الجمعة، 3 أغسطس 2012

حُكومة أبي جهل ..

ما أنفككت - أنا وصديقاتي - بعد كل حلقةٍ من مسلسل "عمر ابن الخطاب" نتسابق للنبش في كتب السيّر بعدما ينتفتحُ بابٌ من النقاش على إثر لقطةٍ من اللقطات الرائعة التي يجري عرضها الآن في المسلسل ..
صديقتي "لمى"؛ ما زلنا نغبطها لأن عندها رسيفر "الشوتايم" المميّز.. فتستطيع إعادة المشاهد وتقديّمها كيفما شاءت!

لم تكن حلقة (11) من المسلسل فقيرة ولكن المشهد الأشد غرابة ..
كان هو: إصرار أبي جهلٍ بعدما خرجت قريش لاستعادة عيرها وأمتعتها التي اعترضها المسلمون .. وهي قادمة من الشام لمكة .

فجاء النذيرُ صارخًا: أيّ قُريش.. ارجعوا فإن أبا سفيان في سَفح جبل كذا وكذا ، وهو قادمٌ إليكم.
فما كان من أبي جهلٍ إلا أن أصرَّ على الحرب ، وشاح بوجهه عمّن حاول إقناعه والاكتفاء بالرجوع لمكة.

ثم أتهمم بالجُبن ...
ثم ذكرهم بمخافة العيرة عند العرب (يعيرونهم) .. وهو أن تخرج قريش بقلاع شيوخها ثم لا يقطعوا لحمًا ولا يكسروا عظمًا .. وأن منتهى أملهم أن يرجعوا لأهلهم سالمين! فأصر أبو جهلٍ على موقفه وقال: بل نذهب لبدرٍ وننحر الجُزر، وتوقد النار، وتنصب الخيام، وتُعقد القينان (الخيول)، وتعزفُ علينا القيان (الإماء)، ونشربُ الخمر إلى الفجر حتى تسمع بذاك قاطبة العرب!.

أما حكيم قريش بلا منازع - عتبة ابن ربيعة - صمتْ! حتى انتهوا من الكلام، فقال: مالنا وللنقع؟ إذ أنه عاد لنا ما خرجنا من أجله، فلنعُد من حيث جئنا .
فنهرُه أبو جهلٍ بغلطةٍ .. وقال: أخرتَ عتبة؟ أم لأجل ابنك بينهم فكرهت لقاءه (أبو حذيفة ابن عتبة مع رسول الله).

ولكن رؤوس القوم مالت لأبي جهلٍ .. وأطاعوه.

وكانت تلك الواقعة هي مَهلكتهم وعُرفت بـ(معركة بدر).. وناداهم رسول الله من دلاء البئر وهم صرعى:" يا أبا جهل ابن هشام؛ يا أمية ابن خلف؛ يا عتبة ابن ربيعة؛ يا شبية ابن ربيعة.. هل وجدتم ما وعَد ربكم حقًا ؟! "

كانت شخصية أبي جهلٍ .. محل استغرابنا ونقاشنا .

لماذا هذه العنجهية في الرأي ، والانتفاش بين القوم ، والمشي بالأرض مرحى ؛ وأنتَ لا شرٌ يأتيك من محمدٍ ولا خيرٌ تمنعُ منه إن صدق بما يقوك وأن ما لديه هو: الحق؟!

وما فتئ - عتبة ابن ربيعة - يذكرهم بهذا المعنى.. أن أتركوا بين محمدٍ وبين العرب فإن كذبَ قتلوه فكفوكم ، وإن صدقَ فزتم بالشرف لأنه منكم!.. وكان العجب كيف قنعوا لأبي جهلٍ بأن يجر قريشًا وفرسانها لأرض معركةٍ لا غالب فيها (حسب معاييرهم) إذ أن القاتل والمقتول كلاهما من قريش وأبناء عمومه.. ثم يُصر على رأيه ، ويُصادم قومه ، ويهاجم من خالفه منهم بالجبن مرةً وبالخيانة أخرى!

وكيف سمحت قريش بأن يقدم هذا بين عمالقتها؛ ويعطى الصوت والمخيط .. فيقطع ويخيط في شؤونهم !
وهو من وُصفَ بأنه أبا (جهل) وليس أبا (الحكمْ) وفي إحدى الروايات بأن عمه الوليد ابن المغيرة - ريحانة قريش - هو من لقبه بذلك لما رأى صَلفه وعنجهيته قي المواقف والقرارات!.

وبلا سابق إنذار.. قفزت إحدى الصديقات وطرحت سؤالاً غريبًا - غير مجرى الحديث - وقالت: كم (أبا جهل) بيننا اليوم ؟

فأول من طرأ على بالي .. العقيد أو الركن: عبدالسلام جلود!
تذكرته .. لأنني كنت متابعة بشغف للثورة الليبية ولفتتني شخصيّته الغريبة .

واستغربت أن مثل ذلك كانت تُسندُ إليه مهام على وزن البشر!؛ استغفرُ الله والله لا أقصد الإهانة لأحدٍ؛ ولكن عندما أنشق الركن جلود وخرج بقناة الجزيرة قلت: ليته سكت.

وكنتُ أعجب؛ كيف مثل هذا يقود شعبًا، ويحددُ مصائر أممٍ، ويتكلم بإسم دولة فيقيمها ويقعدُها .. وهو لمن لا يعرفُه (الرجل الثاني) للمعتوه القذافي، وتقلد مناصب قيادية كبرى؛ من أول يومٍ ثاروا ضد المملكة السنوسية هو وصاحبه ، ووصل لمناصبٍ عدة منها: وزير الداخلية. ووزير المالية!.. وفي فترةٍ جمع ثلاث وزارات معًا: وزيرًا للإقتصاد والصناعة والمالية!! ثم وصل لمنصب: نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية بوقتٍ واحد؛ وبعدها أصبح رئيس مجلس الوزراء . وهو - وبعلم كل الليبيين - المحرِّض الأول لنصب المشانق للشعب الليبي ممن اعترضوا على حكم القذافي طوال 30 سنة بسبب أنهم عبروا عن آرائهم؛ أو لم يعبروا وإنما مجرد مكيدة ووشاية .. فشنقوا آلالاف الليبيين أمام مرآى ومسمع العالم بدمٍ بارد!

وأفعال الشنق بليبيا كانت مأساوية لأبعد حد من عام 1977م وحتى سقوط دولة أولئك المجانيين عام 2011؛ وكان النظام يفرحُ إذا وافقت شهر رمضان.. بل وصلوا إلى درجةٍ أن وصفوا شنق أفراد الشعب الليبي بأنه : عبادة ! أما القذافي فيصف أعمال اللجان الثورة : بالمقدسة !

ولن أتكلم عن أفعال - جلود - الوحشية أو غيره؛ والمثبتة بشهادة الشهود؛ ولكن يقتلني العجبْ أن مثل هذا كان يسيس شعبًا، ويلعب بمصائر دولٍ حسب هواه. فكيف لمثل هذا المعتوه أن يُمكن من السلطة؟ بل كيف كان يُسمع له من الليبيين طوال تلك الفترة المرعبة ؟!

ثم تتابعت سلسلة اولاد أبي جهلٍ المعاصرة .. في أذهاننا .

وإن نسينا؛ فإن مصر لن تنسى العصابة المجرمة التي تحكمت بمصر طوال 20 سنة .. كان على رأسها صفوت الشريف؛ وحبيب العدلي؛ وزكريا عزمي؛ وأحمد فتحي سرور.. "ويا للتناقض" هذا الأخير لهُ كتبٌ رصينة جدًا في الحقوق، وتعتبر مرجًا جيدًا لدارس القانون!

أما المجرم صفوت الشريف؛ فهل فعل الأعاجيب بمصر وشهدَ عليه - أنور السادات - ولجانه المشكلة عندما حققت في أعمال المخابرات المصرية العامة في عهد صلاح نصر، وانتهت اللجنة إلى: إنحراف المخابرات وبعض أفراد أجهزتها باستخدام سلطتهم!. وكانت أعمالهم تعتمد على الفضائحية بإقتدارٍ وسفهٍ عجيب!.

وقد كان يعتمد على اختراق السريّة واستخدام الممثلات الحسناوات ..
ويرغمهنَّ على أمورٍ يأنف العربي الحر من التفكير بها، فضلاً عن ذكرها، فما بالك بممارستها .. ومن سمع ما شهدتْ به الممثلة: اعتماد خورشيد .. سيصاب بالاشمئزاز ولا شك!!

وقد حُوكمَ صفوت الشريف وأصدقاءه .. ولكنه خرج بأعجوبة ثم صعد للمناصب القيادية بسرعة الصاروخ !

فأولئك العصبة بمصر.. كأمثالهم في ليبيا؛ كانوا يتحكمون أيضًا في مصائر شعبهم وقوتهم وحرياتهم .. والحديث بإسم دولة عظيمة ولا أحدَ ينهرهم أو يربط جنونهم!

ولذا والله تملأني الحسرة..
عندما أعلمُ بداهة بأن حبيب العدلي مثلاً كان يجالسُ وزراءنا الخليجيين في إجتماعات وزراء الداخلية العرب من كل سنةٍ، وأنهم كان يضيّعون وقتهم مع هذه النوعية من البشر!؛ أو أن وزير مالية السعودية أو الكويت أو قطر أو أي دولةٍ تحترم نفسها كان يجري مشاوراته الثنائية مع وزير المالية الليبي: عبدالسلام جلود الأحمق!

أيعقل مع هذه الأشكال .. يجتمعُ قادتنا ووزراءنا ؟!

ولكن حسبُنا أن نجد لهم عُذرًا بقول الشاعر: إذا لم تكن إلا الأسنةُ مركبًا *** فما حيلةُ المضطر إلا ركوبها !

ومع أن أبا جهلٍ - عامله الله بعدله - يكفيه عارًا وشنارًا أنه ناصب العداء لخير البشر .. إلا أنه كما جاء بكتب السير كان يتصفُ بصفتين هما: الفصاحة والصراحة.
ولم يكن يواري أو يماري ..
وكان وهو على كفرِه وشركه أخيرُ مما لو داهن رسولا لله وكان من زمرة النفاق.. مع أن كلاهما شرٌ محض.. إلا أن النفاق هي أقذع صفةٍ يمكن أن يتصف بها أيُ رجلٍ.

وهذا ما رسبْ به خلفاء أبي جهلٍ المعاصرون.. فلم يكونوا صرحاء مع أنفسهم ومع الآخرين.
فمثلاً؛ تجدهم يرفعون شعاراتٍ رنانةٍ ويقدمون الدعاوى تلو الدعاوى .. بأنهم لا يعملون إلا لأجل خيرية شعوبهم ..
ثم هو أول من يقتل ذلك الشعب!
أو يقتحم بيوتهم ثم يحاكمهم بتهمةٍ واهيةٍ وعلى حسب أهوائهم ..

ولا تضحك؛ إن سمعت حبيب العدلي - وزير داخلية مصر الأسبق - يقول مثلاً : بأن جرائمة وتعذيبه للمصريين .. كانت لتطبيق الشريعة الإسلامية وقياسًأ على حديث " أمروهم لسبعٍ أضربوهم لعشرٍ" ، كما أضحكني مرةً وأنا بمصر صفوت الشريف وقد نقلت بعض الصحف المصرية عنه قوله : "بأن الأنظمة والاتفاقات في مصر متوافقة تمامًا مع الشريعة الإسلامية!".

وهذا التزحلق العشوائي بين العلمانية والإسلام؛ وبين الحداثة والشريعة ؛ وبين الدين والآراء .. عند أولاد أبي جهلٍ المعاصرين

أمر مضحكٌ حقًا ..
وهو يذكرنا بالمقابلة الفكاهية - قبل أيام - مع الفريق ضاحي خلفان على قناة روتانا الخليجية .. وكان سماحة الشيخ ضاحي لما وصلَ الحديث عن تأييده لعصابة حسني مبارك وظلمهم؛ وسبب كلامه اللين معهم دونما سواهم!! فقال سماحته معللاً ذلك: " أليس الإسلام يدعوا للرفق؟ ألم يقل الرسول للمشركين بمكة : أذهبوا فأنتم الطلقاء؟ "..

هداكم الله .. عليكم أن تتعلموا مبادئ الإسلام يا أجلاف!.. مع تحيات المُحدث: ضاحي بن خلفان السلفي!!

بينما هو نفسه قبل خمس دقائق .. لم يعفوا ولم يتورَّع عمن يُسحب من شعب الإمارات من أفاضلها بلا تهمةٍ معلومة، ولا إجراءاتٍ قانونية سليمةٍ، ولا محاكماتٍ شرعيةٍ صحيحة.. بل أشدُ من هذا سحبتْ جنسياتهم بطريقةٍ هزيلة.. كل هذا لأن وزارة الداخلية اشتبهت بانتمائهم لتنظيمات سياسية (ملاحظة: الانتماء لحزب سياسي ليس جرمًا بنصف دول الخليج كالكويت والبحرين وقطر، وليس تهمةً باليمن ومصر وموريتانيا والسودان والعراق وحتى جيبوتي وكل دول العالم الليبرالي المتحضر!) فمن يقتل شعبَه ، ويسرق خيراته ، ويوالي أعداءه الصهاينة ويشوة شخصية أمته ، هذا على حسب فتوى الشيخ ضاحي بن خلفان (نتسامح معهم) ومن يفعل فعلاً غير مجرم إلا في دولتين خليجيتيين: فهو خائن ومندس .. وبرواية عند الإمام معمر القذافي: آكلين حبوب هلوسة !

ولما اضطرهُ المقدم المبدع عبدالله المديفر في إحدى نقاط الحوار .. بسؤاله: هل تقصد عزل الإسلام عن السياسة؟
أجاب: بنعم بدون أي تلكؤٍ !!

فأعاد المذيع الاستنتاج له مرةً أخرى: إذن هي العلمانية ؟

وأنا والله فرحتُ بهذه الأجابة؛ لأنها توحي بأن الحكومات العربية بدأت تحطو خطى في ميادين الصراحة ، وبدأت تفهم بأنها تحمل مشروعًا ذا توجهٍ سياسي معين ، له نظيراته وتبعاته.. وأنه بالنهاية ليس مشروع الإسلام .

لأن الصراع الطويل فيما سبق بين الناس؛ هو بالتخاصم والجدال بين مؤيدٍ ومعترض عن ما هو كُنه تلك الحكومات العربية التي استحكمت ببلاد بني يعرب؟ والآن اختصر - على الأقل - ضاحي خلفان الطريق علينا وقال: استريحوا نحن نريد أن نرشدكم ونهديكم للعلمانية !

ومع أنني مشفقة جدًا على العلمانية .. لأنها لم تجد من يحمل رايتها إلا هؤلاء القوم.
غلا أنني بالقدر نفسه مبتهجة لأن غالبية الحكومات العربية كانت سباقةٌ لسقطات أبي جهلٍ وصَلفه وبطشه وعنجهياته المتكررة.. أما اليوم؛ فيبدو أنها استعارة من أبي جهلٍ إحدى صفاته المحمودة المستحسنة وهي: الوضوح! وأما الفصاحة فهم أبعد من أن يصلوا إليها ..

وبالنهاية ..
لابد أن نعود لأول ما ابتدأنا به وهي مشورةُ حكيم قريش - عتبة ابن ربيعة - وهو من يفري الرأي حتى يغدو كالسهم اللامع عندما قال: اتركوا بين محمدٍ والعرب فإن كذب قتلوه فكفوكم ، وإن صدق فزتم بالشرف لأنه منكم!

وبدوري أقول ..
لضاحي خلفان أو حبيب العدلي أو ماهر الأسد أو أشباههم في العراق والجزائر والمغرب وتونس أو أي حاكمٍ قادم: اتركوا بين من يحملُ دين محمدٍ وبين الناس؛ فإن خسروا كفيتم شرهم، وإن فازوا فزتم بالشرف لأنهم أبناء جلدتكم ورفعوا رؤوسكم!
وها أنتم فعلتم ما ترون أنه حق منذ 40 سنة وأكثر؛ وأن العلمانية هي قطارُنا للعالم؛ ولم نمنعكم بأن تزيفوا رغبات الشعوب، وأن تزوروا تاريخ الأمم - كما فعل صدام والقذافي وأعوانهما- ولم تفلحوا بأي شيئ مما فعلتم.. ولم نكن يومًا لنوافقكم على ما تصنعون.. ولم يكن هناك رغبةٌ سوى: أن تفعلوا ما ترونه حقًا واجعلوا غيركم يعبرون عما يرونه حقا .

وما يدريكم .. لعل صائحًا يصيحُ يومًا قائلاً: أي قريشُ..أيها العرب؛ ارجعوا فإن أحفاد علي وعمر وخالد في قاعة كذا وكذا اجتمعوا لرفعَتكم !

" والله غالبٌ على أمره؛ ولكن أكثر الناس لا يعلمون"



مودتيّ/ فاتن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..