تحدثت
في مقالتين سابقتين عن الحياة في زمن ما بعد الحداثة، وقلت إن الكرة
الأرضية قد أصبحت مثل بوتقة المختبر التي تـُـطبخ فيها كل عناصر الكون بحيث
يصير كل شيء يشبه بعضه بعضاً في صورة جديدة تـُـفرض على كل العناصر.
هذه البوتقة لا تؤمن بأي دين ولا قيمة ولا خلق ولا مبدأ سوى مبدأ القوة على طريقة نتشة، الذي دعا لإعدام كل مريض ومعاق. لا شيء يوجد خارج إطار القوة التي تفرض القبول البراجماتي للوضع القائم والخضوع بين يديه والتكيف معه. والمعرفة لا يمكن الحصول عليها خارج إطار علاقات القوة، ومن يتمكن من الحصول على القوة يحصل على كل شيء.
هل أصبحت القوة هي مركز الكون؟
الجواب هو لا. القوة ليست بمركز، بل مجموعة من العلاقات التي تتسرب للنظام في كل طبقاته. فعالم البوتقة ليس مثل سابقه الزمن الحداثي الذي كان بمركز وغاية وتراتب هرمي، فالبوتقة نظام بلا مركز وأنظمته صغيرة يدور كل واحد منها حول ذاته.
هل هناك أخلاق؟
الأخلاق في عالم البوتقة ليست سوى منظومة جمالية لا يوجد لها واقع ولا حقيقة ولا معيار، وكل جريمة تحدث في الكون وإن وصلت لذبح الشعوب من الوريد للوريد وبأعداد يصعب إحصاؤها، هي في هذا العالم مبررة لأنه -ببساطة- لا يوجد معيار يحكم.
ماذا عن الحقيقة؟
لقد أصبح كل شيء نسبياً في بوتقة ما بعد الحداثة، فأصبح القول الشائع هو أن الوصول للمعرفة مستحيل، لأنه لم يعد لها أصل إلهي ولا إنساني ولا حتى طبيعي. وكل منظري البوتقة يرفضون فكرة الحقيقة الكلية من أساسها، وكذا النظام والمنطق. والسؤال عن الحقيقة نفسه يعدّ نوعاً من الرجعية والنكوص لعالم الميتافيزيقيا (عالم ما وراء الطبيعة)، إذ لا توجد إلا حقائق جزئية صغيرة وقصص مرتبطة بزمان ومكان، ومن يدعي امتلاك الحقيقة يمارس نوعاً من الإرهاب والشمولية.
هل هناك نظام من أي نوع؟
أيديولوجيا ما بعد الحداثة ثورية تحكم العالم بحتميات صارمة، وهي لا تؤمن بمبدأ السببية، بل ترى أن كل ما يحدث مجرد صدفة وتعاطٍ مع واقع هذه الصدفة بحسب إملاءات اللحظة.
هل هذه هي الحرية التي طالما طاردها الإنسان؟
يتخيل إنسان البوتقة الجديدة أنه يعيش في حرية مطلقة كاملة. ولو تنازلنا ونظرنا في حريته تلك لوجدناها حرية في سياقها الخاص وعالمها الضئيل، وأنه عندما يخرج الإنسان محاولاً التواصل مع العالم خارج هذا النطاق فإنه يكتشف بشاعة الأصفاد التي تكبله منذ البداية. والحقيقة التي قد غابت عنه هي أنه سجين في أضيق السجون، ملقى به، مرميّ هناك في قفص حديدي تتحكم فيه الآلة ويفتك به الاستهلاك الذي يمتص كل قوته وكل ما يحصل عليه ثم يُلقى به في سريره في نهاية اليوم لكي يستعد هذا الجسد المنهك المستهلك ليوم جديد من استغلال جسده وصحته، فيبقى أرِقاً متسائلاً عن الجدوى من العيش في هذا التشرذم والتبعثر الذي يشعر به معظم الوقت في دوامة البوتقة، حيث ليس له مركز ولا هدف ولا غاية. هو بحاجة دائمة لأسباب وإن كانت ضعيفة لكي يستمر في ذلك النمط من العيش بدلاً من الانتحار. فبوتقة ما بعد الحداثة معادية للإنسان ومنكرة له ومنكرة لمركزيته، حتى إن ميشيل فوكو أحد المنظرين المشهورين قد قال بفكرة بقاء العالم وانقراض الإنسان!
ماذا عن التاريخ؟
البوتقة لا تعرف من التاريخ إلا أنه تاريخاني، فلو أنك حاولت استحضار مرجعية دينية أو فكرية لقالت لك نعم لقد كان هذا جيداً في وقته، لقد كان جيداً في زمنه، أما الآن فقد تجاوزه التاريخ. هنا فقد الإنسان ذاكرته ونسي التاريخ فلم تبقَ له سوى جمل عابرة لا يجمعها منطق، ونسي ما هو أهم من ذلك، نسي (الشعور بالتاريخ) فلم تبقَ له قدرة على الشعور بشيء سوى الحاضر في صورته الجامدة المعزولة عن الماضي وكذا المستقبل. وكيف له أن يفكر في مستقبل في بوتقة رجعية ترفض التغيير وترفض المعرفة الموصلة له وتسعى للتجهيل والتزييف بكل قوتها. عالم البوتقة هو عالم ما بعد التاريخ وما بعد الإنسانية وما بعد السببية وما بعد الميتافيزيقيا وما بعد التفسير، بل هو عالم يسعى لأن يكون نهاية كل شيء.
هل لدينا مقاومة؟
نعم وبكل تأكيد، لدينا الإسلام المنتشر بطول وعرض هذا العالم، ولدينا قلبه المتمثل في جزيرة الإسلام الراعية له، فهو الواقف الصامد الوحيد في وجه هذه المعادلة الصعبة. وبقدر ما يكون اعتزازنا بهذا الدين الحنيف تكون فرصنا في الفوز أكبر.
خالد الغنامي
...............
الشرق
هذه البوتقة لا تؤمن بأي دين ولا قيمة ولا خلق ولا مبدأ سوى مبدأ القوة على طريقة نتشة، الذي دعا لإعدام كل مريض ومعاق. لا شيء يوجد خارج إطار القوة التي تفرض القبول البراجماتي للوضع القائم والخضوع بين يديه والتكيف معه. والمعرفة لا يمكن الحصول عليها خارج إطار علاقات القوة، ومن يتمكن من الحصول على القوة يحصل على كل شيء.
هل أصبحت القوة هي مركز الكون؟
الجواب هو لا. القوة ليست بمركز، بل مجموعة من العلاقات التي تتسرب للنظام في كل طبقاته. فعالم البوتقة ليس مثل سابقه الزمن الحداثي الذي كان بمركز وغاية وتراتب هرمي، فالبوتقة نظام بلا مركز وأنظمته صغيرة يدور كل واحد منها حول ذاته.
هل هناك أخلاق؟
الأخلاق في عالم البوتقة ليست سوى منظومة جمالية لا يوجد لها واقع ولا حقيقة ولا معيار، وكل جريمة تحدث في الكون وإن وصلت لذبح الشعوب من الوريد للوريد وبأعداد يصعب إحصاؤها، هي في هذا العالم مبررة لأنه -ببساطة- لا يوجد معيار يحكم.
ماذا عن الحقيقة؟
لقد أصبح كل شيء نسبياً في بوتقة ما بعد الحداثة، فأصبح القول الشائع هو أن الوصول للمعرفة مستحيل، لأنه لم يعد لها أصل إلهي ولا إنساني ولا حتى طبيعي. وكل منظري البوتقة يرفضون فكرة الحقيقة الكلية من أساسها، وكذا النظام والمنطق. والسؤال عن الحقيقة نفسه يعدّ نوعاً من الرجعية والنكوص لعالم الميتافيزيقيا (عالم ما وراء الطبيعة)، إذ لا توجد إلا حقائق جزئية صغيرة وقصص مرتبطة بزمان ومكان، ومن يدعي امتلاك الحقيقة يمارس نوعاً من الإرهاب والشمولية.
هل هناك نظام من أي نوع؟
أيديولوجيا ما بعد الحداثة ثورية تحكم العالم بحتميات صارمة، وهي لا تؤمن بمبدأ السببية، بل ترى أن كل ما يحدث مجرد صدفة وتعاطٍ مع واقع هذه الصدفة بحسب إملاءات اللحظة.
هل هذه هي الحرية التي طالما طاردها الإنسان؟
يتخيل إنسان البوتقة الجديدة أنه يعيش في حرية مطلقة كاملة. ولو تنازلنا ونظرنا في حريته تلك لوجدناها حرية في سياقها الخاص وعالمها الضئيل، وأنه عندما يخرج الإنسان محاولاً التواصل مع العالم خارج هذا النطاق فإنه يكتشف بشاعة الأصفاد التي تكبله منذ البداية. والحقيقة التي قد غابت عنه هي أنه سجين في أضيق السجون، ملقى به، مرميّ هناك في قفص حديدي تتحكم فيه الآلة ويفتك به الاستهلاك الذي يمتص كل قوته وكل ما يحصل عليه ثم يُلقى به في سريره في نهاية اليوم لكي يستعد هذا الجسد المنهك المستهلك ليوم جديد من استغلال جسده وصحته، فيبقى أرِقاً متسائلاً عن الجدوى من العيش في هذا التشرذم والتبعثر الذي يشعر به معظم الوقت في دوامة البوتقة، حيث ليس له مركز ولا هدف ولا غاية. هو بحاجة دائمة لأسباب وإن كانت ضعيفة لكي يستمر في ذلك النمط من العيش بدلاً من الانتحار. فبوتقة ما بعد الحداثة معادية للإنسان ومنكرة له ومنكرة لمركزيته، حتى إن ميشيل فوكو أحد المنظرين المشهورين قد قال بفكرة بقاء العالم وانقراض الإنسان!
ماذا عن التاريخ؟
البوتقة لا تعرف من التاريخ إلا أنه تاريخاني، فلو أنك حاولت استحضار مرجعية دينية أو فكرية لقالت لك نعم لقد كان هذا جيداً في وقته، لقد كان جيداً في زمنه، أما الآن فقد تجاوزه التاريخ. هنا فقد الإنسان ذاكرته ونسي التاريخ فلم تبقَ له سوى جمل عابرة لا يجمعها منطق، ونسي ما هو أهم من ذلك، نسي (الشعور بالتاريخ) فلم تبقَ له قدرة على الشعور بشيء سوى الحاضر في صورته الجامدة المعزولة عن الماضي وكذا المستقبل. وكيف له أن يفكر في مستقبل في بوتقة رجعية ترفض التغيير وترفض المعرفة الموصلة له وتسعى للتجهيل والتزييف بكل قوتها. عالم البوتقة هو عالم ما بعد التاريخ وما بعد الإنسانية وما بعد السببية وما بعد الميتافيزيقيا وما بعد التفسير، بل هو عالم يسعى لأن يكون نهاية كل شيء.
هل لدينا مقاومة؟
نعم وبكل تأكيد، لدينا الإسلام المنتشر بطول وعرض هذا العالم، ولدينا قلبه المتمثل في جزيرة الإسلام الراعية له، فهو الواقف الصامد الوحيد في وجه هذه المعادلة الصعبة. وبقدر ما يكون اعتزازنا بهذا الدين الحنيف تكون فرصنا في الفوز أكبر.
خالد الغنامي
...............
الشرق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..