لكن هذا الإطار يحمل في داخله سؤالاً متفجراً طالما عكر هذا الحلم وكان العقدة في وسط المنشار: من يحدد السلوكيات الأنموذجية التي تحقق السعادة للفرد والمصلحة العامة للمجتمع (المكون في المفهوم الغربي من مجموعة أفراد لكل قائمته من المصالح الشخصية)؟ الجواب المتبع اليوم في التطبيق الغربي: هو الفرد نفسه، الفرد يختار لنفسه ما يريد من السلوكيات التي يرى باعتقاده أنها تحقق سعادته، والحكومة التي تمثل النواب الذين اختارهم الأفراد تختار السلوكيات التي تحقق المصلحة العامة للمجتمع. المشكلة أن هذا الجواب يفترض أن كل فرد (إلا المسجل كمريض عقلي، أو الذي يقل عمره عن 18 عاماً) يمكنه أن يقرر لنفسه ما يحقق سعادته.
يمكنه اختيار العقيدة المناسبة له، والأفكار التي تناسبه، والسلوكيات الفردية والتجارية والسياسية التي تناسبه بما فيها اختيار ممثل سياسي عنه في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية. هذا الافتراض يعاني دائما من الرفض الفلسفي له ومن التطبيقات العملية المعيشة التي تثبت خطأه.لكن الرفض الفكري والعملي لهذا الافتراض لم يغير في الصورة شيئا، فهذه الفرضيات أساس في الحضارة الغربية وتغييرها يعني تغيير البنية التحتية لهذه الحضارة وهو أمر قد يؤدي حسب قول الفيلسوف الألماني شبنجلر إلى «انهيار الحضارة الغربية». الغربيون يفهمون هذا جيداً، ولذا فقد وضعت كل دولة غربية ما يمنع قيام السلطة التشريعية من إصدار أي قرارات تؤثر على الفلسفة الغربية الأساسية، فمثلا في أمريكا يوجد دستور وضع عند تأسيس أمريكا قبل أكثر من مائتي عام ولم يتغير حتى يومنا هذا، وهناك مواد قانونية «يلعب» فيها مجلسا الشيوخ والنواب كما يريدون.
لحماية هذا الدستور من أي تغيير، تم تأسيس دور أساسي للمحكمة العليا يعطيها الصلاحية بإلغاء أي قانون يخالف مواد الدستور، حتى لو كان البيت الأبيض والكونجرس (ممثل الشعب) متبنيا له. على سبيل المثال، في عام 1999م، قدم الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون مشروع قانون يحد بشكل كبير من انتشار المواد الجنسية على شبكة الإنترنت، وصوت عليه الكونجرس بأغلبية كبيرة، ولكن المحكمة العليا تدخلت وقالت إن هذا يعارض حرية التعبير وقامت بإلغاء القانون.«حرية التعبير» إذن هي أكثر من حق من الحقوق بالنسبة للغربيين فهي إطار أيديولوجي يضحى من أجله بكل القيم والمفاهيم ويبقى هو كقيمة عليا لها الأولوية تماما كما هو الأمر بالنسبة للمسلمين الذين يرون في الإطار العقدي الأساسي للإسلام الأولوية العليا.
لربما تستغرب السعي الحثيث لعشرات الجمعيات الخيرية الكبرى في أمريكا المتخصصة في حماية «حرية التعبير»، وهي في سعيها تحارب أمورا يراها العاقل، كما رآها المجتمع الأمريكي من خلال الكونجرس أموراً مرفوضة، ومن أمثلة ذلك حملات هذه الجمعيات ضد قرارات منع تعليق الصور العارية في الفصول الدراسية، ومنع عبارات الاستفزاز الديني والعرقي والجنسي في مكان العمل على أساس أن هذا يحد من حرية الناس في التعبير، وهم في حملاتهم هذه يؤكدون على موافقتهم على الخطأ الكامن في مثل هذه التصرفات الممنوعة، ولكن القضاء على هذه التصرفات في رأيهم يجب أن يأتي عن طريق التوعية وحمل المسؤولية وليس عن طريق «كبت الحريات»!هذا باختصار يفسر لك أمرا يغيب عن كثير من الناس: لأجل عقيدة «حرية التعبير» قاتل الغربيون وضحوا بكثير من الرجال خلال القرون الأخيرة في سبيلها، وكتبوا آلاف الكتب حتى تمكنوا من الوصول إليها والمحافظة عليها، مضحين بكل أطرهم الأيديولوجية الأخرى بدءا بالديانة المسيحية.
بالنسبة للعالم العربي، «حرية التعبير» هي حل مفترض للمشكلات العامة التي يعانيها الناس، وهو حل يضعه الناس في موازاة حلول أخرى متعددة، ولذا لا يبدو الأمر مغريا لأحد بالتضحية والكفاح من أجله إلا بما لا يزيد عن الصراخ الذي لا يقدم شيئاً لأحد سوى «الإزعاج».في الأسبوع المقبل سأتكلم عن مفاهيم الحرية وكيف تطورت بعد أن جاءت شبكة الإنترنت.
جريدة الشرق
3/7/2012م
عمار بكار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..