقلب
ساخرا ذاما لها تحت غطاء السخرية بـ(غلاة الطاعة) أو (الجاميّة) ..وهذا
منهج غير منصف ، فمن غلا في أصل مشروع وجب بيان وجه غلوّه والرد عليه بعلم ،
أمّا السخرية والتّجييش العاطفي الّذي نال أذاه سنّة رسول الله صلّى الله
عليه وسلّم ومنهج السّلف فليس من العلم في قليل ولا كثير .
ما
دام الحاكم مسلما فإنّ له على من تحت يده السّمع والطّاعة ، يُعان على ما
فيه طاعة الله ورسوله ، ويُعان على ما فيه مصلحة عامة ، ويُطاع – وإن كرهنا
– فيما اجتهد فيه ولم يخالف نصا محكما أو شريعة مُجمعاً عليها ، ويُدعى له
، ومن كرهه أو ناله منه مظلمة فلا يُكلّف الدعاء لكن لا يجوز له النهي عن
الدعاء له وتأزيم العلاقة بينه وبين رعيته.
وإذا
أمر بمعصية فلا طاعة ، ولا يُعان على معصية الله ، ولكن لا يُؤلب عليه ولا
يُسخر منه ويُستخف به، ولا يُنصح علانية في غيبته في أمور شخصية ليست
عامّة ، وما كان فيه ضلال الأمّة فيُبيّن الحق فيه دون تعرّض له واستفزاز،
فليس ذلك من منهج السلف ولا من منهج كبار أهل العلم بالسنة من المتأخرين
والمعاصرين .
وما
يسمّيه البعض صدعا بالحق هو في حقيقة الأمر تأليب وإيغار للصدور لم يكن من
منهج علمائنا الذين عاشوا على السنة وماتوا عليها، وأقل ما في الأمر أنّه
موضع خلاف لا يجوز التبديع فيه ولا نبز المخالف لأجله .
والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر ولاية يوسّعها ولي الأمر ويضيقها بحسب المصلحة ،
فإذا اجتهد فيها لا يجوز الافتئات عليه ولو كان في ذلك ما نظنه مصلحة ،
فإنّ مفسدة كسر النظام وتعويد النّاس على المعصية والتمرد أعظم وأشدّ من
مفسدة منكر يفوت على الشخص إنكاره ، وإذا كان ولي الأمر قد نهاك عن الإنكار
فقد برئت ذمّتك ، وهل يبحث كلّ منّا في إنكار المنكر إلاّ عن براءة الذمّة ؟
أخيرا
فلننظر ماذا قال بعض أئمة السلف الذين عاصروا هذه الحقبة التي ذكرناها في
موضوع السمع والطاعة، وليختر العاقل لنفسه قدوة وسلفا ، إمّا فقهاء الثورات
والفوضى، وإمّا هؤلاء الأخيار الذين اتفقت الكلمة على إمامتهم، وقد اخترت
ما تيسر الوصول إليه ولم أحاول التفرغ والاستقصاء :
1 . الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (ت256) :
روى اللالكائي عنه قوله في عقيدته : « وأن
لا ننازع الأمر أهله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ثلاث لا يغل عليهن
قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل لله , وطاعة ولاة الأمر , ولزوم جماعتهم , فإن
دعوتهم تحيط من ورائهم " , ثم أكد في قوله: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول
وأولي الأمر منكم}. وأن لا يرى السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال الفضيل: " لو كانت لي دعوة مستجابة لم أجعلها إلا في إمام؛ لأنه إذا
صلح الإمام أمن البلاد والعباد. قال ابن المبارك: «يا معلم الخير، من يجترئ
على هذا غيرك» (1/175-176)
2و3 . الإمامان أبو زرعة (ت264) وابو حاتم (ت277) الرازيّين :
روى اللالكائي عنهما قولهما : « ولا نرى الخروج على الأئمة ولا القتال في الفتنة , ونسمع ونطيع لمن ولاه الله عز وجل أمرنا ولا ننزع يدا من طاعة» (1/177)
وعن أبي حاتم : « ولا نرى الخروج على الأئمة ولا نقاتل في الفتنة , ونسمع ونطيع لمن ولى الله عز وجل أمرنا» (1/182)
4 . الإمام ابن أبي عاصم (ت287):
بوّب في كتابه (السنّة) ما يلي من الأبواب :
« باب ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه زجر عن سب السلطان»
« باب ما ذكر عن النبي عليه السلام من أمره بإكرام السلطان، وزجره عن إهانته»
« باب في ذكر فضل تعزير الأمير وتوقيره»
ولا
يقولن قائل إن المراد بها إمام العدل ، فقد ذكر بعد ذلك « باب في ذكر
السمع والطاعة »وروى تحته حديث عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: «اسمع وأطع، في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك، وإن
أكلوا مالك، وضربوا ظهرك».
«
باب ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الصبر عندما يرى المرء من
الأمور التي يفعلها الولاة»: وساق تحته حديث ابن عباس، يرويه عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: «من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر»
وابن أبي عاصم عاش في فترة ولاة ظلمة .
5 . الإمام أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة الطحاوي (ت321) صاحب العقيدة المشهورة ومما جاء فيها:
«
ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولا ندعوا عليهم ولا
ننزع يدا من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عز وجل فريضة ما لم يأمروا
بمعصية وندعو لهم بالصلاح والمعافاة »(2/540)
« والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم»(2/555)
6 . الإمام أبو محمد الحسن بن علي البربهاري (ت329) :
« والسمع والطاعة للأئمة فيما يحب الله ويرضى» (ص56)
«
ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين فهو خارجي، وقد شق عصا المسلمين، وخالف
الآثار، وميتته ميتة جاهلية.ولا يحل قتال السلطان والخروج عليه وإن جاروا،
وليس من السنة قتال السلطان؛ فإن فيه فساد الدين والدنيا»(ص58)
«واعلم
أن جور السلطان لا ينقص فريضة من فرائض الله التي افترضها على لسان نبيه -
صلى الله عليه وسلم - جوره على نفسه وتطوعك وبرك معه تام إن شاء الله
تعالى - يعني الجماعة والجمعة - والجهاد معهم وكل شيء من الطاعات فشاركهم
فيه.
وإذا
رأيت الرجل يدعو على السلطان فاعلم أنه صاحب هوى وإذا سمعت الرجل يدعو
للسلطان بالصلاح فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله يقول فضيل بن عياض: لو كان
لي دعوة ما جعلتها إلا في السلطان فأمرنا أن ندعو لهم بالصلاح ولم نؤمر أن
ندعو عليهم وإن جاروا وظلموا لأن جورهم وظلمهم على أنفسهم وعلى المسلمين
وصلاحهم لأنفسهم وللمسلمين»
هذا
يقوله البربهاري رغم أنه أوذي من السلطان ، قال ابن أبي يعلى في الطبقات :
« وكانت للبربهاري مجاهدات ومقامات في الدين كثيرة وكان المخالفون يغيظون
قلب السلطان عليه ففي سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة في خلافة القاهر ووزيره
ابن مقلة تقدم بالقبض على البربهاري فاستتر وقبض على جماعة من كبار أصحابه
وحملوا إلى البصرة»
وقال
: « ولم تزل المبتدعة ينقلون قلب الراضي على البربهاري فتقدم الراضي إلى
بدر الحرسي صاحب الشرطة بالركوب والنداء ببغداد: أن لا يجتمع من أصحاب
البربهاري نفسان فاستتر وكان ينزل بالجانب الغربي بباب محول فانتقل إلى
الجانب الشرقي مستترا فتوفي في الاستتار »
7 . الإمام ابن حبان (ت354) :
بوّب في كتابه الصحيح :
« ذكر الإخبار بأن على المرء عند ظهور الجور أداء الحق الذي عليه دون الامتناع على الأمراء »(10/447)
« ذكر الزجر عن الخروج على الأئمة بالسلاح وإن جاروا»(10/448)
« ذكر الزجر عن الخروج على أمراء السوء وإن جاروا بعد أن يكره بالخلد ما يأتون»(10/449)
« ذكر ما يجب على المرء من ترك الخروج على الأمراء وإن جاروا»(10/450)
8. الإمام محمد بن الحسين الآجري (ت360):
«
قد ذكرت من التحذير من مذاهب الخوارج ما فيه بلاغ لمن عصمه الله تعالى، عن
مذهب الخوارج، ولم ير رأيهم، وصبر على جور الأئمة، وحيف الأمراء، ولم يخرج
عليهم بسيفه، وسأل الله تعالى كشف الظلم عنه، وعن المسلمين، ودعا للولاة
بالصلاح، وحج معهم، وجاهد معهم كل عدو للمسلمين وصلى معهم الجمعة والعيدين ,
فإن أمروه بطاعة فأمكنه أطاعهم، وإن لم يمكنه اعتذر إليهم، وإن أمروه
بمعصية لم يطعهم، وإذا دارت الفتن بينهم لزم بيته وكف لسانه ويده، ولم يهو
ما هم فيه، ولم يعن على فتنة، فمن كان هذا وصفه كان على الصراط المستقيم إن
شاء الله»(1/370)
« باب في السمع والطاعة لمن ولي أمر المسلمين والصبر عليهم وإن جاروا , وترك الخروج عليهم ما أقاموا الصلاة» (1/373)
وروى
أثر :سويد بن غفلة قال: قال لي عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " لا أدري
لعلك أن تخلف بعدي فأطع الإمام، وإن أمر عليك عبد حبشي مجدع، وإن ظلمك
فاصبر، وإن حرمك فاصبر، وإن دعاك إلى أمر ينقصك في دنياك فقل: سمعا وطاعة،
دمي دون ديني "
ثم
قال:« فإن قال قائل: إيش الذي يحتمل عندك قول عمر رضي الله عنه فيما قاله؟
قيل له: يحتمل والله أعلم أن نقول: من أمر عليك من عربي أو غيره أسود أو
أبيض أو عجمي فأطعه فيما ليس لله فيه معصية، وإن حرمك حقا لك، أو ضربك ظلما
لك، أو انتهك عرضك، أو أخذ مالك، فلا يحملك ذلك على أن تخرج عليه بسيفك
حتى تقاتله، ولا تخرج مع خارجي يقاتله، ولا تحرض غيرك على الخروج عليه،
ولكن اصبر عليه .
وقد
يحتمل أن يدعوك إلى منقصة في دينك من غير هذه الجهة يحتمل أن يأمرك بقتل
من لا يستحق القتل، أو بقطع عضو من لا يستحق ذلك، أو بضرب من لا يحل ضربه،
أو بأخذ مال من لا يستحق أن تأخذ ماله، أو بظلم من لا يحل له ولا لك ظلمه،
فلا يسعك أن تطيعه، فإن قال لك: لئن لم تفعل ما آمرك به وإلا قتلتك أو
ضربتك، فقل: دمي دون ديني؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق عز وجل» ولقوله صلى الله عليه وسلم «إنما الطاعة في المعروف» (1/382)
«
لا ينبغي لمن رأى اجتهاد خارجي قد خرج على إمام عدلا كان الإمام أو جائرا،
فخرج وجمع جماعة وسل سيفه، واستحل قتال المسلمين، فلا ينبغي له أن يغتر
بقراءته للقرآن، ولا بطول قيامه في الصلاة، ولا بدوام صيامه، ولا بحسن
ألفاظه في العلم إذا كان مذهبه مذهب الخوارج، وقد روي عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم فيما قلته أخبار لا يدفعها كثير من علماء المسلمين، بل لعله
لا يختلف في العلم بها جميع أئمة المسلمين»(1/346)
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
الشيخ /أحمد بن صالح الزهراني
الشيخ /أحمد بن صالح الزهراني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..