الجمعة، 20 يوليو 2012

ولا نحسب

الحمد لله العليم الحكيم, البر الرحيم, خلق وقدّر, وشرع ويسّر, وأشهد أن لا إله إلا الله, وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير, وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله, تركنا على البيضاء ليلها كنهارها, لا يزيغ عنها بعده إلا هالك. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان. أما بعد:
    فإن مسألة اعتماد الحساب في الرؤية الهلالية قد أضحت كالمتلازمة الموسمية مع غرة رمضان خلال العقد الأخير! وقد خاض فيها بعض الأفاضل فوقعوا في محاذير يلزم منها مشاقة السنّة, ولو مع حسن القصد, وحضور التعظيم الإجلال. والله تعالى قال: "فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً" (النساء: 59) والرد إلى الله تعالى أي إلى كتابه, والرد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي إلى سنته, فمن أسعد بالدليل, وأقرب للاتّباع؟   
    وللاختصار والاقتصار أقول:
    ثَمَّ أمور محسومة من قبل الشارع الحكيم, وقد كُفيناها بحمد الله تعالى, ومنها هذه المسألة, فالبحث فيها لا ثمرة من ورائه ولا طائل من خلفه إلا الجدل والمماراة, المفضيان إلى نزع بركة العلم والعلم, عائذاً بربي!. فقد حسم النبي صلوات الله وسلامه عليه مادّتها بقوله الزكي: "إنّا أمة أميّة, لا نكتب ولا نحسب, الشهر هكذا وهكذا وهكذا" وخنس إبهامه في الثالثة "والشهر هكذا وهكذا وهكذا" وأشار بأصابعه كلها. متفق على صحته. فهذا نصّ في قلب النزاع يأبى التمحّل, ولا يقبل التأويل. وتأمّل قوله: "لا نحسب" فقد استغرقت "لا" النافية كل الحساب, ومن أخرج شيئاً من الحساب بعد هذا فعليه الدليل, لمخالفته هذا الأصل. ويشدّ هذا الأصل أحاديث أُخَر في الصحاح وغيرها؛ كقوله عليه الصلاة والسلام: "صوموا لرؤيته, وأفطروا لرؤيته, فإن غُمّ عليكم فعدوا ثلاثين" رواه مسلم.
    والمخالفون لهذا الأصل في هذا الزمان طائفتان:
    الأولى: قالت بالحساب جملة, وتقديمه على الرؤية في جميع الأحوال, واعتماده دونها, إذ لم ترفع بها رأساً لا بالبصر, ولا حتى بالمكبِّر "التليسكوب" وحجتهم قطعية الحساب وظنية الرؤية. وهذا عين المشاقّة للحديث الشريف, والتقدم بين يدي الله ورسوله, وخرق للإجماع الماضي المستقر كما نقله شيخ الإسلام وغيره.
    الثانية: قالت بالحساب في النفي دون الإثبات, أي إبطال شهادة الشهود في حال أجمع أهل الحساب والهيئة "الفلكيين" على القول بعدم ولادة الهلال, لأن الشهادة ظنية يعتورها الخطأ أوالكذب, في مقابل خبر الحساب الرياضي القطعي الخاضع لأدق الوسائل التقنية الحديثة, التي تلغي هامش الخطأ, فلا بد إذن من الطعن في تلك الشهادة البصرية من باب الخطأ في الإبصار أو الكذب في الأخبار, وكلاهما مبطل للشهادة القطعية.
     أما في حال ولادة الهلال فيعمل بشهادة الشهود إعمالاً لصريح وصحيح الأخبار. ولا يثبت عند هؤلاء دخول الشهر إلا بالرؤية والشهادة سواء بالعين الباصرة, أو بالمكبّر, فهم يقولون: إن العمل عندنا بالرؤية دون الحساب, وحتى لو أجمع الفلكيين على القول بولادة الهلال فليس لهذا اعتبار ما لم تصدّقها رؤية الأبصار, فنكون قد عملنا بالرؤية للأخبار, واحتطنا للحساب لأجل قدر الصيام في الإسلام, فكنا وسطاً بين الفريقين. وقد اشتهر هذا القول بعد فتوى السبكي به في القرن الثامن.
    وهذا القول على حسن مقدّماته وكونه أقرب للحق من سابقه, إلا أنه لا يقاوم حجج المانعين من الحساب كليّة, ومنها:
1- صريح الأخبار "لا نحسب" "صوموا لرؤيته" فلا استثناء في ذلك حتى في حال إجماع الفلكيين على على نفي ولادة الهلال, بل إن إبطال الرؤية اعتماداً على الحساب هو في الحقيقة إعمالٌ للحساب الذي نَصَّ الحديث على إهماله وإبطاله. وكما سبق؛ من استثنى فعليه الدليل.
2- الشريعة مبناها في غالب العبادات العملية على غلبة الظن لا القطع, _أما العقائد فبالعكس_ والقول بإيجاب القطع فيها هو من قبيل الحرج والآصار التي رفعها الله عن هذه الأمة المرحومة. وهذا الأصل مضطرد في كثير من تفاصيل أمهات العبادات كالطهارة ومثالها: أن المتطهر بالاغتسال لا يلزمه النظر إلى ظهره ومغابنه ليتأكد من بلوغ الماء, بل يكفيه غلبة ظنه بالإسباغ _وإن كان للاحتياط باب آخر_ واعتبر ذلك في الصلاة والزكاة والحج, ومن ذلك محور حديثنا؛ الصيام, ومن أفراد مقدّماته؛ دخول الشهر. والقول بإيجاب اليقين في كل العبادات هو من تكليف ما لا يطاق, وفتح باب الوسواس على العباد.
   إذا تقرّر هذا؛ فالحكم بدخول الشهر هو من هذا القبيل, أي باب غلبة الظن, وليس مع الموجبين لليقين هنا دليل من الشرع, بل دليل الشرع يهدم أصلهم بقول النبي عليه الصلاة والسلام: "الصوم يوم تصومون, والفطر يوم تفطرون, والأضحى يوم تضحّون" رواه الترمذي وحسّنه, وعند أبي داود بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم صام وصام معه الناس بشهادة ابن عمر, وهو شاب واحد. كما قبل شهادة الأعرابي, فإذا قبل الحاكم شهادة العدل بالرؤية صام الناس, وهذا هو اليسر والسهولة والحنيفية السمحة, لا تشديدات أهل الهيئة ووسوستهم.
3- يرى بعض أهل العلم _ونصره شيخ الإسلام_ أن الهلال الشرعي ليس هو جرم القمر الذي يراه الناس, بل هذا دليل عليه. أما الهلال الشرعي فهو اشتهار رؤية الناس له وقبول الحاكم شهادة من شهد به, وأصل ذلك في اللغة من إهلال الصبي واستهلاله إذا رفع صوته بالبكاء. وعلى هذا القول فلا اعتبار بالجرم السماوي الذي أشغلتم الناس بمنازله!
4- لو أكمل الناس عدة شعبان ثلاثين, وكان عند أهل الحساب إجماع بأن الهلال لم يولد _بسبب حساب الشهريين السابقين له_ فهل يجرؤ مؤمن على الفطر صبيحة ذلك اليوم؟! وهل نترك صريح الخبر وصحيحه ونتبع أهل الهيئة؟! فالمسألة واحدة, إلا أن هذا وجهها الآخر.
5- لو قال رجل: زوجتي فلانة طالق إذا دخل رمضان, فالمرأة تطلق من تلك الليلة التي أعلن فيها دخول الشهر قدراً وشرعاً. ولو أجمع الفلكيين على خلاف ذلك, وهكذا مسائل الباب من الصيام والتروايح ونحوها.
6- يلزم من القول بإبطال شهادة الشهود في تلك الحال تضليل الأمة الإسلامية في عصورها السابقة!! وإزراء بهم وبعلمهم وبعملهم! فجماهير الأمة منذ فَجْرِها السعيد الى الزمن القريب متتابعة على الاكتفاء بالرؤية دون الحساب, مع توافر الهمم على العمل به, فهل أدرك الخلف ما غاب عن السلف؟! اللهم غفرا!
7- القول بإبطال الشهادة بالحساب هو من التكلّف الذي نُهينا عنه, قال سبحانه وبحمده :"قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين" (ص: 86).
   وبالجملة؛ فمن النصح للأمة بث الحرص على وحدتها, والعناية بسلامة اجتماعها, والبعد عن كل ما يشوّش جمال الصف, ويفرّق تيك الوحدة, ويشتت ذلك الجمع المبارك, فالخلاف شر, والاجتماع خير, ويكفي من قال بإبطال الحساب جملة ما معه من أدلة ساطعة وبراهين ناصعة, شرعاً وعقلاً وحساً, كذلك يطمئن قلبه اذا استظل بفتاوى أجلّة الأمة وسادتها من أكابر ورثة الأنبياء.
   اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل, فاطر السماوات والأرض, عالم الغيب والشهادة, أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
   وصل اللهم وسلم وبارك على محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
إبراهيم الدميجي
1/ 9/ 1433

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..