التقاطع مع كثير من الليبراليين متعذر في هذه الهوامش الحساسة ,لأنهم يخفون ويظهرون ولهم مراوغاتهم مع كل ركن من أركان الإسلام ,ومجهوداتهم لأنسنة الدين وهو مشروع أركوني مشهود عزز من حالة قلقهم وتكريس انفصامهم داخل علاقاتهم الاجتماعية ,وكيف يمكن إحالة القيم الروحية الإسلامية المحددة إلى إنسانية تشترك في أطرها مع هوامش في محددات أديان وإيديولوجيات أخرى ,بحيث لا تتمايز مدلولات الممارسات والطقوس وإنتاجيتها القيمية ,وتمضى سوياً لخدمة الحالة الإنسانية الكبرى ,فالليبرالية الإنسانوية تأول الشهادتين (لا إله إلا الله ، محمد رسول الله) على أن الله رب عظيم خالق ,لا يحق لأحد ان يؤطر بأطره الخاصة .ومحمد هو قيادي روحي تؤخذ من أقواله الكثير مما يؤخذ من أقوال بوذا وزرادشت والمسيح .وتلقيه الخبر من السماء أمر غير مهم عند الليبرالية ,أو غير واقعي كما يعتقدون .والرسالة بحسبها مهمة اضطلع بها طوعاً ومبادرة دون تكليف من السماء في زعمهم .وتأتي الصلاة في هذا المساق وتحت هذا الشروط الشبيهة بالسياط لتطويع الدلالة لمقتضي الإنسانية الليبرالية ,بل تتوجه نقودات الليبرالية إلى طقس الصلاة وبعض إجرائياته, وكذا الزكاة والحج وشعائر أخرى ليس مقنعة لديها أول الأمر.
لبرلة العبادة مشروع شاق إلا بفرض اعتباطيات فجة باعثة للتندر, كأن نقصر الصلاة كثقافة انضباط والترتيب ,والزكاة كاشتراكية ,والصوم كإضراب تضامني مع محرومين أو مظلومين .إلا أن الليبرالية ستواصل انتقاصها لممارسات شعائرية تكليفية من نص أو غيب ووحي كعدد الركعات وهيئتها ووقتها ونسبة الزكاة ووقتها.
الصوم ليبرالياً يمضي في اتجاهين ، أولهما: أنه خرافة محضة حتى لو بدا إنسانياً غير ذي اعتبار, ولا سيما أن له سلف في ديانيات أخرى ,وثانيهما : أنه جزء من طقس ديني يؤمن الليبرالي به إيماناً عاماً ويمارسه ممارسة عامة , يراوح حسب حالة القلق والشك تجاهه.
حالة الصوم الشعبي تضاعف من توتر الليبرالي تجاه هذا الركن ,وتدمجة آلياً في خرافة الصوم في الأمم السابقة ,ولا سيما أن الإسلام يضعها خارج الحق والهداية إذ الذي فرق بين الصوم الإسلامي وصوم الأمم الأولى هو الوحي والاختيار الإلهي الذي هو موضوع تساؤل أوشك أو إنكار ليبرالي. ويزيد من قلق الليبرالي تجاه الصوم أن مؤطر ومشروط بتجنب محظورات ,فعلها لا يقلل من الجوع كالجماع والمبالغة في التعطر ,ما يحسم ان فرضية أنسنة الصوم بنفيه إضراباً , بل امتناع تعبدي عن متع وحاجات جسدية ومشروط أيضاً بإمساك يبدأ بعبادة أخرى (صلاة) وينتهي بدخول وقت عبادة (صلاة) ,أي محدد بعبادات ,ما يعزز من روحانيته, ويدفع بالمدلول الإنسانوي بعيداً. تأتي المائده الرمضانية المخصوصة بأصناف ذات دلالة زمانية , ما يضفي عليها بعدا روحياً هو الآخر, ف (السنبوسة) صنف غذائي كأي صنف آخر ,لكنه يدرج ضمن المأكولات الدينية ,أو هي دلالة دينية لا تغادر رمضانيتها ما يجعلها معبرة عن ركن.
هذه الأصناف إزاحت الطابع النمطي لهذا الإضراب ,إذ الإضراب يخرق بأكل وشراب غير مخصوص ,لأنه في زمن غير مخصوص ,ولم يستفتح بعبادة أو يختتم بها ما يفرغ الصوم من أي دلالات غير دينية ولو يسيرة.
بعض الليبراليين المخلصين لليبراليتهم وإنسانيتهم يصومون رمضان بوصفه قوة طارئة تثني الظالم عن رغبته وتوحده مع الضعيف البعيد غير المسلم جوعاً وعطشاً .أهم ما يجدر ذكره أن الصوم هو آخر ما يتركه المسلم من أركان الإسلام فقد يجرؤ مسلم على ترك الصلاة والزكاة والحج , لكن للصوم هيبة خاصة , ربما لأنه دوري سنوي ونشاط جماعي ينتظم حتى الأطفال, وربما لعقوبته الشديدة . فيبقي الصوم على من لم يداخله إلحاد .ولعل هيبة الصوم أنه يحمل هذه المعاني الكبرى, فضلا عن أنه أقل أركان الإسلام خلافاً بين المذاهب الإسلامية, وكذلك أقبال المسلمين عليه وحبهم لأدائه ولطقوس الجوع والعطش التي تدمجهم في مناخ تاريخي وإنساني عريض ,يعكس تضامناً وتذكيراً بالفقير .وكان اشتراكيون يحبون أجواء رمضان وكأنها تصادق على توجههم وحزبهم .
لليبرالية على المائدة الرمضانية تمظهرات قد لا تتوافر في شعائر أخرى, تنتهي إلى أن الصوم هو الفريضة الوحيدة التي يمكن للإنسان فيها ألا يخضع لأي وصاية أو رقيب, فإذا لم يصم لم يطلع أحد على خبيئته خلاف بقية الأركان, وهذا يحقق المبدأ الليبرالي (رفض الوصاية على الفرد), إذ الصوم نشاط فردي والليبرالية ذات نزعة فردية.
محمد عبد الله الهويمل
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..