السبت، 21 يوليو 2012

الاستقرار العائلي وأثره على نفسية الأبناء

الأُسرة هي البيئة التأسيسيَّة الأولى لكلِّ فرد، فهي مدرسته الأولى، وفيها تتشكَّل نفسيته وشخصيته.

إنَّ الحديث عن الأمان النفسيِّ، سرعان ما يستحضر الأسرة؛ على اعتبار أنَّها البيئة التأسيسية الأولى لكل فرد، ولَم يَغْفل المصلحون والتربويُّون والدُّعاة عن هذه الحقيقة، فقدَّموا - وما زالوا يقدِّمون - الكثير من الدِّراسات
والأبحاث التي تساعد في شفاء الأسرة من أمراضها؛ هذه الأمراض التي لا تقتصر آثارها على الفرد والأسرة، إنَّما تمتدُّ لتشمل المجتمع بأكمله، حين تتحول إلى ظواهر اجتماعيَّة تحصدها الإحصائيَّات العددية والنِّسبية.

وإذا كانت معظم أبحاثنا ودراساتنا تصبُّ في أساليب العلاج، فإنَّ النادر منها تلك التي اهتمَّت بأساليب الوقاية، من هنا تبرز (لجنة مصابيح الهدى)؛ لِتُصنَّف من أوائل اللِّجان التي أدركَتْ أهمية البحث في أساليب الوقاية، قبل الاضطرار إلى الخوض في وسائل العلاج.

الوقاية خير من العلاج:
صحيح أننا نكرِّر باستمرارٍ عبارة: "الوقاية خير من العلاج" في المجال الصِّحي، ولكن من رفع هذا الشعار - عمليًّا - في المجال الاجتماعيِّ داخل الكويت هو: "لجنة مصابيح الهُدى"، التي تحاول بكلِّ كفاءاتها وإمكاناتها تقويةَ البناء الأُسريِّ؛ حتى تكون لديه أسباب صناعته، في حالة المشاكل الطارئة، فهي بذلك تكون قد تجاوَزَت المرحلة التقليديَّة في العلاج، والتي تتمثَّل في انتظار الوقوع في المشكلة، ثم طرح سبُل علاجها؛ لأنَّها تطبق بشكل عمليٍّ قواعد الفعالية الوقائية التي تلتفت إلى مُعالجة الأسباب قبل مُعالجة النتائج، وهو أسلوب تفتقر إليه المؤسَّسات الاجتماعيَّة في عالَمِنا الإسلاميِّ عمومًا.

وقد تخطَّت اللجنة المذكورة الكثيرَ من الحواجز التقليديَّة، هذه الحواجز التي تلفُّ الإنسان بغلافٍ سميك، يحجب عنه الإبداع والابتكار والمُرونة، ويقيده داخل إطارٍ من (الالتزام اللاواعي) بكلِّ ما وجد عليه الآخرين، أو بكل ما اتبعه من سبق.

ولا يخفى على أحدٍ تلك الضجَّة التي أثارتها الدورةُ المنعقدة في سنة 1993م، والتي حملت عنوان: "مَهارات وفنون التعامل بين الزوجين"، تلك الدورة يطيب لي أن أعتبرها بدايةَ نقلةٍ في العمل الاجتماعيِّ من أسلوب "اتِّباع القوالب الجاهزة"، إلى أسلوب "صناعة وصياغة القوالب المُلائمة"، وهذه النقلة تعكس - في الواقع - وعيًا كبيرًا لدى المشرفين والمنظِّمين لهذه اللجنة؛ لأنَّ وسائل المُحاكمة والاستنتاج تدلُّ على أن هذا الأسلوب لا يأتي إلاَّ من قبل جهاز مبدع وفعال نحن في حاجةٍ إليه مع بدايات القرن الواحد والعشرين، الذي نأمل أن يشهد تحوُّلاتٍ رئيسيةً في أعلى مستوى أساليب صياغة الإنسان المسلم، الذي تشكِّل الأسرةُ أهمَّ وأبرز الخطوط في رسمه.

الاستقرار العائليُّ ضرورة نفسيَّة:
في آخر فعالياتها كانت المحاضَرة التي ألقاها د. عادل الزايد يوم 25/ 3/ 95م تحت عنوان: "الاستقرار العائلي، وأثره على نفسية الأبناء"، والتي ناقش من خلالها المَحاور التالية:
ممَّ تكون نفسيَّة الإنسان؟
نفسية الطفل.
المؤثِّرات.
أثر الأسرة في نفسية الإنسان.
المشاكل والحلول.

ثم رسم من خلال هذه المحاور الدوائر الإيضاحية التي تتشابك في تركيبة الإنسان النفسيَّة، مركِّزًا على ثلاث دوائر رئيسية هي:
دائرة الطفل: التي تتطلَّب الحنان، والمرح، وكسر القيود، والانطلاق.

دائرة الأبوين: وهو الجانب الذي يمنح الحنان للغير، ويحيطه بالرِّعاية والعطف.

ثم أوضح كيف أنَّ طغيان جانب على جانب آخر يتمخَّض عنه إنسانٌ غير متوازن، تضخَّمَت عنده ناحيةٌ دون النواحي الأخرى، فتسبَّب هذا الأمرُ في إصابته بأمراض نفسيَّة؛ مثل: الاكتئاب، والطفل الهستيري، وانفصام الشخصيَّة، وما إلى ذلك من الأمراض النفسية التي يسبِّبُها غيابُ إحدى الدَّوائر - أو تضخُّمُها - على حساب دائرةٍ أخرى.

وعزا هذا الخلل في معظم حالاته إلى انعدام الاستقرار في الأسرة، مبيِّنًا كيف أن الخلافات الزوجيَّة تتسبَّب مباشرة في إحداث خلل يترك آثارًا نفسيَّة سيِّئة وسلبية تمتدُّ إلى مراحل العمر المتقدمة، ووصل إلى أنَّ الاستقرار الأسري هو العامل الأساسي لتوازن الدوائر حسب مساحاتها المطلوبة، مؤكِّدًا أنَّ هذا التوازن يتأتَّى بشكلٍ عفوي، في حال تهيُّؤ عامل الاستقرار.

آثار الطلاق السلبية:
وأدان المُحاضر الطلاقَ، واعتبره السبب في 60 % من حالات الاكتئاب، ولكنَّه لم يُسْهِب في شرح هذه النُّقطة؛ لذلك أجد أنَّ من الحكمة التنويهَ إلى أنَّ الطلاق - بحدِّ ذاته - لا يعتبر عامِلَ هدمٍ في كلِّ الأحوال، ولكن ما يعمل على الهدم هو عدم علاج ظروف وأوضاع ما بعد الطلاق، وأجدني أركِّز على ضرورة توزيع الأدوار بين الأُمِّ والأب بشكل سليم ومتكامل؛ لكي تنجح عملية التوازن؛ لأننا - ونحن نسلِّم بأن الزواج بحد ذاته لا يعتبر سببًا في تشكيل طفل متوازن نفسيًّا؛ إذْ يُشترط في هذا الأمر مراعاةُ الزوجين لأسسٍ عامة في توزيع الأدوار والواجبات والمهامِّ، والاتِّفاق على منهجية تربوية غير متناقصة، ولا متضاربة - فإننا في المقابل نستطيع القول بأن خَلْق الأجواء المناسبة لما بعد الطلاق تخفِّف من حدَّة المشكلة بشكل كبير، إذا ما كان هناك اتفاق أيضًا على توزيع الأدوار بشكل متوازن بين الوالدين.

دور الدِّين والعُرف:
ولم يغفل المحاضر أهميَّة الدِّين والأعراف في التأثير على الدوائر الموضحة لنفسيَّة الإنسان، ولم يَفُتْه الرَّبط الموضوعيُّ بين النظريات الصحيَّة النفسيَّة، والتعاليم الإلهيَّة في العمليَّة التربوية؛ فنحن نجد أنَّ الإسلام قد اهتم بمعالجة الظروف المحيطة بالطفل، في فترة ما بعد الطلاق فوزَّع المهامَّ والأدوار بشكلٍ يضمن للطفل جوًّا صحيًّا يبعده عن الأزمات النفسيَّة، ولكن ما يحدث حاليًّا هو محاولات مختلفة الأحجام تهدف إلى تخفيض نسبة الطَّلاق في المجتمع، وهذا هدف سامٍ لا يختلف عليه اثنان، ولكن الحاجة ماسَّة في المقابل إلى بذل جهود متساوية؛ من أجل خلق جوٍّ ملائم للطفل في حالة ما بعد الطلاق؛ لأننا إذا ما اعترفنا بالطلاق كحلٍّ لِمَشاكل زوجيَّة مستعصية بنفس طريقة اعتراف الإسلام به، وإذا ما سلَّمنا أننا لن نستطيع - برغم كل الجهود - أن نُلغي هذا الحل لأسباب كثيرةٍ تفسح المجال أمام بحثٍ آخَر - ليس موضوع طرحنا - فإنه ينبغي علينا من زاوية البحث عن التوازن والتكامل والشمولية، البحث عن أساليب فعالة وعمليَّة وبسيطة، موجَّهة للأم والأب المنفصلين، تؤهِّلُهما للارتقاء فوق ذَواتهما، وخصوماتهما؛ من أجل تخفيف وطأة هذا الانفصال على الطفل.

وأجِدُني أتوجَّه بتلميحي هذا إلى "مصابيح الهدى"، على اعتبارها لجنةً اهتمَّت وبرزَتْ في تطوير الأساليب والاستفادة من اللفتات الصغيرة في بناء علاقات قوية ومتينة، كاستفادتها من إهداء الوردة الجوريَّة في إعادة بناء العلاقة الأبوية، أو الاستفادة من بطاقة لطيفة في إعادة الحيوية إلى روتين الحياة الزوجية؛ لأنَّ الاهتمام - بأساليب متشابهة - بإعادة الأمان إلى نفسية طفل كان ضحيَّةَ انفصال والِدَيه، ينبغي أن يكون أيضًا من ضمن الخُطَط الموضوعة.

مجالات واسعة شمولية:
إنَّ المحاضرة التي نظمتها لجنة "المصابيح" عن الاستقرار الأُسَري تفتح مجالات واسعةً أمام أفكار خلاقة، تأخذ منحى الشموليَّة في علاج أسباب الفشل الأسري، سواء أكان هذا قبل الزواج أم بعده؛ للوقاية من الطَّلاق، أو قبل الطلاق وبعده؛ للوقاية من الدمار النفسي لأطفال سيكونون بُناةَ المجتمع الإسلامي القادم.

نعم، إنَّ بناء المستقبل يبدأ من هنا؛ من بِناء نفسية الطِّفل، ونقطة التحوُّل بالمجتمعات الإسلامية مهما اختلفت الآراء في أولويات مراحلها، فإنَّ نقطة الإجماع تبقى: البناء الاجتماعيَّ المتماسك الذي لا يتحقق إلا ببناء نفسيَّات أبنائه، وقِيَمهم وثقافتهم؛ لأنَّها السور الذي سيؤمِّن لهم الحماية والقدرة على المقاومة، ومن ثَمَّ العطاء.

وهذا يبدأ بالأسرة، فقد أدركَتْ لجنة المصابيح نقطة البداية، وعليها تقع مسؤولية المواصلة، والاستمرار؛ كواجبٍ يفرضه عليها مؤهِّلاتُها، التي اعترف المجتمعُ بآثارها الملموسة.

ابتهال قدور
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Social/0/42581/#ixzz21Fp3j9wo

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..