الأحد، 5 أغسطس 2012

عمرُ بنُ الخطابِ بين الحقيقة و(التشبيح)! 1/2

                                                                                           د..حسناء عبدالعزيز القـنيـعـيـر
  يعدّ عمر بن الخطاب أحد أبرز عباقرة السياسة عبر التاريخ، وتذكر بعض المصادر الغربية الحديثة أنه احتل في إحدى الاستبيانات المرتبة الثانية والخمسين ضمن قائمة أكثر
الشخصيات تأثيرًا في تاريخ البشرية. ولهذا قام على دراسته عدد من المؤرخين الغربيين الذين عبروا عن إعجابهم به

لستُ ممن يتابعون القنوات الفضائية وما يعرض فيها من برامج تسلية ومسلسلات، لكن ما شاب سيرة عمر بن الخطاب من تشويه وتكاذب لاسيما في العصر الحديث؛ بدواعٍ مذهبية وسياسية، وما تعرض له المسلسل من حملات شرسه لإيقافه، جعلني أقتطع بعضاً من الوقت الذي أقضيه خارج الوطن لإنجاز مشاريع أكاديمية، لمتابعة المسلسل عبر موقع شاهد نت.
وفيما يخص كلمة التشبيح التي تضمنها العنوان، فإني لم أجد في لغتنا مصطلحاً - يعبر عن التزييف والتشويه المشوبين بالحقد والكراهية ضد عمر بن الخطاب - أصدق من مصطلح التشبيح، الذي ظهر وشاع مع الثورة السورية ضد نظام الأسد، ويصورالإيغال في الحقد والقسوة والعنف حدّ التشفي من الضحايا، كبارًا وصغارًا، شيوخًا وأطفالاً، فلا يشبع نهم الشبيحة مجرد القتل، بل يتجاوزون ذلك إلى فظائع تمجها الكرامة، وتأباها إنسانية الإنسان، أياً كانت عقيدته أو جنسه، كالتمثيل بالقتيل والتعذيب وتقطيع الأوصال وغير ذلك من أساليب اخترعها وأتقنها آل الأسد وزبانيتهم، وتفوقوا فيها طوال فترات حكمهم سورية، وراح ضحيتها آلاف السورين في السجون والمعتقلات والمجازر الجماعية.
وتقول المصادر التاريخية إنّ عمر ولد بعد مولد الرسول بثلاث عشرة سنة ،وكان منزل عمر في الجاهلية في أصل الجبل الذي يقال له اليوم جبل عمر، وكان اسم الجبل في الجاهلية العاقر وبه منازل بني عدي بن كعب. نشأ في قريش وامتاز عن معظمهم بتعلم القراءة، عمل راعيًا للإبل وهو صغير، وكان والده غليظًا في معاملته، وكان يرعى لوالده ولخالات له من بني مخزوم. تعلم المصارعة وركوب الخيل والفروسية، وكان يحضر أسواق العرب عكاظ ومجنة وذي المجاز، فتعلم بها التجارة، التي ربح منها وأصبح من أغنياء مكة، رحل صيفًا إلى بلاد الشام وإلى اليمن في الشتاء.
كان عمر من أشراف قريش، وإليه كانت السفارة فهو سفير قريش، فإن وقعت حرب بين قريش وغيرهم بعثوه سفيراً، وإن نافرهم منافر أو فاخرهم مفاخر، رضوا به، فبعثوه منافراً ومفاخراً.
كان إسلام عمرَ حدثًا بارزًا في التاريخ الإسلامي، فقد قوّى وجوده في صف المسلمين شوكتهم، وأصبح لهم من يُدافع عنهم ويحميهم من أذى من بقي على الوثنية، وتُلاحظ فرحة المسلمين بإسلام عمر في عدّة أقوال منسوبة إلى عدد من الصحابة، منها ما قاله صهيب الرومي: " لمّا أسلم عمر ظهر الإسلام، ودُعي إليه علانية، وجلسنا حول البيت حلقًا، وطفنا بالبيت، وانتصفنا ممن غلظ علينا، ورددنا عليه بعض ما يأتي به‏ "، وما قاله عبدالله بن مسعود: " ما كنا نقدر أن نصلّي عند الكعبة حتى أسلم عمر‏"، و:" ما زلنا أعِزَّة منذ أسلم عمر "، وكان لمهارته في الخطابة أثر كبير في ازدياد شعبيته بين الناس، وبالأخص الطبقات الفقيرة والمحرومة في المجتمع الإسلامي الفتيّ.
كان عمر لا يشتغل بالسياسة خلال عهد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أما في خلافة أبي بكر فقد أظهر حنكة وبراعة في شؤون السياسة، فكان له الفضل في جعل الكثير من الصحابة يُبايعون أبا بكر بالخلافة، وكان طيلة عهده يعاونه في شؤون الحكم وإدارة الدولة المتنامية يومًا بعد يوم.
وبعد وفاة أبي بكر ومبايعته بالخلافة، استطاع أن يكسب تأييد الكثير من القبائل بعد أن أطلق سراح جميع سجنائهم الذين اعتقلوا خلال حروب الردة.
وكان عمر شديدًا مع عمال الدولة الإسلامية، فكان يوصيهم بأهالي الأقاليم خيرًا، يروي الطبري أن عمر خطب الناس يوم الجمعة فقال: " اللهم إني أشهدك على أمراء الأمصار، إني إنما بعثتهم ليعلموا الناس دينهم وسنة نبيهم، وأن يقسموا فيهم فيئهم، وأن يعدلوا، فإن أشكل عليهم شيء رفعوه إليّ ".
وكان إذا استعمل العمال على الأقاليم خرج معهم يشيعهم ويوصيهم فيقول: " إني لم أستعملكم على أشعارهم ولا على أبشارهم، وإنما استعملتكم عليهم لتقيموا بهم الصلاة، وتقضوا بينهم بالحق، وتقسموا بالعدل، وإني لم أسلطكم على أبشارهم ولا أشعارهم، ولا تجلدوا العرب فتذلوها، ولا تجمروها فتفتنوها، ولا تغفلوا عنها فتحرموها ... " .
أثبت عمر بن الخطاب كفاءة في إدارة شؤون الدولة خلال عام القحط الذي وقعت البلاد خلاله في مجاعة عظيمة، فتمكن بفضل اتباعه أساليب فعّالة دينامية من إنقاذ ملايين الأشخاص من الموت.
وأكثر ما يشهد لبراعته في حكم الدولة، إنشاؤه لبنيان إداري متين تمكن بواسطته من حكم دولة مترامية الأطراف ومتعددة القوميات، وإبقائها متماسكة موحدة لفترة استمرت سنين طويلة بعد وفاته .
تمكّن المسلمون في فترة حكمه من فتح الشام والعراق والقدس والمدائن ومصر والجزيرة وخراسان وسجستان وقبرص، وقد انتهج مع أهل تلك الَمواطن سياسة التسامح الديني التي دعا إليها القرآن - مع أهل الكتاب خاصةً - ففرض عليهم ضرائب أقل مما كانوا يدفعونه للحكام الروم والفرس خلال العهود السابقة للإسلام، وأبقى عدداً من حكّام الولايات من أهل تلك البلاد في مناصبهم، ومنع الاقتتال بين الطوائف الدينية الكتابية، ما أدى إلى إعجاب أبناء الأراضي المفتوحة حديثًاً وتعلقهم به .
يعدّ عمر بن الخطاب أحد أبرز عباقرة السياسة عبر التاريخ، وتذكر بعض المصادر الغربية الحديثة أنه احتل في إحدى الاستبيانات المرتبة الثانية والخمسين ضمن قائمة أكثر الشخصيات تأثيرًا في تاريخ البشرية. ولهذا قام على دراسته عدد من المؤرخين الغربيين الذين عبروا عن إعجابهم به، يقول المؤرخ الأمريكي (واشنطن ايرفينجفي) في كتابه (محمد وخلفاؤه) :
" إنّ تاريخ عمر بالكامل يظهر لنا أنه كان ذا عقليّة فذّة، ونزاهة ثابتة صلبة، وعدالة صارمة، وكان أكثر من أيّ أحد آخر المؤسس للإمبراطورية الإسلامية، مؤكداً ومنفّذاً الوحي النبوي، مساعداً ومشاوراً لأبي بكر خلال فترة خلافته القصيرة، وواضعاً ومؤسساً للأنظمة واللوائح التي تنظم إدارة القانون عبر حدود وأنحاء الفتوحات الإسلامية الممتدة بسرعة، وقد كانت سياسة اليد الصارمة - التي تعامل بها مع قادة جيوشه الأكثر شعبية، وفي أبعد مشاهد انتصاراتهم - دليلاً بارزاً على قدرته الاستثنائية في الحكم. إضافة إلى أنّ المراسم المتبّعة (في وقته) تشير بالثناء على قلبه بالإضافة إلى عقله، فقد نهى أن تُباع أية امرأة وقعت في الأسر، وقد وُلد لها طفل على أنها رقيق، وأما أعطيات المسلمين، من الغنائم أو من بيت المال، فقد قسّمها حسب حاجات وليس مميزات الطالبين، وكان يقول: (الله أعطانا هذه الأشياء الدنيوية لسدّ احتياجاتنا، وليس لمكافأة فضائلنا، تلك المكافأة حسابها في الآخرة ...). كان يزدري مظاهر الترف اقتداءً بالنبي وأبي بكر، محذراً ولاته وقادة جيوشه من الانغماس في الترف ونعيم الحياة، ففي رسائله لقادة الجيوش كان يقول: (حذارِ من الترف الفارسي، سواء في المطعم أو في الملبس، والزموا عادات بلادكم البسيطة، وسينصركم الله عليهم وسيفتح لكم).
وقد جعلته عقيدته القوية واقتناعه الراسخ بهذه السياسة يتشدد في معاقبة أيّ متباهٍ أو منغمس فيما نهاهم عنه " .
ويقول المستشرق الإسكتلندي وليم موير في كتابه (صعود وانحدار الخلافة) :
" إنّ حياة عمر لا تتطلب الكثير لإظهار ملامحها، البساطة والواجب كانا مبادئه التوجيهية، النزاهة والعدل والتفاني كانت الميزات الرائدة في حكمه، وكانت تثقل كاهله مسؤولية الخلافة حتى إنه كان يقول: (يا ليت أمي لم تلدني، او أني كنت قصبا من عشب بدلاً من ذلك ).
كان في صباه ذا مزاجٍ ناريّ سريع الاتّقاد، ومن ثم عُرف بعد ذلك في الأيام التالية خلال صحبته الأولى للنبي كالمحامي الصارم المتأهب للثأر.. ولكن التقدم في العمر، فضلًا عن كاهل المسؤولية قد خففا من حدّته، وكان حسّه بالعدالة قويّا .. ولم يُسجَّل عليه أيّ عمل من الطغيان أو الظلم، وحتى في مسألته مع خالد بن الوليد فإنما كانت معاملته له كخصم في الحق وليس لأهواء شخصية. وكان اختياره لقادة جيوشه خاليا من المحاباة والتفضيلية ..
إن القبائل والجماعات المختلفة في أنحاء الإمبراطورية الإسلامية، التي تمثل المصالح الأكثر تنوعاً، قد وضعت في نزاهته الثقة المطلقة، وقد ساعدت قبضته القوية على انضباط القانون، وأبقت على الإمبراطورية.. كان يجوب شوارع وأسواق المدينة وسوطه بيده، جاهزاً لمعاقبة المفترين فوراً، وهكذا ظهر المثل (إن درّة عمر مُهابة أكثر من سيف غيره) . ولكن مع كل هذا، فقد كان رقيق القلب، وسجّلت له أفعال من الشفقة والرحمة لا تعدّ، مثل مواساة وتخفيف حاجات الأرامل واليتامى.." .
وفي كتاب (تاريخ أفول وسقوط الدولة الرومانية)، يقول المؤرخ الإنجليزي إدوارد جيبون:
" ... ومع ذلك فإن عفّة وتواضع عمر لم تكن بأقل مستوى من فضائل أبي بكر، كان طعامه (عمر) يتكون من مجرد التمر أو الخبز، وكان شرابه الماء. وكان يخطب بالناس وعليه ثوب مخرّق في اثني عشر موضعاً. وقد رآه المرزبان (حاكم مقاطعة فارسي) - عندما أتى زائراً ليؤدي لعمر فروض الطاعة - نائماُ مع الفقراء المعدمين في أحد طرقات المدينة.
إنّ التواضع والتسامح المقرونين بزيادة الدخل العام (للدولة) مكّنا عمر من توزيع الأعطيات على المؤمنين بشكل عادل ومنتظم متجاهلاً مكافأة نفسه "!
هذا بعضُ ما قاله كتاب غربيون عن عمر بن الخطاب، وما نظن أنّ لهم مصلحة في المبالغة، أو تحسين صورة غير صادقة، وهذا يمثلُ جانباً من الحقيقة في سيرة عمر التي أكدتها كثير من المصادر الإسلامية قبل أن تصابَ أمة الإسلام بذاك الداء الذي جعلها شيعًا وأحزابًا.
أخيراً يُذكر أنّ عمر كان من بين القلائل (17 على وجه التحديد) الذين كانوا يكتبون ويقرؤون في قريش، وكان أولَ قاضٍ في الإسلام، وأولَ من بدأ التأريخ بسنة الهجرة النبوية، وأولَ من دون الدواوين..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..