لا
غرابة في أن الخطاب في الآية الكريمة موجه لأولي الألباب، أصحاب العقول.
ولا غرابة في أنه إذا تم تغييب العقل فسيغيب عن الناس الحكمة من القصاص
كحكم شرعي وكعقوبة رادعة وترضي الطرف المتضرر. وفي مجتمعنا المغيب لعقله
دائماً، المتلاعب على كل القضايا والأحكام إزدادت الجرأة وبشكل فاضح على
اثنين من أهم ضرورات الحياة وهما النفس والمال، وذلك بمحاولة تعطيل حكم
القصاص باستخدام المال. وسأشرح في هذه المقالة المتواضعة وجهة نظري التي لم
أبتدعها ولستُ أول المنادين بها ولن أكون الأخير، وسيعارضها الكثير، ولكل
دوافعه والله المطلع على النيات
ليس
سراً أنه في هذا الشهر (رمضان ١٤٣٣هـ) تم الاعلان وعلى نطاق واسع عن قضيتي
قتل تم فيهما العفو المشروط عن القاتل، وهذا الشرط هو مبلغ مالي أعلن عنه
وهو ٣٠ مليون ريال سعودي للقضية الأولى و٢٨ مليون للقضية الثانية (تم
تخفيضه كما أعلن إلى ٢٢ مليون). انتهت إحدى القضيتين -وقت كتابة هذه
المادة- بدفع الفدية وستنتهي قضية الاخر قبل نهاية الشهر، وسيجمع المبلغ
وسيخرج القاتل، وكما ذكرت في ليلة جمع المبلغ للقاتل للأول سأقوله للأخر:
ليفرح أهل القاتل بنجاته، وليفرح أهل المقتول بما قبضوه ثمناً لدم ابنهم،
وليفرح المتبرعون بنجاح رهانهم. كلكم يعلم أنها لعبة مخزية
هذه
العبارة أثارت عليّ غضب مجموعة كبيرة من الأشخاص أعلم أن أغلبهم حينها
فرحون بما آل إليه الأمر وأن مقولتي ربما كان توقيتها غير مناسب وكذلك مكان
طرحها. لست هنا لمحاولة شرح المقولة أو تبريرها ولكن أحاول قراءة الوضع
وطرح رؤى وتساؤلات حول هذه القضية التي صارت ككرة ثلج يصعب إيقافها بعد أن
كبرت، كبرت في الزخم الاعلامي، كبرت في المبالغ المالية المطروحة، وكبرت في
أسلوب المعالجة عموماً
نعلم
أن كل قضية قتل تختلف عن غيرها، ولكل قضية مسبباتها وتداعياتها وحكمها،
وكل هذه التداعيات والمسببات يفترض أنها تنتهي عند حكم القضاء بالقصاص أو
غيره، فإن حكم بالقصاص انتهت كل العوامل الأخرى، لايهم الدافع من القتل،
لايهم كم عمر القاتل أو المقتول، لايهم من أي قبيلة كان أو من أي عائلة،
ولايهم بطبيعة الحال حجم الحملة الاعلامية التي يقوم بها أهالي القاتل فيما
بعد. إذا كان هناك تشكيك في القضاء فهذا أمر مفهوم ويحل بالاستئناف أو
الاعتراض وله قنواته، أما أن يتم تجييش المجتمع ليواجه القضاء وأهل الميت
وكأنهم أخطأوا ويجب تصحيح خطئهم فهذا غير طبيعي، وقد حدث هذا كثيراً وسيحدث
في المستقبل، حتى إن القضايا من فرط تشابهها صرنا نتوقع الأحداث قبل
وقوعها. وعرف الناس أسماء بعينها يقومون بدور”السعي بالصلح“ بين الفريقين،
وهذا السعي يكون باسم الدين والتسامح والوجاهة الاجتماعية أولاً، ثم
بالإغراءات ثانيا، ثم بالتهديد المبطن ثالثاً
في كل الأحداث السابقة لم يُحدد
مبلغ كفدية أو دية إلا وتم سدداه، لابد أن يسدد، ولو اضطر أهل القاتل الى
بيع كل ممتلكاتهم ليسددوه، ليس لأنهم يريدون ذلك فحسب ولكن العار سيلحقهم
إن لم يفعلوا. ثم هي فرصة متاحة وخلل في النظام أتيحت لهم لينقذوا ابنهم
فسيفعلوا. ولكن اللغة اللينة التي يستخدمونها ليست لعتق ابنهم كما يزعمون
بل لتسلم أموالهم،. ومايفعله أهل القاتل من تشكيل لجنة يحدد لها رئيس
ومسؤول مالي ومسؤول دعائي وشعراء مرتزقة وغيره ليس إلا سؤالا وتذللاً وهذا
هو المأخذ الوحيد من وجهة نظري لهم، وتصرفهم مفهوم على كل حال ماداموا قد
ارتضوه لأنفسهم.
كلنا
نعلم أن العبارات المستخدمة غير صحيحة، القاتل هو مجرم مذنب وأي مسمى أخر
غير ذلك هو تلاعب. والمبلغ الذي يطلبه أهل القاتل ليس دية بل فدية. ونعلم
جميعاً أن الذي يحدث ليس عتق رقبة، فعتق الرقبة هو عتق الرقيق المملوك من
المالك. ونعلم أن استخدام آية (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) ليست
في محلها.. وأهل الخير أو الساعين في الصلح يكون منهم سماسرة لهم نصيب
معلوم من وهذا لا يخفى على الجميع. ثم تكثر أيضاً المبررات التي يتم سوقها
للناس عن القاتل، سواء وقت الجريمة أو بعدها، فيقال انه إنما قتله دفاعاً
عن شرفه أو ماله والذي أعرفه أن لو ثبت ذلك للقضاء لما حكم بقتله، ويقال ان
المرحوم مخطئ ويتم تشنيعه بلطف أمام أهله وبقسوة في غيابهم، كل ذلك لتهوين
القتل وتبرير الضغوطات للعفو عنه، ثم أخيراً يتم تلميع صورته بالحديث عن
أخلاقه وورعه في سجنه و بره بوالدته وغير ذلك من الكلام الذي لايهم في سير
القضية بقدر مايلعب على وتر المشاعر واستدرار التعاطف وهذا دائما ينجح..
أهل
المقتول هم أكثر من يلومهم الناس ويشتمونهم، وسأحاول فهم الطريقة التي
تجعلهم يقبلون بهذا الأمر: يُقتل ابنهم، يحاولون الانتقام، يحال بينهم وبين
ذلك إما بقوة الدولة أو بقوة الحماية القبلية المعروفة بين القبائل، يبدأ
الناس في التوافد إليهم محاولين طلب العفو، يرفضون، تزداد الضغوطات، يتدخل
شيوخ القبائل وأهل الخير من كبار التجار والمشايخ والأمراء وربما يوفد
الملك وفداً للوساطة، تزداد الضغوطات، يكونون بين الترغيب بالمال والتهديد
بغيره، يتم إقناعهم أن القصاص لن يرجع ابنهم الميت، وكأنهم طالبوا بذلك
أصلاً. ثم يتم إرهابهم بأنهم إنما يرفضون وساطة ووجاهة كبراء القوم وهذا
مسيء، ثم يهددونهم بأن الدنيا دوارة، وأنهم قد يكونون في الموقف المقابل في
المستقبل، حتى إذا انتهى سيل التهديد أغروهم بأن لهم الحق في طلب المبلغ
الذي يريدونه. وفي كل قضية نعلم أنه يحدث خلاف بين أهل المقتول فهناك من
يرفض الأمر مهما كان الثمن، وهناك من يرضى بالدية المعقولة، وهناك من يرضى
ولكن بمبلغ أكبر. ينتهي الأمر غالباً بطلب أكثر مبلغ ممكن لسببين: أولهما
قياس قضيتهم بقضية أخرى حدثت وتم دفع مبلغ كذا فيرون أن ابنهم ليس أقل منه
فيطلبون مثله أو أكثر. السبب الآخر هو معاقبة أهل القاتل، فهم يثأرون منهم
بتنكيلهم هذا المبلغ بعد أن حيل بينهم وبين الثأر قتلاً وبعد أن كثرت
الضغوطات عليهم وزاد طمعهم بالمال بفعل السماسرة الذين لديهم كل الخبرة في
خفض ورفع حدة الأمر للحصول على صلح ناجح بأكثر قدر ممكن من المال. ثم تبدأ
سلسلة وساطات جديدة لخفض المبلغ بطريقة مهينة. إن المبلغ المطلوب ليس وزنا
للمقتول بشخصه ولكنه وزن ابن القبيلة أو العائلة، فإن كان يوزن الناس
بالمال فلن يقبل أحد أن يبيع ابنه بقيمة كهذه. ولكن هذا هو الحد الأعلى من
المال الذي يمكن أن يطلبونه ليتم سداده. لو أن بيدهم أن يطلبون أكثر
لفعلوا، ولكنهم ينصاعون للضغوطات
خلاصة القول أن أهل المقتول لم يكن من المروءة أن يبيعوا دم ابنهم، فهم إما
يعفون عن القاتل وإما يصرون على القصاص، فهذا دمهم وحقهم. وأهل القاتل
القادرين على تسديد المبلغ مهما زاد ليس من المروءة أن يفتحوا حساباً
للتبرعات، إلا أن يكونون فقراء عاجزين يصدر بحقهم صكوك إعسار، لأن الدية
كما نعلم يتحملها ”عصبة“ القاتل وليس المجتمع بأكمله. فهم إما يستدينون أو
أنهم يقبلون المال من أناس معلومون عندهم فيحفظون لهم مالهم بتسديده كسلفة
أو يحفظون معروفهم، أما أن يشكلون لجانا لـ“سؤال الناس“ أموالهم ويسدرون
عطفهم بعبارات وأساليب أقرب ماتكون لأساليب الشحاذين وأساليب القنوات
الفضائية الهابطة فهذا سيء بحقهم قبل أن يكون خطأ واضحاً بحق المجتمع.
الذي
يؤلم في كل هذا أن كل هذه الأدوار يقوم بها العقلاء. أي أن هناك من هو
أكثر تهورا في كل طرف يطلب أكثر من هذا التطرف، ويحدث الكثير من المناوشات،
ومجالس الصلح الجانبية، والاشاعات، أي أن المتوصلين لهذه الحلول
والمتسيدين للرأي في كل الأطراف يحسن وصف آحادهم بـ(عاقل أل مرة). وعتبي
على المتبرعين ليس أنهم ينوون الخير ويفعلونه بتبرعهم بمبلغ زاد أو نقص
لهذا القاتل او ذاك، يرضي الواحد منهم ضميره مستجيباً للغة المستخدمة في
الدعاية، فهذا شأنه وهو بطبيعة الحال حر في صرفه كيف يشاء وفي أي وجه يراه
من وجوه الخير، ولكن عدم التحقق إن كان هذا من وجوه الخير أم لا فيه نوع من
الاستهانة بهذا المال. إن كان معسراً فأهله أحق بهذا المال، وإن كان ذا
يسر فالفقراء واليتامى أحق. وليتذكر أن ماله يذهب لجيب من لايستحق، فدية
لقاتل. يذهب لقوم يبيعون دم ابنهم ويشترون حياة قاتله بمال من لا ذنب له.
أما
مايمكن تسميتهم بتجار الدم أو السماسرة فليتقوا الله في مجتمعهم. هم
يتجارون بدماء غيرهم وبأموال غيرهم، يستغلون ثغرات فاضحة في نظام القضاء
والضبط ليخرجوا بوجاهة زائفة وأموال ليس لهم فيها حق حتى لو أعطيت لهم بطيب
خاطر. وإن كانت نيتهم طيبة ويرجون الأجر أو فعل الخير فليتذكروا أنهم إنما
هم سماسرة في سوق نخاسة، يساهمون في جعل الدم رخيصا ببيعه بعد كل جريمة
قتل، والمال رخيص بسهولة جمعه لأن الناس يتعاطفون في مثل هذه القضايا،
وليتفكروا في القصاص كحكم شرعي والحكمة منه ولايغرنهم رضا الأطراف، فالربا
يرضى به الأطراف وهو من الكبائر لأثره العام على المجتمع، ليتفكروا في، في
العدالة، في الرضا التام للنفوس المتخاصمة، في مصلحة المجتمع، فإن لم
يساهموا في إيقاف هذه الدوامة فليكفوا عن الناس شرهم.
مشبب ثابت
١٦ رمضان ١٤٣٣ هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..