عندما نتحدث عمّا بعد الحداثة post- modernism فإننا نتحدث عن تلك الفلسفة التي تجلس على عرش العالم اليوم وتحكمه وتفرض عليه رؤاها وفكرها وسيطرتها.
ومن يخالفها فإنها تقصيه وتعزله ثم تعود إليه وتحاربه وتحاول كسر عظمه، فهي لا تقبل الهدنة ولا أنصاف الحلول.
أجدني مضطراً هنا للعودة لبعض ما كتبت في السابق عن تاريخ الفلسفة، وأنني جعلت الفلسفة رحلة سفر ابتدأت في الماضي وانتهت اليوم.
وأن كل مذهب وجد وكل فكر فيلسوف كـُـتب لا يخرج عن ثلاث صور مهما كثرت الأسماء: المادية التي لا ترى شيئاً وراء المادة، والمثالية التي تؤمن بالعالم المتعالي والخير والقيم، والسفسطائية التي تتشكك في كل شيء وتقول إننا غير قادرين أصلاً أن نصل لأي معرفة من أي نوع كان.
إذا تصورنا هذا، فأين نضع ما بعد الحداثة بصورتها الغربية التي تحكم العالم اليوم؟
سأختصر الطريق وأقول إنها سفسطائية حتى النخاع.
إنها فلسفة عدمية عبثية ترى أن الإنسان معيار كل شيء.
بعض من يحسنون الظن يقولون إن ما بعد الحداثة جاءت ناقدة لفلسفة الحداثة الغربية التي جعلت من الإنسان إلهاً –تعالى الله– يحكم الكون. القول بأنها ضد الحداثة هو غرور محض.
فما بعد الحداثة ليست هدماً للحداثة، بل هي إتمام وتكميل لمشروعها الفكري، وذلك بأن قامت بقتل ذلك الإنسان الذي جعلته الحداثة الغربية إلهاً يشرّع ويحكم.
إذا قلنا إن ما بعد الحداثة قد قتلت الإنسان وأسقطته عن عرشه، فلنا أن نسأل: من وضعت مكانه؟ الجواب أنها وضعت الطبيعة حاكماً على كل شيء. وتأليه الطبيعة يعني رفض أي شيء ما وراء الطبيعة، وأنه لا يوجد معرفة فيما وراء حواسنا الخمس، فلا إله ولا روح ولا عقل كلياً خلف الظواهر التي نشاهدها صباح مساء.
كيف يكون في ذلك قتلٌ للإنسان؟ لأن ما بعد الحداثة جعلت المعرفة ذاتية.
ما معنى ذاتية المعرفة؟ معناه أن ما أعرفه أنا غير ما تعرفه أنت، بحيث يتم حبس كل واحد منا في بوتقته الخاصة، فلا يمكننا أن نجتمع على شيء يمكن أن نسميه معرفة مشتركة، فلا نقول مجتمعين: هذا خير، وهذا شر.
هذا معناه أن البشر سينقادون للتشكك في أكثر الأشياء بداهة، كأن يشك في الوجود كله، فيقول لك إنه عندما يكون نائماً ويحلم، كان يتصور أن تلك الأحداث التي رآها في المنام حقيقية، ثم بانت غير حقيقية، فلمَ لا تكون هذه الحياة كلها مجرد حلم طويل جداً؟! إذن فهذا العالم والوجود كله عدم، ولو كان موجوداً حقيقة لما أمكنت معرفته بحال من الأحوال، وإذا أمكنت معرفته فإنه من المستحيل إيصاله للآخرين بحيث يكون لدينا تواصل معرفي ومعرفة مشتركة.
هكذا يُقتل الإنسان بعزله في بوتقته. هذا ما توصل إليه السفسطة وهي مقولة ما بعد حداثية بامتياز.
وإذا سقطت المعرفة المشتركة، سقطت معها كل التشريعات الدينية والقوانين الأخلاقية المشتركة، فلا دين ولا قيم ولا أخلاق يرضخ لها الناس جميعاً. وإذا سقط قانون العدل بين الناس فمن سيحكمهم من وجهة نظر البوتقة؟ إنه السوبرمان (ubermensch) الذي نادى بقيامه فيلسوف ما بعد الحداثة نيتشه، المتمثل في القوى السياسية الغربية التي تحكم العالم، والضعيف يجب عليه أن يرضخ ويذعن لعلاقة السيد والعبد.
وإذا سقط العدل كقيمة فمن حق السوبرمان أن يفعل بالضعيف أي شيء يشاؤه.
إذا سقطت كل القيم فما هو المحرك للسلوك الإنساني المقبول في زمن الحداثة؟ المحرك هو الأنانية المطلقة، وإذا التقيت في مجتمع ما بعد حداثي بشاب طيب يتعامل معك بأخلاق حسنة خيّرة، فإن هذا لا يعني بتاتاً أن الخير هو الفطرة في بني الإنسان، بل يمكن حصر ذلك في سببين، فهو إما بسبب تكوينه النفسي الخاص به الذي يجعله يميل لمثل هذا السلوك، وما يحقق له ذلك من لذة خاصة عندما يقوم بدور الشخص الأخلاقي الخيّر، أو بسبب التربية والتنشئة الاجتماعية.
(للحديث بقية)
خالد الغنامي |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..