السياسة يقول عنها رجالها، إنها عملية بيعٍ وشراء لا تعرف الأخلاق والمبادئ، فهم يرون أن كل الوسائل، مبررة في عالم السياسة من أجل تحقيق الأهداف. عقلي وضميري لا يوافقان على هذه المقولات ولا أعتقد أن كل رجال السياسة من هذا النوع الميكافيللي، حيث الهدف يبرر الوسيلة، ورغم ذلك يبدو أن هذا هو المبدأ العام المطبق في عالم السياسة الدولية، خصوصاً من قبل الدول المسماة بالعظمى، الّتي تملك قوة المال والسلاح مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
من هذه المقدمة ألج إلى موضوع المقال عن كنه العلاقة بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية. القول الشائع في الداخل والخارج أن المملكة العربية
السعودية تابعة في سياساتها الخارجية والإقليمية والدولية للولايات المتحدة الأمريكية، ليس من الضروري فيما يتعلق بالتفاصيل والجزئيات، ولكن في الاستراتيجيات والتوجه العام. المفهوم المحلي والعام، أن المملكة لا تخرج بعيداً عن الخط السياسي الأمريكي في الشرق الأوسط، مما يجعلها، أي المملكة، غير قادرة على التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية معاملة الند بالند من منطلق المصالح الوطنية. وينبني مفهوم السيطرة الأمريكية على السياسة الخارجية السعودية من مقولة مفادها إن الولايات المتحدة الأمريكية حامية للمملكة العربية السعودية تجاه أي خطر داخلي أو خارجي يهددها. ورغم أن هذه المقولة قد أثبتت الأحداث التاريخية عدم فعاليتها في التطبيق، إلا أنها تتردد من حين لآخر على لسان المحللين وفي أوراقهم البحثية.
الولايات المتحدة لم تقف إلى جانب شاه إيران عندما ثارت في وجهه جماهير الشعب قديماً، والولايات المتحدة لم تقف إلى جانب حسني مبارك وزين العابدين بن علي عندما هبت في وجهيهما ثورة الشباب حديثاً، والولايات المتحدة دخلت إلى العراق وتركته عندما تعاظمت الخسائر عليها في المال والرجال، وكذلك هي فاعلة في أفغانستان. الولايات المتحدة تقبل عندما تكون الحسابات السياسية والمالية في صالحها، وتدبر عندما تزداد عليها الخسارة.
لقد أثبت التاريخ أن الضمانة والحماية الحقيقية لأي نظام حكم، هي شهادة حسن السير والسلوك الصادرة من الشعب المحكوم بذلك النظام وليس قوة الولايات المتحدة المالية أو العسكرية. قد يظن الحاكم أحياناً أن شعبه قد خلد إلى النوم في سبات عميق أو موتٍ إكلينيكي ويرى في ذلك فرصة لبقاءٍ أبدي، لكنه سرعان ما يكتشف أن النار تحت الرماد وأن الفرد يمكن أن يركن إلى القنوط عن الحياة ويخلد إلى النوم أو الموت، أما الشعوب فإنها لا تموت وإن هدأت واستكانت لفترة من الزمن.
المملكة العربية السعودية لا أظنها وبعد أن رأت بأم عينها حركة التاريخ، أن ترهن مستقبلها بيد أي حكومة أمريكية، جمهوريةً كانت أو ديمقراطية، فالمملكة العربية السعودية تعرف اليوم جيداً كما عرف المؤسس الملك عبدالعزيز رحمه الله بالأمس أن قاعدة الحكم وقوته وثباته تقوم على حب الشعب للحاكم واستعداده للتضحية من أجل بقائه وهكذا فعل رجال عبدالعزيز في وجه المحن التي تعرّض لها حتى استقر له الحكم ووحّد البلاد، وهكذا فعل أهل الكويت عندما غزا صدام الكويت وأخرج منها شعبها وحكامها.
قد يرى البعض أن المملكة العربية السعودية غير بقية الدول بالنسبة للأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية، وإذا سألنا لماذا وكيف، فالجواب هو أن المملكة تنام على مخزون هائل من النفط الخام ،والنفط اليوم هو عصب الحياة الاقتصادية للولايات المتحدة وحلفائها شرقاً وشمالاً.
إذن فإن القيمة الحقيقية للمملكة العربية السعودية في ميزان المصالح الوطنية الأمريكية، هو الزيت الخام، وإذا كان هذا القول هو الأقرب للحقيقة، فإن الفصل بين حماية السعودية وحماية آبار البترول أمرٌ ممكن إذا أرادت الولايات المتحدة الأمريكية التضحية بالسعودية والابتعاد عنها وعزلها وحماية آبار البترول السعودية.
وحيث إن الشيء بالشيء يذكر، فالولايات المتحدة لم تهب للوقوف في وجه صدام حسين من أجل حماية السعودية، بل وقفت من أجل حماية مصالحها في الخليج العربي، وكان الأجدر بالمملكة العربية السعودية التي قدمت أرضها ومالها من أجل تأمين مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الخليج، أن تطلب من الولايات المتحدة الأمريكية دفع الثمن المالي والسياسي لهذا الدعم السعودي.
خلاصة القول إن تبرير انضواء السياسة السعودية الخارجية تحت مظلة السياسة الأمريكية لابد أن يكون له أسباب أخرى وجيهة ما دامت سببية الحماية قد سقطت وثبت عدم جدواها الفعلية.
شعب الولايات المتحدة، مُمثلاً في مجلسي الشيوخ والنواب وكثير من زعمائهم ومؤسساتهم الصحفية، لا يرون بشكلٍ عام في المملكة العربية السعودية ما نعتقد أنهم يرونه فينا. فهم يرون أن المملكة العربية السعودية ليست بلداً صديقاً بالمعني السياسي والاستراتيجي، بل إنها بلدٌ يبيع لهم البترول بسعر مرتفع ليس لنا الحق فيه، وأن السعودية كشعب، من الدول الّتي لا تكن لهم الصداقة بل العداء ويشار إلينا مع غيرنا من دول الشرق الأوسط المصدّرة للنفط بأننا دولٌ معادية، هذه الصفة العدائية التي أسبغها علينا السياسيون الأمريكيون من مرشحي الرئاسة أو مجلس النواب أو الشيوخ أو حكام الولايات هي العنوان الرئيس في حملاتهم الانتخابية الداعية إلى عدم الاعتماد على النفط السعودي أو العربي.
الولايات المتحدة الأمريكية ليست الرئيس أوباما وليست وزيرة الخارجية هيلاري كيلنتون، بل إنها الشعب الأمريكي عبر مؤسساته الدستورية ومنظماته المدنية وصحافته المستقلة. ما يقوله الرئيس ووزيرة خارجيته أو من سبقهما من الرؤساء ووزراء الخارجية للسعوديين من رجال الدولة ومن حولهم يدخل في باب المجاملات وحديث المناسبة، أما ما يعكسه الواقع السياسي الأمريكي والمؤسساتي والشعبي، فإن المملكة العربية السعودية ليست البلد الصديق والقريب وإننا لسنا شركاء حقيقيين لهم في مسرح العلاقات الدولية.
الولايات المتحدة الأمريكية لم تعتد منا إلا الطيبة والمسايرة والمجاملة وهذه صفاتٌ في عالم السياسة الخارجية تعني، في عيون الآخرين، الضعف والاستكانة، خصوصاً إن كان الأمر يتعلق بقضية وطنية وقومية أو بقضية اقتصادٍ استراتيجية. الولايات المتحدة كالت لنا، ونحن جزء مهم من هذا العالم العربي، الصفعة تلو الأخرى فيما يتعلق بقضية هي في ضمير كل مواطن، القضية الفلسطينية، ولم تتأثر طبيعة العلاقة السياسية مع الولايات المتحدة.
في الجانب الاقتصادي نغدق على الولايات المتحدة وعلى حلفائها من بترولنا السعودي، والدراسات تشير إلى أن سعره المستقبلي سيكون أعلى من سعر اليوم، وكان الأجدى بنا الاحتفاظ ببعضه للأجيال القادمة، وبالمقابل فإن الولايات المتحدة الأمريكية لا ترى في ذلك إلا أمراً تجارياً بحتاً نحن أصحاب الحاجة إليه، والأكثر من ذلك وأدهى أنها لا تمنح استثماراتنا من الفوائض المالية الناجمة عن زيادة تصدير البترول السعودي لهم ولحلفائهم، أي امتياز أو خصوصية أو معاملة تفضيلية بل على العكس من ذلك، تضع عليه القيود وتحدد مواقعه وحركته.
سياستنا الخارجية مع الولايات المتحدة الأمريكية يجب أن تقوم أساساً على موقف الولايات المتحدة من مصالحنا الوطنية والعربية والإسلامية السياسية والاقتصادية. ولكي تفهم الولايات المتحدة ذلك فإن علينا استخدام كل إمكاناتنا وطاقاتنا الاستراتيجية والنفطية والمالية من أجل الوقوف إلى جانب حقوقنا بكل استقلال وعقلانية وهدوء.
علينا أن نضع مصلحتنا الوطنية والإقليمية والعالمية قبل كل شيء وفوق كل شيء ولا نتردد في استخدام ما نملك من قوة سياسية واقتصادية من أجل إثبات إرادة الفعل والتصميم وحماية مصالحنا.
بقلم : د.عبدالعزيز الدخيل - صحيفة الشرق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..