* لماذا لم تحدث تنمية في دول تبنت الديمقراطية؟
لابد أن نقول أولاً: نعم هناك دول ديمقراطية تعثرت التنمية فيها،
لكن لم
تكن "الديمقراطية" هي السبب المباشر، فلا يمكن أن نقارن حالها بدول
"استبدادية" يأتي الاستبداد سبباً مباشراً في تعثر التنمية، فهناك عشرات
الباحثين الذين يؤكدون على أن "الفقر" مثلاً، والذي تقترب نسبته من ٤٠٪ في
بعض الدول الغنية بالثروات أو الدول النفطية، ناتج عن سبب مباشر يتعلق
بغياب الديمقراطية والمشاركة الشعبية في إدارة ثروات البلاد وفساد لاحتكار
السلطة.
وفي المقابل، يتم ربط فشل التنمية في بعض الدول الديمقراطية بمستوى
التعليم والالتزام الحقيقي بقيم الديمقراطية، وقد أجرى "روستو وآدونيل"
دراسات ميدانية وأبحاث أثبت فيها وجود ارتباط وثيق وقوي بين مستوى التعليم
وبين الالتزام بقيم الديمقراطية التي تؤثر إيجابا في التنمية.
وآخرون يحيلون سبب فشل التنمية إلى التطبيق الخاطئ لنظرية "الحامل
والمحمول" التي تقول لابد أن تدفع التنمية النظام نحو الديمقراطية دون
تجاهل أهمية أن يقوم النظام الديمقراطي بدفع التنمية للأمام، وإلا فإن ذلك
يعني وجود خلل ما في ممارسة الديمقراطية التي يُعمل بها في البلد! أو خلل
في مفهوم "التنمية".
يحدث قريباً من هذا الخلل في رومانيا، فعلى الرغم من تخلصها من أكثر
الأنظمة قمعية في أوروبا إلا أن الديمقراطية فيها مريضة، والمجتمع المدني
يعاني فيها كثيرا، وبعض الأحزاب انحرفت عن الصالح العام، كما يحكي عنها
عالم الاجتماع ميرسيا: "في رومانيا تمثل الأحزاب سياسية جماعات مصالح
اقتصادية أكثر منها إيديولوجية، وهدفها هو الإمساك بكل دوائر الحكم وليس
الدفاع عن المصلحة العامة"! لذلك ترى المفوضية الأوروبية أن الحكومة
الرومانية تنتهك دولة القانون، وهي تحاول مراراً إرغامها على التقيد بنظم
الديمقراطية لأنها في حد قولها تتلاعب بها وتتملص منها!
مثال آخر وتساؤل مشروع، ماذا صنعت الديمقراطية وحريات الناس في دول أمريكا اللاتينية، لماذا لم تصنع لها "تنمية"!
إن أجمل من أجاب على هذا السؤال هو رئيس كوستا ريكا في الفترة من ٢٠٠٦-
٢٠١٠، حيث كتب مقالاً في مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية عدد فبراير عام
٢٠١١ تحت عنوان: "المعوقات الحقيقية للتنمية في أمريكا اللاتينية"، ولخصه
موقع درا السلام على النت في النقاط التالية:
1- الخوف من التغيير والرضا بالمورث رغم سلبياته.
٢- غياب الثقة بين أفراد المجتمع ويعزو السبب إلى سياسة التشكيك بالآخرين
وانتشار فكرة "الأجندات الخفية" التي تغرس الإحباط في نفوس الشعوب، حيث
تشير الاستفتاءات أن نسبة الثقة في الآخرين في مجتمعات هذه الدول لا يزيد
على ١٦٪، بينما تتجاوز ٦٥٪ في دول مثل الدنمارك والنرويج والسويد.
٣- الديمقراطية المزيفة الشكلية، فرغم وجود الهيكلة الديمقراطية، إلا أن
الممارسات تختلف تماماً عن حقيقة الديمقراطية وأهدافها، فمجرد أن تنتخب
القيادات السياسية في هذه البلاد يتم استغلال الثروات لمصالحهم الذاتية
وتكتفي مع شعوبها بالوعود الزائفة، فتُهمل التنمية!
٤- الفساد والسمسرة من خلال النفقات على الأسلحة، فدول أمريكا اللاتينية
تنفق ما يقارب ٦٠ مليار في السنة على جيوشها، مهملة النفقات على التعليم
والتدريب والصناعات التي تسهم في دفع عجلة التنمية بسرعة.
* لماذا لا ننظر إلى سنغفاورة كنموذج قابل للاستنساخ.. لا حرية لكن هناك تنمية؟
موضوع سنغافورة بالذات بدأ يتكرر لتبرير القمع الإعلامي في الخليج، فحين
تطالب اليوم بالحرية وتمارس النقد للمسؤول، يقال لك: التنمية أهم من
الديمقراطية والحرية! وأقرب مثال عندكم سنغفاورة، دولة متقدمة لكنها تمنع
المقالات التي تنتقد الحزب الحاكم وليس عندها حرية صحافة..! فالاستبداد ليس
سيئاً كما تتوقعون، الاستبداد مع "طوال الأعمار" يأتي لنا تنمية مثل جاب
لسنغافورة! ماذا تفعلون بالحرية إذا كان بعدها لا تقدرون حتى أكل شوكلاته!
ولأن موضوع الحريات الإعلامية المحدودة في سنغفاورة يتم تسويقه لتبرير
حالة القمع في جوانب كثيرة في الخليج، أحببت أن أجيب على سؤال التالي: هل
يصح القياس والاستشهاد بسنغافورة؟
لمعرفة صحة الاستشهاد بسنغافورة سأناقش جوانب من الصورة: ١- الرئيس، ٢-
الشعب، ٣-علاقة الحاكم بالشعب، ٤- حالة النظام السياسي اليوم.
أولاً، جانب الرئيس:
هل يشبه رؤساء دول الخليج، الرئيس "لي كوان يو" من حيث التوجه لبناء
الدولة لا بناء الذات؟ من حيث التجرد من المصالح الذاتية إلى المصالح
العامة للشعب؟ من حيث توزيع الثروة العادل؟ من حيث تطبيق القانون على
الجميع؟ من حيث محاربة الفاسد بصدق؟
قبل الإجابة على هذه الأسئلة دعونا نسلط الضوء على جزء بسيط من حياة
"الرئاسة" المستبدة التي يراد للنا أن نطابقها بصورة الحاكم في الخليج.
١- "لي كوان يو" زعيم متجرد من طموحاته الشخصية منذ اليوم الأول لتسلمه
للسلطة، فلم يحول سنغفاورة إلى مزرعة خاصة له ولأبنائه وأقاربه، بل قدم
إليها مصلحاً منتجاً، وقدَم الوطن على العائلة، فرغم التركة الثقيلة التي
خلفها الاستعمار البريطاني، والبنية التحتية المترهلة، وقلة الموارد
الاقتصادية، والغليان العنصري الذي كاد أن ينفجر، إلا أنه احتاج لما يقارب
30 فقط ليبنى وطناً مذهلاً متجانساً نقله وبقوة إلى مصاف الدول المتقدمة،
وجعل منه عاصمة كبرى للاستثمار والصناعة في العالم.
٢- "لي كوان يو" لم يجد لمشكلات سنغفاوره حلاً في السجون فأغلقها وفتح
المدارس والجامعات، ولم يدعم الجرائد والإذاعات التي تصفق له وتتحدث عن
إنجازاته، بل قلص عددها وفتح المصانع ووجه الناس إليها... قرب المبدعين
والمفكرين بدلاً من الشعراء والمتزلفين .. من يبحث عن عمل لابد أن يجد..
ومن يرد العمل لابد أن يتعلم، أسهل معادلة قدمها للشعب.. واستجاب لها شعبه.
سنغفاورة ليس لديها نفط ولا موارد طبيعية ولا معادن، بل حتى ماء
الشرب يتم استيراده، ومع ذلك رأى الرئيس أن تقديس المعرفة خير من تقديس
الذات، فخصص أماكن ومعاهد لرعاية الموهوبين وأنشأ مراكز للإبداع الفني
والعلمي ودعمها فأثرى الشعب والبلد.
٣- الشعب السنغافوري يعلم قيمة راتب رئيس الوزراء الذي يقدر بـحوالي "٢.٣
مليون دولار سنويا"، وبعد زمن لاحظ أن هذا الراتب كبير، فطالب الحكومة
بتخفيض راتب رئيس الدولة ورئيس الحكومة وبقية الوزراء، وبالفعل تم تقليص
راتب الحكومة والرؤساء الكبار بـمقدار ٣٧٪ عما كانوا يتقاضونه في السابق.
هل تعرف الشعوب في الخليج كم رواتب رؤسائها؟ وهل للرؤساء رواتب أم إن كل
مدخرات البلاد هي رواتبها ومخصصاتها وما يفيض يُعطى للشعوب؟ هل يمكن أن
تتجرأ الشعوب وتطالب بتخفيض مخصصات المسؤولين ورؤساء الوزراء، وإذا تجرأت
هل يمكنها أن ترى "الشمس"!
أليس ظلماً أن يقاس رجل يتقاضى راتبا بمعرفة شعبه بآخرين يموتون فيكتشف الناس أن ثرواتهم تفوق ميزانيات عشرات من الدول في العالم.
٤- "لى كوان يو" لا يملك قصراً خاصاً بل يسكن منزلا متوسطا ضمن مجمع سكني!
يقول الكاتب السعودي "نجيب الزامل" في زيارته لسنغافورة: قلت لصديقي
السائق كومار: "أريد أن أرى قصرَ الرئيس "لي كوان يو"؟"، لم يفهم كلمة
"قصر"، فقلت له: "(بيت) السيد لي كوان يو؟" وعند مجمع سكني عام أشار بيده
إلى المجمع وقال: هنا توجد "شقة" الرئيس!
ولك أن تتخيل أن هذا السؤال (أين قصر الرئيس) يوجه لسائق تاكسي في دول الخليج؟
الحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال يحتاج إلى توفر كمية كبيرة ومحددة من
المعلومات، على سبيل المثال: في أي مدينة؟ وفي أي حي؟ وفي أي شارع؟ ليتمكن
بعدها سائق التكسي للإجابة على سؤال من مثل (أين قصر الرئيس)؟ وقبل هذه
الإجابات: لماذا تسأل عن قصر الرئيس؟
٥- ومن أهم الأسئلة التي يجب ألا نتجاوزها حين نقارن أنفسنا بالرئيس السنغافوري هو: كيف يختار الرئيس وزراءه؟
يؤمن الرئيس السنغافوري بأن الوزير الخطأ " الغلطة " والمسؤول الغير مؤهل
هو أعظم معيق للتنمية، لذلك يخضع معظم وزراءه لاختبارات نفسية مصممة لتحديد
أهليتهم وقدراتهم العقلية والصحية، وكذلك يقيم المناظرات العلنية بين
المرشحين، لتظهر قدراتهم أمام الشعب، ثم ليتحمل أفراده تبعات هذا الاختيار!
رئيس لديه مثل هذه الرؤية في اختيار وزراءه هل يمكن أن يشبهه رئيس واحد في
الخليج ممن يختار مسؤليه ووزراءه بناء على الاسم الأخير للعائلة أو بمقدر
التزلف والولاء والنفاق ..! وليس للشعب إلا انتظار ما يُتلى عليه في
الإذاعة من التعيينات دون أدنى حول أو قوة أو إرادة ! وإذا ما حدثت قارعة
من وزير أو فشل في وزارته، تفاوت العقاب مابين أن يعين في وزارة أخرى .. أو
يعين سفيراً أو مستشاراً!
٦- يطبق الرئيس السنغافوري مبدأ "من أين لك هذا"، ويسمح لأجهزة الرقابة
بمتابعة حسابات الوزراء وإمكانياتهم المالية، ومن يثبت عليه الثراء المفاجئ
الذي يتجاوز إمكاناته المالية يحيله للمحاسبة والقضاء الصارم ولا يتساهل
مع مثل هذه الجرائم الوطنية.
وفي الخليج لا تسأل عن الأعطيات والهبات .. عن القصور والأراضي والمشاريع
التي توهب للوزراء .. عن الأرصدة البنكية الضخمة والشرهات والعيديات! وفي
المقابل شعب يرجو تخفيض أسعار الحليب!
هل يمكن بعد هذا مقارنة هؤلاء الرؤساء الذين ضيقوا على الناس في كل شيء
برئيس أكثر ما لوحظ عليه التضييق في مجال الإعلام "في فترة زمنية محددة"،
كما قال خوفاً من الاستعجال في نقده ومن ثم الانحراف بحلمه في بناء الوطن
الساحر الذي خطط له.
ثانياً: جانب الشعب:
١- توفر الحكومة السنغافورية للمواطن السنغافوري جملة من الحقوق لا يشكو
من نقصها الناس .. فالجميع وبالتساوي لهم الحق في التعليم والعمل والعلاج
والعدالة والأمن والأمان ورغد العيش! لكل سنغافوري "بيت" لا يحمل همه ولا
يعيش حياته مقترضاً من البنك لأجله، ولا تحت رحمة كبار مافيا الأراضي! من
يمرض لابد وأن يعالج .. لا أن تقول له المستشفيات التي تسير من تحتها آبار
النفط "لا يوجد سرير"!
فما الذي يتوفر للشعوب في الخليج ..؟
٢- سنغافورة الأقل فساداً في العالم، لا يوجد بها أحياء فقيرة، الفرد في
سنغفاورة لديه أعلى معدل دخل في آسيا بعد اليابان والبطالة عندهم "صفر"،
جميع فرص التربية والتعليم والعمل متاحة! كم نسبة الفقراء والبطالة في
الخليج؟ كم معدل دخل الفرد؟
٣- الشعب السنغافوري كما ذكرت سابقاً، يساهم في اختيار الوزراء والنواب
والمسؤولين، فلا مراسيم ملكيه .. ولا شعب يدعو بالبطانة الصالحة.. شعب
يختار .. ويسمع ويحلل مناظرات المسؤولين التلفزيونية .. ثم يرى من هو
الأفضل والأجدر بالمنصب، وحين يرشح وزيراً ويتبين له بأن هذا المنصب قد
أغراه وحرفه عن مهمته، فأخل بعمله أو ضبط برشوة، فإن عصا القانون لا ترحمه
ويشهر به في الجرائد ويحاكم علانية .. وليس هناك شيء اسمه "بناء على طلبه"!
٤- النظام القضائي في سنغفاورة من أفضل الأنظمة ويتسم بالعدالة وإحقاق
الحق، ولا يُعطل بالواسطة أو نفوذ العائلة، وأي شخصية في الدولة مهما علت
رتبتها يمكن ملاحقتها قانونياً إذا ثبت عليها ارتكاب ما يخالف القانون
والإضرار بالصالح العام وحده الرئيس يتمتع بحصانة أثناء فترة عمله.
ولا يمكن أن يعتقل "الفرد" اعتباطا دون أمر من النيابة العامة أو
المحكمة.. ويوضع على ذمة التحقيق فترة زمنية محددة، فإذا ثبتت براءته يخرج
مباشرة، لا أن يبقى عشرات السنين بلا تهمة ولا محاكمة.
القانون كذلك لا يحابي ذوي السنحة الشقراء ولا يمكن العفو عنه باتصال من
سفارة بلده في المكان الذي يسكنه، ففي عام 1994 تم ضرب طالب أمريكي بالعصا
لقيامه بالعبث في سيارات آخرين، وانزعجت السلطات الأمريكية لهذا التصرف،
وكان الرد الحاسم أن القانون السنغافوري يسري على الجميع.
٥- الشعب السنغافوري متعدد الأعراق فيهم الصيني والمالاوي والهندي وغيرهم
.. وبأرضهم الإسلام والبوذية وغيرها، كلهم تحت القانون سواسية .. كلهم
متساوون في الفرص الوظيفية، من يتعامل مع غيره على أساس "عرقي" أو "طائفي"
لن يرحمه القانون! وينزل به أشد العقوبات .. لا يتسامح القانون مع الطائفية
والعنصرية أبداً وقد سماهم الرئيس من قبل "أمة سنغافورية واحدة"!
ثالثاً، علاقة الحاكم بالشعب:
١- الرئيس الكوري "روه ثاي ووه" سأل "لي كوان يو": كيف استطعت البقاء في
السلطة طيلة هذه المدة ٣٠ سنة والفوز بالانتخابات المتعاقبة؟ فأجاب: "الشعب
يعرف أنني لا أكذب وأنني مخلص في السعي لتحقيق مصالحه، الناس العاديون
يعرفون الجدير بثقتهم، لم أقل شيئا لم أؤمن به، وأدرك الناس بالتدريج أنني
صادق ومخلص وأمين، وهذا هو مصدر القوة التي أتمتع بها".
٢- في كتابه من العالم الثالث إلى العالم الأول"، يحكي (لي كوان يو) بعض
التحديات التي واجهته في بناء الدولة فقال: (إنني أرسلت مخاطباً ومستجدياً
جميع من تربطني بهم علاقة طيبة من رؤساء الدول ممن لهم جيوشٌ قوية، أعرض
عليهم المساعدة في إرسال مستشارين ومدربين ليقوموا بمساعدتنا في إعداد
قواتنا المسلحة، حتى نتخلص من تدخل ماليزيا في شؤوننا الداخلية، وكان فيمن
كتبت لهم طالباً المساعدة، الرئيس المصري جمال عبد الناصر ورئيس الوزراء
الهندي لآل بهادور شستري، فجاءتني ردودهما تقول: "نتمنى لكم التوفيق!!")
ولم يجبنا بالموافقة إلا "السفير" الإسرائيلي في بانكوك مردخاي كيدرون، على
الرغم من رفضنا طلبه في فتح قنصلية إسرائيلية في سنغافورة بسبب خوفنا من
ماليزيا).
ومع ذلك هل تعرف كيف تعاملت سنغافورة مع إسرائيل ولماذا؟
صوتت سنغافورة على إدانة الجرائم التي ترتكبها "إسرائيل" في غزة، كما أشار
لذلك الكاتب سعد دليهي ثم حكي لقاءه مع بعض الشباب الكويتي بوزير الدولة
للشؤون الخارجية زين العابدين رشيد، فقال: "نعلم أن الفضل في إعداد الجيش
السنغافوري وبنائه من الصفر يعود لإسرائيل، وأن العلاقة بين إسرائيل
وسنغافورة متينة جداً، وأنهم أصحاب فضل -كما يقال- في بناء سنغافورة
الحديثة، هنا يصبح وقوف سنغافورة مع الحق الفلسطيني مستغرباً، وهو مما قد
يعتبر نكراناً للجميل الإسرائيلي، خصوصا أن سنغافورة لا تربطها بفلسطين لا
عروبة ولا إسلام. فسألناه عن سبب هذا الموقف وما هي مصلحتهم فيه؟
فأجابنا: "لأن المبادئ الإنسانية كانت واضحة جداً، والتعدي الإسرائيلي كان
واضحاً، فقلنا لإسرائيل: لا!َ ولو لم نفعل ذلك لربما خسرنا ثقة شعبنا"!
وفي موقف آخر قال: "نحن نعبر عن قيم شعبنا ولا يمكن مخالفته"!
لاحظوا .. الوزراء يفكرون في خسارة ثقة الشعب ويعبرون عن تطلعات شعوبهم!
فهل يفكر الوزراء في الخليج في مسألة ثقة شعوبهم إن كان هناك ثقة أصلاً ؟
رابعاً، حال النظام اليوم في مجال الحريات:
لابد من الاعتراف ابتداء أن السلطات السنغافورية عام ١٩٩٦ كانت تحجب ما
كان يتعارض مع توجهات الدولة، وبرر "لي كوان يو" في أماكن كثيرة هذا
الموقف، وسواء اتفقنا معه أو اختلفنا في هذه القضية إلا أن الحال اليوم
مختلف تماماً عما كان عليه في الماضي!
فالسلطات السنغافورية سمحت للمعارضة والأحزاب السياسية عام ٢٠٠٩ استخدام
الإعلام الجديد والشبكات الاجتماعية بالترويج عن برامجها، وهو ما كان
ممنوعاً عام ٢٠٠٦، بل إن التلفزيون الرسمي أصبح يسمح بإقامة المناظرات
السياسة مع المعارضة وينقلها تلفزيونيا للشعب السنغافوري. وهناك تراخي لا
بأس به في الإعلام في مسائل النقد والاعتراضات على مواقف الحكومة.
وقبل شهرين فقط، سادت حالة من الغضب العارم ضد ارتفاع أسعار العقار
والازدحام المروري الذي يتهم فيه السنغافوريون المستثمرين القادمين من
الصين وكذلك أبناء الجالية الصينية الكبيرة، وعلى الرغم حساسية هذا
الموضوع، فقد ظهر جزء من هذا النقد في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعية،
وأجبرت الحكومة السنغافورية المثول أمام البرلمان والإجابة على مثل هذه
الاعتراضات، ثم ترجمت هذا إلى عمل وقامت بتخفيض نسبة المهاجرين إلى الثلثين
عنه في عام ٢٠٠٨!
حتى مع التضييق في حرية الإعلام، فلا يجب علينا أن نتعامى عن الطريقة الحديثة التي تعاملت بها الحكومة السنغافورية مع أصحاب الرأي.
يقول الصحفي "كيريان جورج" الكاتب في جريدة "ستريتس تايمز": "إن حزب العمل
الشعبي الحاكم يتجنب قمع أصحاب الأقلام والرأي، ويحاول دائماً الوصول إلى
حلول ودية وحوار ونقاش مع المعارضة وأصحاب الرأي الناقد للحكومة. ويرى أن
الرقابة الصارمة بعد ظهور جيل المدونات الإلكترونية والشبكات الاجتماعية
تغاضت السلطات كثيراً عما كانت تفعله في الماضي مع الصحف المطبوعة في
الداخل".
فأي مقارنة فاسدة يريد تمريرها "الليبروجامي" بين حكومات تلقي
بالمخالفين في المعتقلات لعشرات السنين أو تنزع جنسياتهم بتهمة الخيانة
لمطالب سياسية بحكومة تسعى للوصول إلى حلول ودية مع المعارضين!
بعد هذا كله، لابد أن نقول إن ذريعة سنغافورة ومسألة "الاستبداد والتنمية"
ما عادت لها قيمة اليوم بعد أن اختارت الحزب الحاكم تعديل الأوضاع والسير
في طريق الحرية والديمقراطية خياراً لامناص عنه لاستدامة التنمية .. ولم
تتصلب الحكومة أمام إرادة الشعب ،، وخير دليل على ذلك:
ما جرى في الانتخابات الأخيرة حيث دخلت المعارضة في تنافس مع "حزب العمل
الشعبي" المسيطر على الحكم منذ ١٩٥٩، وظفرت بوزارة الخارجية، ورغم أن
النتائج جاءت في صالح الحزب الحاكم بحصد ٨١ مقعد من أصل ٨٧ في البرلمان،
إلا أن رئيس الحكومة الحالي "لي سيين لونغ" يراها أسوأ نتيجة منى بها الحزب
في تأريخه، فنسبة من صوت له كانت ٦٠٪ فقط من المقترعين!
لذلك وصف رئيس الوزراء "لي هسين لونغ" نتائج الانتخابات بأنها "نقطة
تحول"، وأضاف خلال مؤتمر صحفي: "تشير هذه الانتخابات إلى تغير بارز في
المشهد السياسي نحن نعلم أن العديد من الناس يريدون أن تتبنى الحكومة
أسلوبا مختلفا، ويرغب العديد منهم في سماع المزيد من الأصوات المعارضة في
البرلمان لمراقبة حكومة حزب العمل الشعبي".
وقد لاحظت الحكومة أن حظ الحزب الحاكم في السنوات الآخيرة يزداد تراجعاً،
وهو درس وإشارة فهمها الحزب .. فهو يعرف معنى أن يحصد مؤخراً (٦٠ ٪) مقابل
(٦٧ ٪) عام ٢٠٠٦، و (٧٥ ٪ ) عام ٢٠٠١!
ومع كل ما قدمه هذا الحزب للشعب السنغافوري من إنجازات، كان كل انتخاب
جديد يأتي للحزب الحاكم بنسبة أقل من سابقه ويقدم المعارضة خطوة للأمام،
لأن إرادة التغيير والرغبة في مزيد من الحرية ملكتا الشعب السنغافوري..
فماذا كان موقف "الرئاسة"؟
إنه القرار الشجاع .. الشعب السنغافوري قبل مصالح الفرد ..
أقدم "لي كوان يو" الباني الحقيقي لسنغافورة وخليفته "غوة تشوك تونغ" بعد
إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة وانخفاض نسبة المصوتين لحزبه، بالإعلان عبر
بيان مشترك عن انسحابهما من الحياة السياسية! وقالا: حان الوقت لينخرط
السنغافوريون في إدارة سياسة البلاد!
وتفسر "ليندا يون جيم ليم"، أستاذة التجارة الدولية في جامعة مشيغان، مثل
هذا الموقف بقولها: "إن سنغافورة تسير نحو الديمقراطية ووجود الحزب الواحد
في الحكومة قد أسهم فعلاً في بناء التنمية ابتداء. لكن إطالة أمده مشكلة،
عندما يصبح الناس أغنى وأرفع مستوى تربويا، عندها يجب أنْ يكون أمامهم
بدائل سياسية مختلفة، فإذا قلنا إن حزبا واحدا في سنغافورة حكم لمدة 25
عاماً فهذه ليست مشكلة، لكن لو استمر لأكثر من أربعين أو خمسين عاماً،
أعتقد أنها مدة طويلة جداً .
فهل يستطيع أن يفعلها حكام الخليج، وهم أكثر من يعلم بأن شعوبهم تعاني
منهم ومن استبدادهم وأنانيتهم وتبديد ثروات بلادهم على أنفسهم وأبناءهم ..!
ختاماً:
من يجعل "الوطن" فوق مصالحه منذ بداية حكمه يصح في حاله نقاش "الإستبداد
مع تنمية"، لكن من يجعل مصالحه فوق مصالح وطنه وشعبه .. من يظن أنه يملك
الأرض ومن فوقها وتحتها، فالحديث معه عن "الاستبداد والتنمية" هو حديث عن
تنظيف ليس أسنان التمساح بل موضع القذارة فيه وذر للرماد في العيون.. تضليل
ووقاحة من الزقزاق ..ربما يصرخ الآن في التمساح .. ربما رأى صيادا..
2012-9-3 |
بقلم: سلطان الجميري /
مدون وكاتب من السعودية
مدون وكاتب من السعودية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..