ابتداءً أشير إلى أن وصف (الليبراليين السعوديين) الوارد في العنوان لا
يعني بالضرورة أن لدينا في السعودية
ليبراليين حقيقيين ! إنما هم (أدعياء
الليبرالية) ، ومقولة ليبراليين هي من قبيل الافتراض ، ومجاراة لمنطق
الإعلام الإلكتروني السائد في تصنيف أتباع التيار المعارض أو المختلف مع
التيارين الديني (الإسلامي) والمحافظ (الشعبي) على الساحة المحلية ، خاصة ً
أن الواقع السعودي على المستويين (الرسمي) و(الشعبي) يرفض الليبرالية وفق
مفهومها الغربي المعبر عن فلسفتها المادية . وكما قال الأستاذ جمال خاشقجي
في برنامج (اتجاهات) على شاشة قناة (روتانا خليجية) إن الليبرالية في
مفهومها الغربي لا يمكن أن تتحقق في السعودية ، وأزعم أنها لن تتحقق في أي
مجتمع مسلم .
أعود
إلى فكرة المقال المتمثلة بـ(الاستدراج الفكري) ، وهو سلوك جديد يحاول فيه
أدعياء الليبرالية من مثقفين وكتاب رأي سعوديين اتخاذه منهجاً تكتيكياً في
التعامل مع التيار الديني ، كي يكون بديلاً عن الصدام الفكري الصريح مع
رموزه أو مواجهته جماهيرياً ، بحكم أنه ـ أي التيار الديني (الإسلامي) ـ
لازال يشكل التيار العريض في الأمة بكل أطيافه من سلفية وإخوانية وجهادية
وغيرها ، بحيث يتم من خلال هذا الاستدراج سحب الإسلاميين شيئاً فشيئاً نحو
منطقة اتفاق معينة تتسم بالضبابية ، فيسهل على أدعياء الليبرالية تمرير
رؤيتهم الفكرية لشرائح المجتمع على أنها هي وجهة النظر المعبرة عن الجميع ،
ما يحقق اختراقاً في الموقف الفكري للتيار الإسلامي .
تكتيك
الاستدراج الفكري يمكن ملاحظته في محورين رئيسين هما : (المبادئ الفكرية)
و(القضايا المعاصرة) ، وهنا سأكتفي بمثالين لكل محور للإيضاح ومنعاً
للإطالة ، فمن حيث المبادئ الفكرية نجد أن أدعياء الليبرالية استوعبوا (درس
العلمانية) ، حينما نجحت الصحوة الإسلامية في الثمانينيات الميلادية بجعل
العلمانية (تهمة) قد تصل إلى (الردة) بمعارضتها للإسلام ، ما جعل المثقفين
السعوديين يتسابقون على ميدان إعلان البراءة منها ، رغم أن بعضهم يحمل
نفساً علمانياً واضحاً ! هذا الدرس استوعبه أدعياء الليبرالية السعوديين
فراحوا يؤكدون في كل مناسبة أن الليبرالية لا تتعارض مع الإسلام ! كي
يقبلها العامة والبسطاء وقطاع من خصومهم الإسلاميين ، وأنها تحترم الأديان !
فهي مجرد أسلوب حياة تتكيف مع خصوصيات كل مجتمع من خلال تطبيقات الحرية !
وكل هذا غير صحيح ! فمع أن الليبرالية تتفق مع الإسلام في الدعوة للقيم
الإنسانية من حرية وعدالة ومساواة ، إلا أنها تتعارض معه لأسباب ثلاثة
رئيسة ، الأول (الحالة التاريخية) لليبرالية كونها نشأت في بيئة وظروف
رافضة تماماً للدين ، والسبب الثاني (نسبية المعرفة) فلا يوجد في
الليبرالية حقائق مطلقة وكل شيء خاضع للشك والنقد والمساءلة ! أما السبب
الثالث فهو (مرجعية التشريع) ، فهي في الإسلام محددة بالوحي (القرآن
والسنة) ، بينما في الليبرالية محددة بالقانون الوضعي من خلال الصندوق
الانتخابي والعمل البرلماني . والإشكال أن بعض الإسلاميين صار بالفعل يردد
باقتناع أو بجهل أن الليبرالية لا تتعارض مع الإسلام حتى خرجت علينا أكذوبة
(الليبرالية الإسلامية) والأشنع منها (الإسلام الليبرالي) .
المثال
الثاني لفكرة الاستدراج الليبرالي في محور المبادئ الفكرية ، هو تركيز
أدعياء الليبرالية على (الأممية) عند الإسلاميين وجعلها في مقابل (الوطنية)
، وبذلك يتم تصويرهم على أنهم ضد أوطانهم ! رغم أن مفهوم الأممية لا
يتعارض مع الوطنية أبداً ، فكل هوية لها نطاقها وواجباتها ومساحتها ! وعليه
تجدهم يشنعون على الإسلاميين اهتمامهم بالمسلمين في أصقاع الأرض ! ما
يجعلهم ينشغلون في تبرئة أنفسهم من معاداة أوطانهم ، لدرجة أن يصل حال
بعضهم إلى التنكر لمفهوم الأممية كي لا يتهم بوطنيته ، وهذا خطأ جلي فمن لا
يؤمن بالأممية عليه أن لا يستقبل ملايين الحجاج والمعتمرين على مدار العام
وأن ينسلخ من كل المنظمات والهيئات الإسلامية . في المقابل تجد أدعياء
الليبرالية يستشهدون بالاتحاد الأوروبي باعتباره نموذج وحدة حضارية ! بل
يسّوق هؤلاء الأدعياء مذهب (الإنسانية) على حساب الوطنية ، حتى تباكوا على
ضحايا الغرب أكثر مما تباكوا على ضحايا الوطن في الأعمال الإرهابية .
أما
من حيث محور القضايا المعاصرة ، فلعل أبرز مثالين يُعبران عنه هما (أسلمة
الربيع العربي) ، وقضية (الفيلم المسيء) ، ففي البداية صفق أدعياء
الليبرالية لثورات الربيع العربي لأنها كانت شعبية غير حزبية ، وغير محددة
بتيار فكري معين ، ولكن الصدمة الانتخابية التي أعقبت تلك الثورات وجاءت
بالإسلاميين إلى سدة الحكم ، أصابتهم بلوثة فكرية وحالة نفسية جعلتهم
يصيحون في كل محفل سياسي وملتقى إعلامي أن الإسلاميين ُطلاب حكم وليس طلبة
شريعة ، وأنهم سيستغلون الديمقراطية للانفراد بالسلطة ، وسيصادرون حقوق
الشعوب باسم الدين ! فصارت مهمة الإسلاميين طمأنة الشعوب والإقرار بأنهم
يؤمنون بتداول السلطة وقرار الناخب ! وأنهم متساوون مع غيرهم ! وهذا
استدراج ، لأن الواقع يقول إن الإسلاميين هم التيار العريض في الأمة
والمعبر عن همومها وتطلعاتها ، والمنطلق من ثقافة دينها وخصوصيات مجتمعاتها
، فمن الطبيعي أن يكونوا في الصدارة ويمسكوا بتلابيب القيادة ! خلافاً
لليبراليين الذين هم أقل شأناً بارتهانهم لفكر الغرب ، لذا هم خارج التاريخ
بعد أن أصبحوا على هامش الواقع رغم عراقتهم السياسية وتاريخهم الحزبي ، ما
يؤكد فشلهم بالتعبير عن جماهير الأمة .
أيضاً
في قضية (الفيلم المسيء) للرسول صلى الله عليه وسلم يتضح الاستدراج
الليبرالي لخصومهم الإسلاميين ، عندما ركزوا بشكل مكثف وبلغة استنكاريه على
(النتيجة) ، المتمثلة بالمظاهرات الغاضبة وأعمال العنف ضد السفارات
الغربية ، مع تهميش واضح (للسبب) وهو ليس الفيلم ـ كما يعتقد البعض ـ إنما
حرية التعبير الانتقائية في العالم الغربي ، التي أفرزت ذلك الفيلم
الشيطاني ، لأن مناقشة الحرية وفضح ممارساتها في الحياة الغربية ُتبين عوار
فلسفة الليبرالية للحرية ، التي يبشرون بها ليل نهار ، كما تكشف حجم
المأزق الذي تعيشه الليبرالية الغربية المعاصرة في مسألتي الحرية الدينية
والحرية الفكرية إزاء الأديان . لهذا تلاحظ تعبيرات أدعياء الليبرالية لا
تخرج عن وصف الفيلم بالتافه الذي لا يستحق ردود الأفعال ! ووصف الغاضبين
بالهمجية والسفاهة والحمق ! وللأسف أن بعض الإسلاميين تحدثوا بنفس هذا
المنطق وتناسوا أصل المشكلة وهو موقف العالم الغربي عموماً بمؤسساته
السياسية ، ووسائله الإعلامية ، ودوائره الاستشراقية ، ونخبه المثقفة من
الإسلام . وفي هذا الشأن أشير إلى أن أدعياء الليبرالية كانوا يدعون إلى
(الخيار السلمي) بديلاً عن العنف في التعبير عن الاحتجاج أو الغضب أو
المقاومة مستشهدين بمانديلا وغاندي ، وعندما يمارس المسلمون هذا الخيار
كـ(المقاطعة الاقتصادية) كما فعلوا مع الدنمرك يخرج هؤلاء الأدعياء لوصفها
بالحمق والخطأ وظلم للشعب الدنمركي . فهل يدرك التيار الإسلامي هذا
الاستدراج الفكري من قبل ما يسمى بالتيار الليبرالي ؟ محمد بن عيسى الكنعان *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..