كنت
قد آلَيتُ على نفسي ألا أكتب شيئًا لمدةٍ طالت أو قصرت حتى أتمكن من شحذ
آرائي وجمع ما تبدد من أفكاري بعد الأحداث العاصفة التي شهدناها منذ بدء
الانتخابات الرئاسية، وحتى أتغلب على بعض الحزازات والمرارات التي أصابتني
تجاه بعض الشخصيات وتصرفاتها وتوجهاتها أثناء تلك الفترة. غير أني رأيت أن
الأمر لا يحتمل المزيد من الصمت، وأن الأوان أوان الكلام لا السكوت، لأني
رأيت في الأفق نذيرَ شؤمٍ قد يتسبب في شرٍّ مستطير وشرخٍ خطير في بنية وطنٍ
لم يعد يحتمل المزيدَ من الشروخ، وأعني هنا هذا الصراع الوهمي القائم في
بلادنا بين الديني والمدني، أو الإسلامي والعلماني، والذي يروج البعض له
وينفخون فيه، زاعمين أن هذا هو واقع الحال الآن بعد خروج العنصر (العسكري)
من المعادلة، بحيث لم يعد لدينا سوى هذا الصراع لننشغل به إلى أن يحسمه أحد
طرفيه.
والحق أن العنصر العسكري لم يخرج من المعادلة أصلاً وغيره
كذلك، بحيث يمكننا أن نقول بثقةٍ إن كل ما نراه هو الآن هو نتيجة تفاهمات
معينة بين عدد من الأطراف توافقت على إبعاد نظامٍ قديم بمكوناته كلها حتى
العسكري منها وقيام نظام جديد بصورة جديدة، على أن تكون نتائج ذلك كله
متصالحة متماشية مع مجموع تلك الأطراف. وأعني هنا أمريكا ممثلةً عن إسرائيل
والغرب، والمؤسسة العسكرية، والإخوان، وأطرافًا أخرى محلية وإقليمية
ودولية. والمهم في الأمر أن نظامًا جديدًا قد تغلب وساد، وأن هذا النظام
الجديد يبدو (إسلامي) التوجه في مجمله، ما يجعل القضية الآن في نظر البعض
ليست صراعًا بين القديم والجديد، ولكن صراعًا بين ديني وعلماني.
ولن أفعل ما يفعله غيري ابتداء بأن أدعي أن الديني والمدني
شيء واحد، وأن الإسلامي والعلماني وجهان لعملةٍ واحدة؛ لأن الأمر ليس كذلك.
هناك بالطبع فروق كثيرة وتمايزات واضحة تتعلق في أساسها بصورة الدولة في
الإسلام وصورة الدولة القومية الغربية الحديثة ومقوماتها من أرض وحدود
وجنسية ودستور؛ الأمر الذي لا يتماشى في حقيقته مع الرؤية الإسلامية
للأشياء. ولا يعنيني هنا التفصيل في شرح هذا، لأني أريد أن أصف الواقع كما
هو، وأتعامل معه كما هو، وليس التنظير له والإسهاب في شرح مقدماته وأصوله
الفكرية.
وواقع الحال هو أن لدينا وضعًا معينًا في مصر هو قائم منذ
عقود طويلة، يرجعه بعضهم إلى دولة محمد علي، وأرجعه أنا إلى الدولة التركية
العثمانية، وأن هذا الوضع أو الأمر الواقع لا يبدو قابلاً للتغيير في
المستقبل القريب، لأن أحدًا من الأطراف لا يبدو راغبًا في تغييره في حقيقة
الأمر حتى وإن كانت شعاراته وكلماته توحي بعكس ذلك.
فشعارات الإخوان مثلاً إسلامية بحتة، لكنهم مع هذا لا ينوون
اتخاذ أي خطواتٍ في اتجاه (الشريعة)، لأن هذه الخطوات تتعلق ولابد بملفاتٍ
شائكةٍ هم غير راغبين في التعامل معها، أو ليست لديهم حلول وإجاباتٍ عليها
أصلا؛ وذلك كالنظام القضائي السائد في الدولة، والنظام المصرفي والمالي،
والسياحة، والفن، وغير ذلك من القضايا التي هم ليسوا على استعداد لحسمها
ولا الاصطدام مع أطياف كثيرة في المجتمع من أجلها، كما أنهم ليسوا على
استعداد للتناطح مع أمريكا التي هي سيدة الموقف في مصر حتى هذه اللحظة،
وإلى أن تتغير قواعد اللعبة التي لم تتغير، بشأن هذه القضايا وغيرها
(كالسلام بين مصر وإسرائيل).
فلن نرى إذن ما يشبه النموذج السعودي أو النموذج الإيراني أو
أي نموذج كان كما يحلو لبعض الناس أن يصرخ ويولول. وكثيرون يظنون أن هذا
عارضٌ مؤقت وسياسة آنية يستعملها الإخوان إلى أن يتمكنوا من ترسيخ أقدامهم
وبناء قوتهم، ولا يدركون أن هذا قد صار جزءًا من البنية الفكرية الإخوانية
نفسها، التي تتعامل مع السلفيين على سبيل المثال على أنهم متطرفون مغالون
في فهمهم للشريعة وفي مناداتهم بتطبيقها من جميع جوانبها، والسلفيون بدورهم
محكومون بحجمهم وبالواقع، لا يملكون أحيانًا سوى أن يدوروا في فلك الإخوان
حينًا، أو أن يتحدثوا عن التدرج في تطبيق الشريعة حينًا آخر تمامًا
كالإخوان، وفي نهاية الأمر نجد أن أول حكومة في عهد أول رئيس إسلامي-إخواني
تبدأ عملها بطلب قرض يقرب من خمسة مليارات دولار من صندوق النقد الدولي،
وقرض آخر قدره نصف مليار من أمريكا، بحيث صار ما كان حرامًا عند أصحابه
حلالاً من أجل (المشروع الإسلامي) الذي يبقى وسيبقى مجرد اسمٍ في حيز
الشعارات المجردة؛ لا يخرج منها ولا ينفك عنها، لأنه لم يأخذ الطريق الصحيح
منذ البداية، ولأن المشروع الإسلامي الحقيقي لا يمكن أن يقوم إلا على
أساسٍ صحيح. وعلى الجانب الآخر نجد فئةً علمانيةً غاليةً في علمانيتها
تتشاجر مع المعسكر الإسلامي حول هذه (الشعارات) المجردة، والمظاهر البسيطة
التي ما ينبغي لها أن تغضب أحدًا كخطبةٍ ألقاها الرئيس أو صلاةٍ صلاها
الرئيس، بينما الحقيقة هو أنه لو تُرك الإخوان ليفعلوا ما يشاؤون لن نراهم
يفعلون ما يغضب أو ما يستفز هذه الفئة العلمانية أصلاً، اللهم إلا ملامح
خجولة كان منعها والتضييق عليها في الأساس آفة من آفات عصر مبارك؛ كحجاب
مذيعة، أو لحية وزير أو مسئول، أو منع صلاة في جهات معينة.
إذا كان لنا أن ننشغل بشيء فيجب علينا أن ننشغل بكيفية
الانتقال من نظام قديم إلى نظام جديدٍ بصورةٍ حقيقية، والتعامل الجاد
والقوي والجذري مع مشاكلنا الملحة والعاجلة، والخروج من مستنقعات الفقر
والجهل والتخلف والفساد والاستبداد، لا أن ندور في دوائر مفرغة، أو أن
نتشاجر ونختلف حول شعارات لا يبدو أصحابها جادين في نقلها من المثال إلى
الواقع، لأن الشعارات سهلة مضمونة التأثير قوية الجذب، لكن التطبيق شيء آخر
مختلف تمامًا. د. محمد يسري سلامة
الأربعاء 22 August 2012 - 03:31 م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..