ذكرنا في المقال السابق
أن المحدد الذي على أساسه نفصل بين التنوير الإسلامي وبين مذاهب الفقهاء السائغة،
أن رجال هذا التيار قاموا بعملية مواءمة وتوفيق بين مفاهيم التنوير الغربي
العلماني وبين نصوص الوحي والشريعة، وأنهم في عملية التوفيق هذه أضاعوا قطعيات من
الشريعة وخالفوها؛ إما بقبول باطل، وإما برد حق، فكانت مخالفة القطعي، بقبول ما هو
باطل من المفاهيم الغربية، أو برد ما هو ثابت قطعي من الدين؛ هي الموجب لتصنيفهم
على الصورة السابق ذكرها.
والواقع أن العامل
الأساسي الذي يُخرج عملية التوفيق هذه عن مسارها الصحيح ويؤدي إلى تضييع القطعيات،
هو قبول الباطل، وهو الذي يؤدي بعد ذلك إلى رد الحق، وأكثر هذا الباطل الذي
يتورّطون في قبوله يكون مُحملاً بمضامين علمانية لا ينتبهون إليها، ما يؤدي
لاستحالة التوفيق بينه وبين الوحي الصحيح إلا بتضييع شيء من الدين الحق، فاستبطان
مضامين علمانية بصورة لا شعورية هو أساس الضلالة في التنوير الإسلامي.
وسنفرد لهذه المضامين
العلمانية عدداً من المقالات تُجليها على النحو الذي يُرشد للحق ويُضِلُ عن
الباطل، ويهتدي به إخواننا التنويريون إن شاء الله. وحديثنا في هذه المقالة هو عن
الشرعية السياسية في التنوير الغربي العلماني، وطريقة استقبال التنوير الإسلامي
لها، والمضمون العلماني الكامن خلف طرح التنوير الإسلامي لمفهوم الشرعية، وقطعيات
الوحي التي أهدرها الطرح التنويري.
(1) مفهوم الشرعية
السياسية في التنوير العلماني:
يُعد فكر الأنوار فكراً
إنسياً بامتياز؛ أي أنه يقوم على مركزية الإنسان في الكون كمقابل للمركزيات
اللاهوتية السابقة عليه، وهذا الأفق القيمي الإنساني هو الذي تشكلت فيه المـُثل
السياسية التنويرية؛ فالأفكار السياسية التي تنشأ في عصر معين تتصل بشكل وثيق
بمنظومة الأفكار العامة التي تسيطر على هذا العصر، وهو ما عبر عنه هنري ميشيل
أستاذ كرسي الأفكار السياسية في السوربون بقوله: «إن الإنسان لا يُكَوّن عن
العلاقات التي يجب أن توجد في الدولة فكرة مستقلة عن تلك التي يتبناها حول الحياة
الأخلاقية، وحول معنى الكون وهدفه»[1].
من هنا كانت مكونات
الشرعية السياسية، والتي يُقصد بها القيم التي يمكنها أن تُضفي طابعاً شرعياً على
طاعة الحكام وتُرسي أُسس الإلزام السياسي؛ مستمدة كلها من هذا الفضاء الإنسي، بحيث
لا تبقى الدولة في خدمة المشيئة الإلهية كما كانت في العصور الوسطى، وإنما ليُصبح
هدفها العمل على تحقيق رفاه مواطنيها.
يقول جون لوك: «الدولة –
حسب ما أعتقد - هي جماعة من الناس تكونت من أجل هدف واحد هو تحقيق مصالحهم المدنية
والحفاظ عليها والارتقاء بها إلى الأحسن. وأقصد بالمصالح المدنية الحياة والحرية
وصحة الجسم وامتلاك الخيرات الخارجية مثل المال والأراضي والمنازل والأثاث وما
شابه ذلك»[2].
وعليه، فلا يخضع أولئك
المواطنون لأي وصاية خارجة عن إراداتهم، ولا ينقادون طوعاً إلا إلى القوانين
والقيم والقواعد التي يرغبون هم بالذات فيها، وبهذا صار الشعب هو مصدر الشرعية
السياسية، وصارت السلطة العليا التي تُكسب الشرعية وتنزعها هي الإرادة العامة فيما
عُرف بمبدأ السيادة.
إن أساس الفكر السياسي في
التنوير الغربي العلماني كما يقول تودوروف هو «التخلي عن الله بقيام دول حديثة على
أسس بشرية خالصة»[3].
وقد أنتج جعل الإنسان،
مُمَثلاً في الإرادة الشعبية العامة، القيمة الرئيسية التي تستمد منها السلطة
السياسية شرعيتها؛ نتيجتين:
الأولى: أن كل سلطة لم
يخترها الشعب ولم يرضها فهي سلطة غير شرعية، ولا طاعة لها في ذمة الشعب.
الثانية: أنه وفقط:
«وحدها القوانين الصادرة عن الإرادة التشريعية للشعب من تستحق تسمية القوانين..
والقوانين لا تستمد شرعيتها من سلطة متعالية تضفي عليها طابع القداسة»[4].
يقول جون لوك في «الرسالة
الثانية حول الحكم المدني»: «الشعب وحده هو الذي يحق له تحديد مكونات الدولة عن
طريق تشكيل السلطة التشريعية واختيار من ستكون هذه السلطة بين أيديهم، وعندما يقول
الشعب: (سوف نخضع للقواعد وللحكم بموجب قوانين يضعها رجال كهؤلاء وبصيغ كهذه)؛ فإنه
لا يحق لأحد آخر القول بأنه يمكن لأشخاص آخرين وضع قوانين للشعب؛ كما أن الشعب ليس
ملزماً بأي قوانين عدا تلك التي وضعها أولئك الرجال الذين انتخبهم الناس وفوضوا سن
القوانين لهم».
وترتب على هذا أمران:
1- أن أي إلزام يأتي به
الوحي أو الكتاب المقدس لا يكتسب صفة القانونية إلا إذا اختاره الناس ليكون
قانوناً.
يقول توماس هوبز: «إنَّ
الكتابَ المقدسَ لا يصبحُ قانوناً إلَّا إذا جعلَتْهُ السُّلطةُ المدنيَّةُ
الشرعيَّةُ كذلِكَ»[5].
ويقول اسبينوزا: «إنَّ
الدينَ لا تكونُ لَهُ قوةُ القانونِ إلَّا بإرادةِ مَنْ لَهُ الحقُّ في الحكمِ»[6].
ويقول جون لوك: «هذه
السلطة التشريعية لا يمكن لأي مرسوم صادر عن أي جهة أخرى مهما كانت صبغته، ومهما
كانت القوة التي تدعمه؛ أن تكون له قوة القانون وإلزامه إذا لم يكن مُصادقاً عليه
من تلك السلطة التشريعية التي انتخبها وعينها الشعب؛ لأنه دون ذلك، فلا يمكن أن
يحوي القانون ما هو ضروري بصفة مطلقة لجعله قانوناً.. ومن ثم فإن كل طاعة يمكن
إلزام أي إنسان بها بأكثر الروابط احتراماً تنتهي عند هذه السلطة الرفيعة وتتوجه
وفق القوانين التي تسنها».
2- أن إقامة السلطة
لقانون لم يختره الناس تُعد استبداداً.
يقول كانط: «الحكومة
الاستبدادية هي التي ينفذ فيها رئيس الدولة تعسفياً القوانين التي وضعها على
مقاسه، ويحل بذلك إرادته الخاصة محل الإرادة العامة».
(2) مفهوم الشرعية
السياسية في التنوير الإسلامي:
تأثّر كثير من رجال تيار
التنوير الإسلامي بمفهوم الشرعية السياسية العلماني هذا تأثراً عظيماً أفضى بهم
إلى تضييع محكمات وثوابت من الدين، وأدى إلى أن يكون كلامهم الذي حاولوا به
التوفيق بين الوحي وبين النظرية التنويرية في الشرعية السياسية؛ مستبطِناً لمادة
علمانية فاسدة من حيث لا يشعرون.
ونبدأ بأن نسوق بعض
كلامهم الدال على تأثرهم بالمفهوم التنويري الغربي للشرعية السياسية:
يقول راشد الغنوشي معرفاً
الديمقراطية كما يرضاها: «هي جملة من التسويات والترتيبات الحسنة التي تتوافق
عليها النخب المختلفة؛ من أجل إدارة الشأن العام بشكل توافقي بعيداً عن القهر وعلى
أساس المساواة في المواطنة حقوقاً وواجبات، على اعتبار أن الوطن مملوك لكل سكانه
بالتساوي، مع التسليم بسلطة الرأي العام مصدراً لشرعية السلطة، وذلك بصرف النظر عن
نوع العقائد السائدة»[7].
يقول محمد الشنقيطي: «فلن
تقام أحكام الشريعة إلا إذا احتضنتها الغالبية من أبناء الشعب، وأصبحت تعبيراً
إجرائياً عن إرادة أمة حرة يلتزم بها جميع السياسيين طوعاً وكرهاً، كما هو شأن
الأحكام الدستورية والقانونية في دول الغرب اليوم».
ويقول: «إن بناء الدول
على أساس من قانون الفتح والتضامن العرقي (كما كان الحال في الإمبراطورية
الرومانية والمغولية)، أو على قانون الفتح وأخوة العقيدة (كما كان حال في
الإمبراطورية الإسلامية)؛ لم يعد مناسباً أخلاقياً، ولا ممكناً عملياً؛ فالدولة
المعاصرة لا تتأسس على الاشتراك في الدين أو العرق، بل على أساس الجغرافيا.. بل إن
العدل والمصلحة يكمنان اليوم في بناء دول ديمقراطية حرة يستوي فيها مواطنوها بغض
النظر عن المعتقد والعرق».
ويقول المالكي في عبارة
مقاربة لعبارة هابرماس السابق نقلها: «وليست وظيفة الشعب فلسفة وتنظيراً وتبرير
القيم والأفكار كما يتصور بعضهم، إنما وظيفته تنحصر في خلع السلطة والسيادة على
تلك القيم والأفكار وتحويلها من مجرد قناعات أخلاقية إلى قوانين دستورية سيادية
تطبيقية»[11].
وإذن فما يقرره المالكي
يشمل أنه حتى الوحي المقدس من دون اختيار الناس لا يتحول إلى قانون ملزم، وهذا
مطابق تماماً لما قرره هوبز واسبينوزا.
(3) استبطان المضمون
العلماني عند التنويريين الإسلاميين:
يركز عدد من أولئك
الباحثين جهده الفكري والإصلاحي على محاربة الاستبداد، وحكومات التغلب الظالمة،
ويركزون في طرحهم لفكرة الديمقراطية كنظام سياسي، على المقابلة بينها وبين حكومة
المستبد، وأن الديمقراطية في أسوأ أحوالها ستكون أقل شراً من الاستبداد؛ نظراً لما
تتيحه من فضاء للمعارضة وإمكانات لتغيير القوانين[12].
ولذلك يقرر عدد من
الباحثين التنويريين أن موجب الدخول في العملية الديمقراطية يقتضي حرمة الانقلاب
على خيار الأغلبية، ولو كان هذا الخيار فيه إهدار لتطبيق الشريعة، والاكتفاء بدعوة
العامة، بما يؤدي إلى تغيير خيار الأغلبية لصالح الشريعة بعد ذلك.
والواقع أن بناء الشرعية
السياسية عند التنويريين متأثر بنفس الفكرة العلمانية التي تجعل الشرعية السياسية
للنظام الحاكم مستمدة من تعاقد متبادل بين الأفراد وبين النظام الحاكم يعطيهم
النظام الحاكم فيه حقوقهم ولا يتعدى على حرياتهم الفردية مقابل حق الطاعة، دون
استحضار لأي مرجعية متجاوزة؛ لأن التأسيس التنويري للنظرية السياسية الغربية كان
علمانياً.
ولذلك، لما أخذ
التنويريون هذا التصور العلماني لم تكن إقامة كتاب الله في الناس جزءاً من مكونات
الشرعية السياسية عند كثير منهم[13]، ومن ثم لم يعدوا النظام
الذي اختاره الشعب ونحى فيه الشريعة فاقداً للشرعية السياسية؛ لأنهم سبق وأطروا
الشرعية السياسية بنفس الإطار العلماني الذي يراعي فقط الحقوق المدنية للشعب، ما
انبنى عليه تصحيحهم لإتيان الديمقراطية بغير الشريعة من جهة الشرعية؛ لأن ذلك لم
يخرج عن مقتضى التعاقد، فيبقى هذا النظام المعرض عن الشريعة نظاماً سياسياً شرعياً
يُمنع الخروج عليه.. هذا القدر بالضبط هو المضمون العلماني الذي يستبطنه
التنويريون في تنظيرهم السياسي.
ثم تورط بعضهم، كعبد الله
المالكي، في محاولته الجمع بين هذا التقرير وبين تقريره لإلزامية الشريعة، فقال:
إن هذا الطرح منهم إنما هو تقرير للشرعية السياسية لا الدينية، ومثله تصور نواف
القديمي أن السلفيين ينزعون الشرعية الدينية فحسب عن الحاكم بغير الشريعة الذي أتت
به الديمقراطية[14]، وهذا تورط في العلمانية
بلبها ولبابها؛ لأن المتفق عليه بين التيارات الإسلامية أن فصل الدين عن السياسة
في المواطن التي نص الوحي على التحامهما فيها، هو عين العلمانية، ومن ثم فلا وجود
أصلاً في الرؤية الإسلامية لشيء هو مشروع سياسة غير مشروع دين، وإنما يستقيم هذا
على أصول العلمانية بدءاً من الميكافيلية حتى البراجماتية النفعية، والسلفية ترى
أن الحاكم الذي لا يحكم بالشريعة فاقد للشرعية السياسية الدينية وإن أتى به لسدة
الحكم اختيار الناس، ولا يثبتون فيما نطق به الوحي سياسة تصح بلا شرع يحكمها.
يقول شيخ الإسلام: «فلما
صارت الخلافة في ولد العباس واحتاجوا إلى سياسة الناس وتقلد لهم القضاء من تقلده
من فقهاء العراق ولم يكن ما معهم من العلم كافياً في السياسة العادلة؛ احتاجوا
حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في
كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: الشرع والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع،
وهذا يدعو إلى السياسة».
ويقول: «ثم قول القائل
بعد هذا سياسة: إما أن يريد أن الناس يساسون بشريعة الإسلام أم هذه السياسة من غير
شريعة الإسلام. فإن قيل بالأول فذلك من الدين وإن قيل بالثاني فهو الخطأ»[15].
وإذا تأملتَ جيداً في
صراع التنويريين مع المستبد، ستجد أنهم نزعوا الشرعية السياسية عنه ويجيز بعضهم
مصاولته للتغلب عليه عند القدرة، وإذا نظرت للمعاني التي يديرون عليها صراعهم مع
المستبد، ستجدها هي نفس دائرة الحقوق المدنية التي تدعو إليها الشريعة ويدعو إليها
التنوير العلماني في الوقت نفسه، والدليل على أنهم لا يبنون صراعهم مع المستبد على
مظالمه مع تكييف هذه المظالم بمخالفة الشريعة فحسب دون البناء على منظومة الحقوق
المدنية؛ أنهم لو فعلوا ذلك لزمهم اعتبار الخيار الشعبي الذي يأتي بغير الشريعة
استبدادياً تجب مصاولته لإعراضه عن الشريعة.
وهم لن يفعلوا ذلك،
والفارق المؤثر عندهم هو أن تنحية الشريعة ها هنا جاءت بالخيار الشعبي، وهذا يدل
دلالة قاطعة على البناء المدني العلماني لمنظومة الحقوق المهدرة والمخالفات
الواقعة التي صاولوا المستبد بسببها.
فالذي أفقد المستبد
شرعيته السياسية عندهم ليس مخالفته للشريعة، وإنما تضييعه لحقوق وحريات شعبه.
والذي أكسب تنحية الشريعة باختيار الشعب الشرعية السياسية عندهم، هو أنها جاءت
بالاختيار الشعبي، بما يدل على أن منوط الشرعية السياسية عندهم هو اختيار الشعب،
ولذلك فطاعة النظام والقانون الذي أتى به اختيار الشعب طاعة ملزمة عندهم؛ لأنها هي
الطرف الثاني من التعاقد الشعبي، ما يفرغ مضمون الشرعية السياسية عندهم من شرط
التزام الشريعة، ويجعل أساس نظام الحكم الذي يصح عندهم أساساً مدنياً لا سلطة
للشرع عليه، وهو نفس التصور العلماني لنظام الحكم ومصدر الشرعية السياسية.
ومما يدل على استبطانهم
للمضمون العلماني أيضاً: أنهم قد استحضروا نصوص الإكراه في الدين والنهي عنه عند
رد القول الذي نقرره، وهو وجوب حمل المسلمين على التزام الشرع وعدم اعتبار رضاهم
أو اختيارهم في هذا، والحقيقة أن استحضار نصوص الإكراه في الدين في هذا المقام
يعني تناقض التنويريين؛ فهم أنفسهم لا يلتزمون به، وإنما أوردوه لتدعيم الرؤية
التنويرية الغربية لشرعية السلطة دون أن يتأملوا في النتائج التي ستترتب على
الاحتجاج بهذه النصوص؛ فالواقع أن حقيقة إمضاء ما تختاره الأغلبية التصويتية أنه
إكراه للأقلية، والأدبيات التنويرية الغربية تنص على أن الأغلبية إنما تمنح سلطة
معينة حق الاستخدام الحصري للإكراه والعنف[16]، بل إن مشروعية استخدام
الدولة للإكراه والعنف وأثر ذلك على الحريات الفردية، هو أصل النزاع بين
الديمقراطية والليبرالية، وهو الباعث على العصيان المدني الذي ينشأ احتجاجاً على
إكراهات الأغلبية.
فتبيّن بما لا يدع مجالاً
للشك أن إخواننا التنويريين – شعروا أم لم يشعروا - لا يمانعون في الإكراه، وإنما
هم فقط يريدون حصره فيما يحصره فيه التنوير العلماني، وهو الأغلبية التصويتية،
فمرادهم في الحقيقة ليس منع الإكراه، وإنما حصر الإكراه – تبعاً لمقتضيات الحداثة
السياسية - فيمن له الشرعية السياسية، وهو من اختاره الناس، وهذه هي نفس أهداف
التنوير العلماني الذي بُني على نزع السلطة من يد الدين وأن تقوم الدولة مقام
المطلق الديني وأن تستبدل الأمة المدعومة بمفاهيم السيادة والتمثيل بالدين بحيث
تقوم الدولة – الأمة بوظيفة الدين في تحديد المقدس الجماعي عن طريق الناس أنفسهم
دون الإحالة إلى وحي متجاوز ملزم.
(3) مثال وإلزام:
يشدد كثير من التنويريين
النكير على القائلين بطاعة المتغلب وعدم قتاله[17]، وأنت لو سألت القائلين
بعدم الخلع عن حجتهم، لوجدت حجتهم ليست أن هذا الحاكم مستوف للشرعية السياسية
بدليل أنهم يجيزون عزله بغير قتال، وإنما ستجد مذهبهم متعلق فقط بالقتال؛ بسبب
الأخبار المعروفة في منع الخروج، فهم يقولون بعدم القتال لأنه لا يجوز قتاله إلا
إن كفر.
عندما تسأل التنويريين:
لم تنكرون علينا إذا جوزنا للانقلاب على أغلبية التصويت إذا اختارت تنحية الشرع
عند الاستطاعة، ولا تجوزون لنا هذا كما جوزتم الخروج على المستبد؟
لن يخرج جوابهم عن كون
المستبد فاقداً للشرعية السياسية بخلاف النظام الديمقراطي الذي اختاره الشعب.
فهنا يقال لهم: كلا
النظامين (المستبد والديمقراطي) فاقد للشرعية؛ لأن منوط فقدان الشرعية في المستبد
كان تضييعه لأوامر الدين بإقامة الشرع، وهي نفسها الأوامر التي أضاعها النظام
الديمقراطي، فكلاهما نظام غير شرعي يجوز الخروج عليه بالقوة عند الاستطاعة، فكل
سلطة سياسية لا تقيمُ كتاب الله هي فاقدة للشرعية السياسية فقداناً هو أشد من
فقدان المستبد لهذه الشرعية؛ لأن نفس فقدان المستبد للشرعية راجع لعصيانه أمر الله
في طريق تولي الحكم؛ فأصل الشرعية هو إقامةُ كتاب الله، ويتفرع عنها فقدان المستبد
والأغلبية التصويتية جميعاً للشرعية متى أضاعوا كتاب الله. واتسق هذا في قولنا
لاحتفاظنا بإقامة الشريعة كقدر حاكم مقيد للنظام السياسي، واختل الأمر عندكم بسبب
ما دخلكم من الخلل العلماني الذي لا يدخل في تصوره السياسي دين أصلاً.
(4) فلماذا إذن كان هذا
تأثراً ولم نعده علمانية خالصة؟
الجواب: إنهم يجعلون
اختيار الشعب ها هنا اختياراً محرماً مخالفاً للشرع تستحق الأمة عليه العقاب من
الله، ولا يجوز التلبس بشيء من تحكيم غير الشريعة من جهتهم؛ فهم لا يجيزون لأنفسهم
تولي ولاية اختارهم فيها شعب اختار تنحية الشريعة[18]، بل تجب الدعوة لتغيير
هذا النظام بالسبل الديمقراطية، وهذا مخالف للتصور العلماني الذي يخلو أصلاً من
تلك الأوصاف الدينية ويعتبر خيار الشعب خياراً مشروعاً ولا سلطة للدين حتى في
العقاب الأخروي للأمة، ولا ينيطون المطالبة بتغيير النظام ديمقراطياً لمخالفته
شريعة دينية؛ لأن الشريعة الدينية ليس لها محل أصلاً في النظام السياسي كي نطالب
بها.
فمحل التأثر العلماني لم
يكن نفي الدين عن السياسة كما هي العلمانية الظاهرة، وإنما محله علمانية كامنة
حاصلها: منع قدرة الدين بمجرده على نفي المشروعية السياسية عن نظام الحكم، فهو فصل
بين الدين والسياسة من جهة إمكان عقوبة السياسي على ترك الدين أو تنحيته وليس
فصلاً بين الدين والسياسة بمنع الدين عن أن يكون له سلطة التحريم والتحليل في
السياسة[19].
فمحل التأثر العلماني: أن
العلماني يجعل حقوق الأفراد وحرياتهم فقط هي القيد الحاكم للسياسي، فمتى أخل بها
وجب عقابه بخلع نظامه والانقلاب عليه أو على الأقل نفي المشروعية السياسية عنه.
أما التنويري: فهو يجعل
حقوق الأفراد وحرياتهم والدين والشريعة جميعاً، قيداً للحاكم السياسي، ويعاقبه
كالعلماني إن أهدر الحقوق والحريات، ويسميه نظاماً مستبداً، لكنه لا يعاقبه بنزع
الشرعية السياسية عنه إن أضاع الدين ما دام تضييع الدين جاء مع الحفاظ على الحقوق
والحريات، ولا يعده بذلك مستبداً؛ لأن مفهوم الاستبداد عنده كمفهوم الشرعية
السياسية مؤطر بالإطار العلماني الذي منوطه الحقوق والحريات وليس مخالفة الشريعة.
(5) القطعيات المهدرة
في المفهوم التنويري للشرعية السياسية:
إطار ضيق من الحق نراه
نحن في رؤية التنوير الغربي للشرعية السياسية، يتحدد هذا الإطار في وجوب ألا يحكم
المسلمين إلا من يرضونه، واختيار المسلمين لحاكمهم مؤطر في رؤيتنا بشروط وضوابط
شرعية، كما أن المصلين الذين يحرم أن يؤمهم رجل وهم له كارهون[20] لا يجوز لهم اختيار إمام
للصلاة لا يُحسن القراءة، وكما أن المرأة التي يجب استئمارها[21] فيمن ترضاه زوجاً لها لا
يجوز لها أن تَنكح رجلاً ليس مسلماً.
فاختيار الناس لمن يحكمهم
ليس قيمة مطلقة في الرؤية الإسلامية كما هو الحال في الرؤية التنويرية العلمانية،
وإنما هو في الحقيقة مفردة قيمية خاضعة لإطار الوحي المقدس، فهي تحت مظلته وليست
سلطة فوقية لها حرية الدخول تحت مظلته أو لا، فبمجرد اختيار الرجل أن يكون مسلماً
صار خاضعاً بمجرد الإسلام للشريعة ومظلتها القيمية والتشريعية.
فالوحي هو مصدر كل شيء:
1- مصدر التشريعات حتى في
المسكوت عنه إنما يُشَّرِع المسلمون بإذن الوحي لهم أن يُشرعوا.
2- مصدر السلطات؛ فكل
سلطة لا تخضع للوحي ولا تُقيمه فهي فاقدة للشرعية، وحتى اشتراط اختيار الناس لمن
في السلطة إنما هو بنص الوحي على أن الناس هم من يختارون ولاة أمورهم.
فهل التنويريون في تلقيهم
للمفهوم التنويري الغربي للشرعية السياسية قد تلقوه في هذا الإطار، أم أنهم قد
تلقوا هذا المفهوم ومعه مضامينه العلمانية ما أدى لإفساد هذه المضامين العلمانية
لأدواتهم الشرعية، ما أنتج إهداراً للقطعيات الشرعية؟
وهو أن الحكم القطعي الذي
يضيعه التنويريون قد لا يؤسس على أساس واحد، بل قد يؤسس على أكثر من حجة، والذي
يهمنا هنا هو وجود حجة (اختيار الناس وإكسابه للشرعية السياسية) ضمن حجج القول
الذي خالفوا به القطعيات ولو وجد غيره؛ فالذي يهمني أن يُذكر في حجج جواز تولي
الكافر (مثلاً) أن هذا اختيار الناس المـُكسب للشرعية، مع إقراري بأنهم قد يذكرون
حججاً أخرى معه.
أولاً:
تجويز طرح الشريعة للتصويت:
الذي نراه أن ما يحدث في
نظم الحكم القائمة في بلاد المسلمين من طرح الشريعة للتصويت؛ فعل محرم بنص القرآن
القاطع: {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ
إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ
أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً}
[الأحزاب: 36].
ولا نرى بأساً من توجه
المسلمين للإدلاء بأصواتهم فيها ولسان حالهم «نحن نصوت لتلك الشـريعة شهادة لله أن
الحكم له خاضعين لحكمه وسلطانه داعين إياكم أيها المخالفين لمثل ما نحن فيه من
الخضوع لشريعة الله».
وسواء تُصور أن الناس
يمكن أن يختاروا غير الإسلام أم لا، فهذا خارج محل البحث، فالبحث في حكم طرح
الشريعة للتصويت بقطع النظر عن نتيجة هذا الطرح كما أنه لا يجوز لك أن تطلب من رجل
شرب الخمر ولو كنت تقطع أنه لن يشربها.
أما كثير من النخب
التنويرية وتأثراً منهم بالمضامين العلمانية للتنوير الغربي، فقد جوزوا إخضاع
الشريعة للتصويت وزعموا أن هذا هو مقتضى طلب رضا الناس عن الدين المضاد لإكراههم
عليه المنهي عنه.
يقول عبد الله المالكي:
«يكون المجتمع حراً في اختيار الأفكار والرؤى والمعتقدات التي يرى أنها هي الحق،
أو في اختيار المرجعية والمبادئ التي تتأسس عليها قوانينه»[23].
وقد حاول المالكي أن يجمع
بين هذه الحرية وهذا الحق الذي يقرره وبين أنه يرى الشريعة مهيمنة ملزمة وأن الناس
يأثمون لو لم يختاروا الشريعة، وذلك بأن جعل الإرادة هنا جبلية (أي مجرد القدرة
على أن يفعل وأن لا يفعل بقطع النظر عن حكم الفعل أو عدمه في الشرع)، وليست شرعية،
والحق أنها كانت محاولة فاشلة، وذلك لسببين:
الأول:
أن الإرادة الجبلية لا تُجعل قيمة، وإرادة الإنسان أن يقتل بريئاً هي إرادة جبلية
ليس لها أي مضمون قيمي يُمدح، بينما الواقع أنه في بحثه يسوق حرية اختيار الشريعة
مساق القيمة ويجعلها فضاء أمثل لتجسيد مبادئ الإسلام ويسوق شواهدها من نفس المدونة
التنويرية الغربية التي تتعامل مع الإرادة كقيمة.
الثاني:
أن محل النزاع هو في أن هذه الإرادة الجبلية (تصويت
الناس على الشريعة) غير جائزة ولا يجوز التلبس بها ولا دعوة الناس إليها كأي إرادة
جبلية تعارض الشريعة، وهذا ثابت لا ينفعه فيه التفريق بين التخيير الشرعي والتخيير
الكوني، فالكفر الأصلي لا يُجبر صاحبه على تركه، لكنه غير جائز ولا ندعوه
لممارسته.
والحقيقة أن هذا الخلط
والضعف الاستدلالي إنما هو بسبب التضارب الشديد الذي يعانيه الفكر التنويري في
عملياته التوفيقية بين المنظومة التنويرية العلمانية وبين الإسلام، فرغم المحاولات
الجهيدة تظل العلمانية كامنة في محاولاتهم هذه تُطل برأسها من تحت آباطهم، سلمهم
الله من لدغاتها المميتة.
الذي نراه هو مقتضى
الشريعةِ نصاً وإجماعاً أن إقامةَ كتابِ الله في الناس واجب شرعي، وأن هذه
الإقامةَ تكون بالنصح والبيان، وتكون أيضاً بالجهاد والسنان، وأن استعمالَ القوةِ
واجب ضد من امتنع عن تحكيم الشريعةِ، سواء كان حاكماً فرداً أو أغلبيةً تصويتية،
بشرط توافر القدرة وأمنِ المفسدة الغالبةِ، فإن أي سلطة حاكمة شرطُ مسالمتِها هو
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أقام فيكم كتاب الله[25]. وقد اتفق الفقهاء على
أن من منع شريعة من شرائع الله يُقاتل لمنعه لها، قال مالك: «الأمر عندنا فيمن منع
فريضة من فرائض الله تعالى فلم يستطع المسلمون أخذها كان حقاً عليهم جهادُه حتى
يأخذوها منه»[26].
ويقول شيخ الإسلام: أجمع
علماء المسلمين على أن كل طائفة ممتنعة عن شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة
المتواترة، فإنه يجب قتالها، حتى يكون الدين كله لله، فلو قالوا: نقوم بمباني
الإسلام الخمس ولا نحرم دماء المسلمين وأموالهم، أو لا نترك الربا ولا الخمر ولا
الميسر؛ فإنه يجب جهاد هذه الطوائف جميعاً، كما جاهد المسلمون مانعي الزكاة»[27].
ولذلك قال أبو بكر: والله
لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال[28]. فجعل المنوط هو التفريق
بين شرائع الله في الاستجابة لها. وصريح قوله أنهم لو منعوا الصلاة لقاتلهم، فدل
ذلك على عدم تعلق القتال بالإمامة والسياسة، ولذلك نص الفقهاء على القتال على
المندوبات المتواترة وليس فيها حق للإمام.
وأبو بكر نفسه يحتجون
بخطبته عند تولي الخلافة ولكن يغفلون عن تأسيسه الأصيل لمصدر الشرعية السياسية وهو
قوله رضي الله عنه: «أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة
لي عليكم»[29].
وهل اختيار الناس لنظام
حكم يُضيع الشريعة يُعد طاعة لله ولرسوله؟!
وحكم الله إنما ينعقد
وجوبُه وإلزاميتُه بمجرد كون الرجل مسلماً، فليس قتالُ الناس للالتزام به إكراهاً
على الدين، وإنما هو عقوبة لهم على عدم التزام الدين الذي سبق وآمنوا به، ولذلك في
حديث بريدة في جهاد الغزو: «ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَإِنْ أَجَابُوكَ،
فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ
دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا
ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ،
فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ
كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ الَّذِي يَجْرِي
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ شَيْءٌ
إِلَّا أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَسَلْهُمُ
الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، وَكُفَّ عَنْهُمْ،
فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللهِ وَقَاتِلْهُمْ»[30].
فتأمل كيف كان عدم قبول
أولئك الذين أسلموا لأن يُجرى عليهم حكم الإسلام كان موجباً للجزية أو لقتالهم،
ولم يقبل منهم رسول الله أن يُسلموا دون إجراء حكم الإسلام عليهم.
ومن هنا تعلم خطأ الاستدلال
بآيات منع الإكراه أو أحاديث التعليق على الطاعة في جهاد الغزو[31]؛ لأن هذا الاستدلال:
أولاً: فيه
غفلة عن أن هذه الأدلة هي في حق غير المسلمين والبحث إنما هو في إلزام المسلمين
بمقتضى عقد الإسلام المستلزم عدم التفريق بين شرائع الله في وجوب الاستجابة لها
وأن للإمام مقاتلة من منعها.
ثانياً: أن
هذه الأخبار ليس فيها أن أولئك المغزوين لو لم يجيبوا ويطيعوا أنهم يتركوا، بل
فيها النص على إلزامهم بالجزية أو قتالهم، وعلى أنهم لو أسلموا يُجرى عليهم حكم
الإسلام وجوباً بمجرد إسلامهم.
ويقول شيخ الإسلام: «فليس
حُسن النية بالرعية والإحسان إليهم أن يفعل ما يهوونه ويترك ما يكرهونه، فقد قال
الله {وَلَوِ اتَّبَعَ الْـحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ
لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ}
[المؤمنون: 71]، وقال تعالى للصحابة: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ
رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات:
٧]، وإنما الإحسان إليهم فعل ما ينفعهم في الدين والدنيا ولو كرهه من كرهه؛ لكن
ينبغي له أن يرفق بهم فيما يكرهونه، ففي «الصحيحين» عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه»[32].
وهذا التقرير لا يتسق
بالطبع مع ما قررته النخب التنويرية من استمداد الشرعية السياسية من اختيار الناس؛
فكانت السلطة التي اختارها الناس شرعية ولو كانت تحكم بغير الشريعة، وكانت
القوانين التي اختارها الناس شرعية ولو كانت وضعية على خلاف شريعة الوحي.
يقول يوسف القرضاوي: «لا
علاج لهذه الأمة إلا بالحرية.. وأنا قلت في بعض برامجي إنني أقدم الحرية على تطبيق
الشريعة الإسلامية؛ لأنه لا يمكن أن تطبق الشريعة الإسلامية والحرية مفقودة، فإذا
اختار الناس الشريعة طبقناها عليهم، وإذا رفضوها، نتجه لتعليم الناس ودعوتهم حتى
يختاروا الشريعة»[33].
يقول سعد الدين العثماني:
«من جهة أولى لا يمكن بأي حال من الأحوال فرض قانون على المجتمع، وإذا كان الإسلام
يقرر أن لا إكراه في الدين والذي يعني أن الإيمان نفسه لا يجوز إكراه أي كان – كذا
- عليه، فمن باب أولى أن ينطبق الأمر على ما دون الإيمان في شعائر الإيمان
وشرائعه، ومن جهة ثانية فإن إيمان المؤمن بوجوب أمر ديني عليه لا يعطيه الحق بفرضه
على الآخرين، فهو مكلف به ديناً، وذلك لا يكفي لجعله قانوناً عاماً في المجتمع، بل
عليه أن يحاول إقناع الآخرين به حتى يتبناه المجتمع بالطرق الديمقراطية، فلا يمكن
أن تعطى سلطة أو يعطى حاكم حق فرض أحكام على الناس بأي مسمى كان، ويمكن أن يتساءل
البعض ما هي الضمانة حتى لا يخرج الناس في تشريعهم عن محكمات الدين؟
والجواب بأن الضمانة هي
الأمة التي قررت النصوص الحديثية أنها لا تجتمع على ضلالة، والاجتماع هنا التبني
العام، أي لا تتبنى في عمومها ولا يتبنى أكثريتها ما هو مناقض للشريعة، لكنها إذا
تبنت ذلك تأويلاً أو جهلاً فلا يمكن إلزامها بغير ما اقتنعت به»[34].
ويقول أحمد الريسوني:
«لنفرض فرضاً أن شيئاً من هذه المخاوف قد وقع وظهر بديمقراطية حقيقية أن غالبية
المسلمين في قطر من الأقطار قد اختاروا ما يتنافى مع الإسلام وما يعد خروجاً عن
الإسلام، فهل العيب في الديمقراطية أم العيب في الواقع القائم؟
فليست الديمقراطية هي
التي أتتنا بهذا العيب، وإنما الديمقراطية كشفت لنا هذا العيب، فهذا سبب لشكر
الديمقراطية والتمسك بها وليس سبباً لرفضها والقدح فيها واتهامها.
فإتاحة الفرصة للناس
ليعبروا تعبيراً حراً عما في نفوسهم وعما في عقولهم، سواء سمي ديمقراطية أو سمي
بأي اسم آخر، إنما تكشف لنا الحقيقة وتتيح لنا معرفة الحقيقة، فهل هناك أحد ضد كشف
الحقيقة وضد معرفة الحقيقة.
ليس من الإسلام وليس في
مصلحة الإسلام ولا في مصلحة المسلمين، أن نقيم على الناس دولة إسلامية ليست نابعة
من قلوبهم، وأن ننفذ عليهم قوانين هم لها كارهون»[35].
ويقول راشد الغنوشي: «نعم
نقبل ولو جاءت الانتخابات بأشد خصومنا العقائديين، نحن نقبل حكم الشعب، نثق بوعي
شعوبنا وبأنها لن تختار إلا ما يرضي الله والرسول، وإذا اختارت غير ذلك فليس
أمامنا سوى أن نقوم بتوعيتها حتى تغير رأيها»[36].
ثالثاً:
تجويز أن يكون رئيس الدولة كافراً:
لما تأثر التنويريون
الإسلاميون بالمفهوم التنويري الغربي العلماني للشرعية السياسية، جرهم هذا إلى
سؤال هو من مقتضيات المواطنة بمفهومها العلماني ومن مقتضيات المفهوم العلماني عن
شرعية اختيار الناس، وهو: ماذا لو اختار الناس غير مسلم لحكم بلاد المسلمين؟
الحق أن هذا السؤال لا
محل له من الإعراب لو كنا في الفضاء القيمي والمفاهيمي للدين الذي أوحى الله به
إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ليكون رسالة خاتمة مهيمناً على الأديان
والفلسفات؛ ولذلك لن تجد قط تناولاً لهذه المسألة في الصدر الأول كغيرها من
البديهيات التي لم يخطر ببالهم قط أن تنشأ بدع وضلالات تتكلم بها، فضلاً عن أن
تزعم أنها لا تعارض الدين وتحتج لها بالوحي.
وحده الفضاء العلماني
التنويري هو الذي ينزع الدين عن أن يكون مهيمناً على القيم السياسية المتداولة،
ووحده الفضاء العلماني التنويري هو الذي طرح فكرة المواطنة كمنظومة ولاء بديلة عن
الدين مما استتبع بعد ذلك إخراج دين أبناء الوطن الجغرافي الواحد عن أن يكون له
أثر قانوني بالكلية.
ولما كان اختيار الناس
وحده هو الذي يُكسب السلطة صفة الشرعية، لم يكن اختيار رجل غير مسلم لحكم بلاد
المسلمين إلا اختياراً شرعياً من وجهة نظر التنويريين.
يقول محمد الشنقيطي:
«تشترط العديد من دساتير الدول العربية أن يكون رأس الدولة مسلماً. وهو أمر يثير
إشكالاً حول المساواة السياسية بين المواطنين، والأهم من ذلك أنه يجعل أساس العقد
الاجتماعي الذي تتأسس عليه الدولة العربية المعاصرة ملتبساً.. الإمبراطوريات
القديمة هي التي تحدد ديانة الدولة والشعب، لكننا لم نعد نعيش في عصر إمبراطوريات،
ولم يعد من الخطر على الإسلام أن يكون رأس الدولة غير مسلم، لأن علاقة الدولة
بالدين يحددها الدستور، لا عقيدة الرئيس أو ذوقه الشخصي. والناس اليوم على دين
دساتيرهم لا على دين ملوكهم»[37].
قلت: وهذا تأسيس فاسد،
ويلزم منه جواز أن تنكح المسلمة غير مسلم ما دمنا سنضمن في عقد الزواج أن يكون دين
أولادها تبعاً لها.
وسبب هذا الفساد هو غفلة
هذا الكاتب عن مقاصد التشريع في الولاية وقصوره عن معرفة علل جعلها في المسلمين،
فهو يعجل إلى علة أو علتين ويزعم إمكان الحفاظ على مقتضاهما بالدستور.
ولا يُخبرنا هذا الكاتب
بعد أن نولي غير المسلم هل نعد العدة للخروج عليه بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم:
«إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْراً بَوَاحاً عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ»[38].
وهل يا ترى هذا الكافر
سيصلي صلاة المسلمين؟
فإن لم يُصلها، هل نعد
العدة لمنابذته بالسيف امتثالاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له:
أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ: «لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ
الصَّلَاةَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ شَيْئاً تَكْرَهُونَهُ، وقوله:
«سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ
أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ» قَالُوا: أَفَلَا
نُقَاتِلُهُمْ؟ قَالَ: «لَا، مَا صَلَّوْا»[39]. فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ،
وَلَا تَنْزِعُوا يَداً مِنْ طَاعَةٍ»[40].
قال القاضي عياض: «فلو
طرأَ عليه كُفرٌ وتغيير للشَّرع، أو بدعةٌ، خرجَ عن حكم الولاية، وسقطَت طاعته،
ووجب على المسلمين القيامُ عليه وخَلْعُه، ونصب إمام عادلٍ إن أمكنَهم ذلك، فإن لم
يقع ذلك إلا لطائفةٍ وجب عليهم القيامُ بِخَلع الكافر»[41].
وقال القرطبِيُّ: «الإمام
إذا نُصِّب ثم فسَق بعدَ انبِرام العقد، فقال الجمهورُ: إنَّه تنفسخ إمامتُه
ويُخلَع بالفسق الظَّاهر المعلوم»[42].
فإن كان هذا قولَهم في
حاكمٍ له ولاية وبيعة، ثم طرأ عليه الكفر أو الفِسق، فكيف بكافرٍ أصلي لا بيعةَ له
ولا ولاية؟ كيف يَستقيم في شرعٍ أو عقل أن تُعطى الولاية وحكم المسلمين ابتداءً
لكافرٍ أصلي؟
رابعاً: القول بأن السلطة
السياسية للنبي صلى الله عليه وسلم وطاعته بوصفه إماماً، لا ترتكز على مجرد
النبوة، بل كانت ناجمة عن عقد بيعة على الإمامة مستقل.
تشكل الإمامة السياسية
للنبي صلى الله عليه وسلم تحدياً كبيراً لمفهوم الشرعية السياسية الذي أخذه
التنويريون من التنوير الغربي العلماني، والسبب في ذلك أن الذي نقرره نحن أن النبي
صلى الله عليه وسلم إمام من حيث هو نبي لا تفتقر إمامته ووجوب طاعته السياسية
لاختيار الناس له كإمام، وأن أثر ذلك فيمن يخلفه خلافة النبوة أن تظل إقامة كتاب
الله ووراثة النبي في إقامة الشريعة في الناس هي أعظم مكونات الشرعية السياسية،
وأن رضا الناس واختيارهم هو بعض إقامة كتاب الله وخاضع في الوقت نفسه لتقييد كتاب
الله؛ فلا شرعية سياسية أو دينية خارجة عن سلطة الوحي.
فلما انتبه بعض
التنويريين لهذا المعنى، اختلفوا في التعامل معه، فمنهم من جعل ولاية النبي صلى
الله عليه وسلم من وظائف النبوة ولاه الله إياها مع النبوة، وأن هذا من خصائصه صلى
الله عليه وسلم، كما قرر ذلك محمد الشنقيطي.
وهذا مع كونه حقاً إلا
أنه يتناقض مع تأسيس هذا القائل نفسه لمدنية الشرعية السياسية بعد ذلك؛ فالخلفاء
بعد النبي صلى الله عليه وسلم سموا خلفاء نبوة؛ لأنهم خلفوا النبي صلى الله عليه
وسلم في إقامة كتاب الله في الناس، فإما أن يسلم ذلك التنويري بهذا المعنى فينزع
الشرعية عن كل سلطة لا تقيم كتاب الله في الناس، وإلا فلا يستقيم له القول بشرعية
ولاية النبي صلى الله عليه وسلم بغير أن يؤسسها على عقد مدني منفك الصلة عن النبوة
ومعانيها، وإلا فمتى أبقى النبوة في الإمامة وجب عليه أن يُبقي خلافة النبوة
ووظائفها في الإمامة.
والقولُ بالآخر
للتنويريين: هو أن إمامة النبي السياسية مؤسسة على عقد مدني، وأن النبي صلى الله
عليه وسلم استحق الطاعة السياسية بموجب هذا العقد لا بموجب النبوة، هو ما ذهبت
إليه طائفة أخرى من التنويريين ليطرد لها قولها في مدنية السلطة السياسية وتأسيس
شرعيتها على اختيار الناس فحسب[43].
يقول لؤي صافي: «شكلت
بيعة العقبة التي أعلنت ولادة الأمة، الأساس العقائدي الذي حدد التزامات قيادة
الأمة المتشكلة والمتمثلة بالرسول القائد صلى الله عليه وسلم، كما حدد التزامات
القاعدة المتمثلة بالأنصار، وأسس العقد الرئاسي الذي تمخضت عنه بيعة العقبة حدود
السلطة السياسية المنوطة بالقيادة وحدود واجب الطاعة والنصرة المنوط بالقاعدة، ما
حدا برسول الله إلى الإلحاح في طلب دعم الأنصار وتأييدهم لقرار الحرب في معركة بدر
قبل إنفاذه؛ لعلمه بوقوع القرار خارج حدود التزامات الأنصار في بيعة العقبة»[44].
ويكفي في إبطال هذا القول
ثلاث حجج:
1- عدم البينة على
استقلالية بيعة النبوة عن بيعة الإمامة.
2- يلزم من قولهم أن يكون
رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد بيعة مثلها مع المهاجرين ولا بينة عليه.
3- ما تقدم في حديث بريدة
من إيجاب إجراء أحكام الإسلام وشرائعه بمجرد الإسلام ولم يدعهم إلى بيعة جديدة على
الإمامة.
وأختم بهذا النص
الجامع من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية والذي يعبّر بأحسن عبارة عن المفهوم الحق
للشرعية السياسية: «وكل من أمر بما أمر به الرسول وجبت طاعته، طاعة الله ورسوله لا
له، وإذا كان للناس ولي أمر قادر ذو شوكة، فيأمر بما يأمر، ويحكم بما يحكم، انتظم
الأمر بذلك، ولم يجز أن يولى غيره، ولا يمكن بعده أن يكون شخص واحد مثله، إنما
يوجد من هو أقرب إليه من غيره، فأحق الناس بخلافة نبوته أقربهم إلى الأمر بما يأمر
به، والنهي عما نهى عنه، ولا يطاع أمره طاعة ظاهرة غالبة إلا بقدرة وسلطان يوجب
الطاعة، كما لم يطع أمره في حياته طاعة ظاهرة غالبة حتى صار معه من يقاتل على طاعة
أمره.
فالدين كله طاعة لله
ورسوله، وطاعة الله ورسوله هي الدين كله، فمن يطع الرسول، فقد أطاع الله، ودين
المسلمين بعد موته طاعة الله ورسوله، وطاعتهم لولي الأمر فيما أمروا بطاعته فيه هو
طاعة لله ورسوله، وأمر ولي الأمر الذي أمره الله أن يأمرهم به، وقسمه وحكمه، هو طاعة
لله ورسوله، فأعمال الأئمة والأمة في حياته ومماته التي يحبها الله ويرضاها، كلها
طاعة لله ورسوله، ولهذا كان أصل الدين شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول
الله.
فإذا قيل: هو كان إماماً،
وأريد بذلك إمامة خارجة عن الرسالة، أو إمامة يشترط فيها ما لا يشترط في الرسالة،
أو إمامة تعتبر فيها طاعته بدون طاعة الرسول؛ فهذا كله باطل، فإن كل ما يطاع به
داخل في رسالته، وهو في كل ما يطاع فيه يطاع بأنه رسول الله، ولو قدر أنه كان
إماماً مجرداً لم يطع حتى تكون طاعته داخلة في طاعة رسول آخر، فالطاعة إنما تجب
لله، ورسوله، ولمن أمرت الرسل بطاعتهم»[45].
خلاصة: تأسَّس
في الفضاء العلماني لعصر الأنوار مفهوم الشرعية السياسية القائم على مركزية رضا
الناس واختيارهم في عملية إنشاء الدولة وتحديد غرضها وإصدار قوانينها، وكان ذلك
التأسيس سعياً للتخلص من قبضة الوحي والكنيسة، فأتى التنويريون الإسلاميون فأغشت
عيونهم منظومة الحقوق المدنية التي كافح بها عصر الأنوار سلطة الكنيسة، وما صحب
تلك المنظومة من أدوات إجرائية، ورأوا أنها مما تنفعهم في صراعهم مع السلطات
المستبدة، غافلين عن المضامين العلمانية التي ترتكز عليها منظومة الحقوق والأدوات
هذه، فكان لا بد أن تقود هذه الغفلة عن تلك المضامين العلمانية إلى تضييع قطعيات
من الشريعة لا يريد التنوير الغربي أصلاً سوى تضييعها وعقلنة الأداء السياسي كله
وفك ارتباطه بأي منظومة قيمية متجاوزة ترتكز إلى وحي مقدس؛ فتبعهم إخواننا هؤلاء
في تضييعها، محتجين لذلك التضييع بالوحي المحرف، وقد أوشك طرحهم أن ينقلب علمانياً
خالصاً لا تحول بينه وبين العلمانية سوى بقية من مفاهيم الدين الحق لدى التنويريين
لم تصل إليها بعدُ معاول تحريف نصوص الشريعة لصالح مفاهيم الحداثة السياسية.
[1] انظر: «تاريخ الفكر
السياسي - من المدينة الدولة إلى الدولة القومية» لجان جاك شوفالييه (ص/8).
[2] «رسالة في التسامح»
(ص/23).
[3]
«روح الأنوار»، تزفيتان تودوروف، (ص/39-40).
[4]
العبارة للفيلسوف الألماني الكبير يورجن هابرماس، بواسطة: «الفلسفة السياسية
المعاصرة»، (ص/258)، بتصرف يسير.
[5]
«اللفياثان» (ص/258).
[6]
«رسالة في اللاهوت والسياسة» (ص/422)، وانظر: (ص/424).
[7]
«الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإسلام»، راشد الغنوشي، (ص/62)، الدار العربية
للعلوم.
[8]
«فقه الثورة» (ص/21)، نشر: مركز نماء.
[9]
«فقه الثورة» (ص/30)، وانظر: (ص/89).
[10]
«سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة»، عبد الله المالكي، (ص/12)، الشبكة العربية
للأبحاث والنشر.
[11]
«سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة»، عبد الله المالكي، (ص/12)، الشبكة العربية
للأبحاث والنشر.
[12]
راجع مثلاً: «أشواق الحرية»، لنواف القديمي، نشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر.
[13]
وحتى من جعلها من مكونات الشرعية السياسية كالغنوشي لم يلتزم مقتضياتها كما
سنوضحه.
[14]
«أشواق الحرية» (ص/55)، نشر: الشبكة العربية للأبحاث.
[15]
انظر كلامه بتمامه في: «مجموع الفتاوى» (20/391-393).
[16]
راجع في هذا المعنى كلام ماكس فيبر عن أسس مشروعية الدولة في: «الدولة» مجموعة
نصوص ترجمها: محمد الهلالي وعزيز لزرق، نشر: دار توبقال (ص/36).
[17]
انظر مثلاً: «فقه الثورة» (ص/36).
[18]
هذا على الأقل ما أخبرني به بعضهم، وسمع غيري كلاماً آخر منهم يخالف هذا؛ لذا
أعتقد أن توضيح التنويريين لموقفهم من هذه القضية مهم، وهذه دعوة مني لهم لأن
يبينوه.
[19]
تنبيه: هذا التقرير الذي يرفع تهمة العلمانية عن التنويريين الإسلاميين هو من جنس
عدم تكفير من يرى أن المرتد لا يعاقب، ما دام هذا الذي لا يُكَفِّر مقر معنا بأن
الردة كفر، ومن جنس عدم تكفير من يرى أن تارك جنس العمل ليس كافراً ما دام مقراً
معنا أنه مذنب معاقب؛ فأقوالهم هذه بدعة وليست كفراً، ولا علاقة لهذا التقرير الذي
ذكرته بعدم إكفار من لم يستحل النواقض كما رأيته قد توهمه بعض إخواننا، وإنما يكون
هذا من جنس عدم إكفار من لم يستحل النواقض إذا تلبس واحد من هؤلاء بالردة ولم
أكفره؛ لأنه يرى الردة كفراً، أو ترك واحد منهم العمل مطلقاً ولم أكفره لمجرد أنه
يرى ترك العمل ليس كفراً، أو تلبس واحد منهم بالتشريع الوضعي ولم أكفره أنا لمجرد
أنه يعتقد إلزامية الشريعة، فتنبه لهذا فهو دقيق.
[20]
ورد النهي عن إمامة من له كارهون، ولا تخلو الأخبار فيه من مقال، وقد اعتمدها
الشيخ الألباني رحمه الله ، فانظر: «السلسلة الصحيحة» (رقم/ 650، 2325).
[21]
أخرجه البخاري (رقم/ 5136، وأطرافه فيه) واللفظ له، ومسلم (رقم/ 1419) من حديث أبي
هريرة مرفوعا: «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ حَتَّى تُسْتَأْمَرَ».
[22]
وظاهر جداً أننا لا نزعم حصول تضييعها من كل تنويري.
[23]
«سيادة الأمة قبل تطبيق الشريعة»، عبد الله المالكي، (ص/123)، الشبكة العربية
للأبحاث والنشر.
[24]
واستتبع ذلك تضييعهم لجهاد الغزو المشروع بالنص والإجماع، لكن يضيق المقال ها هنا
عن تحرير القول فيه.
[25]
أخرجه الإمام أحمد (4/ 70، وغيره) واللفظ له، ومسلم (رقم/ 1298)، وأبو داود (رقم/
1834)، والترمذي (رقم/ 1709) وصححه، وابن ماجه (رقم/ 2861) من حديث أم الحصين.
[26]
«الموطأ» (ص/ 269 كتاب الزكاة، باب ما جاء في أخذ الصدقات والتشديد فيها ).
[27]
في «مجموع الفتاوى» (28/ 469، 470) بتصرف واختصار، وانظر: «مجموع الفتاوى» (22/
51، 28/ 308، 502، 556)، و«الفتاوى الكبرى» (2/ 32، 3/ 473، 5/ 529)، و«مختصر
الفتاوى المصرية» (ص/ 167، 468).
[28]
أخرجه البخاري (رقم/ 1400، وأطرافه فيه)، ومسلم (رقم/ 20) من حديث أبي هريرة.
[29]
انظر: «تاريخ الطبري» (3/210).
[30]
أخرجه مسلم (رقم/ 1731)، وأبو داود (رقم/ 2614)، والترمذي (رقم/ 1617)، وابن ماجه
(رقم/ 2858) من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه بريدة بن الحصيب، وفي سماع سليمان من
أبيه خلاف، والراجح سماعه، والله أعلم.
[31]
كما فعل نواف القديمي في «أشواق الحرية» (ص/62).
[32]
«مجموع الفتاوى» (28/364).
[33]
برنامج الشريعة والحياة على فضائية الجزيرة بواسطة: «أشواق الحرية» (ص/69).وها هنا
تنبيه مهم حاصله: أن بعض النصوص التي تنقل عن سياسيين ومفكرين - خاصة من السلفيين
- فيها قبول نتيجة الديمقراطية ولو أتت بما يخالف الشريعة = يكون المقصود بها
تقرير مقتضى العجز الحاصل وليس تقريراً لما ينبغي أن يكون لو وجدت القوة، ومثله ما
يصدر عن بعض السياسيين في البلاد التي دارت فيها عجلة الديمقراطية بعد الربيع
العربي مما يراعون في صياغته تجنب التشنيع عليهم خاصة والاتفاق حاصل على أن حصول
القوة التي تلزم الناس بالشريعة لا يبدو ظاهراً في الأفق خاصة مع إكراهات وشروط
الواقع الدولي؛ فلا ينبغي إذاً أن يحمل أي نفي لإلزام الناس بالشريعة على أنه مؤسس
على الأصول التنويرية للشرعية والإلزام.
[34]
«الدين والسياسة تمييز لا فصل» (ص/ 40-41 ).
[35]
«الشورى في معركة البناء»، أحمد الريسوني، (ص/170).
[36]
«تجربة نضال - حوارات مع راشد الغنوشي» (ص/264)، مركز الناقد الثقافي.
[37]
مقال له على موقعه بعنوان: الناس على دين دساتيرهم.
[38]
أخرجه مسلم: «1709».
[39]
أخرجه مسلم: «1854».
[40]
أخرجه مسلم: «1855».
[41]
«شرح صحيح مسلم» للنووي (6/ 314).
[42]
«الجامع لأحكام القرآن» (1/ 271).
[43]
وبعض الكتاب قال بهذا القول الباطل من حيث أراد تعظيم اختيار الناس للحاكم لا من
حيث أنه يمنع أن تكون إقامة كتاب الله مكوناً للشرعية السياسية كالدكتور حاكم
المطيري في «تحرير الإنسان» (ص/166).
[44]
«العقيدة والسياسة»، لؤي صافي، (ص/ 244)، دار الفكر.
[45]
«منهاج السنة»(1/84-85).
أحمد سالم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..