الأربعاء، 26 سبتمبر 2012

صفحة مطوية بين الشاعرين الكبيرين: محمد القاضي..... وعلي الخياط


هذه نقاط متناثرة عن بعض الراحلين المشهورين من عنيزة.
من هؤلاء شاعران تربعا على عرش الشهرة في عنيزة في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري ( التاسع عشر الميلادي). تميز كل واحد منهما بقوة وعظمة شعره في مجالات معينة.
هما أشهرمن نارعلى علم:
محمد العبد الله القاضي وعلي رشيد الخياط، رحمهما الله


هنا لن أتدخل في اختصاص مجلس " ابن قاضي " ولا " مجلس الشعر والأدب " من ناحية الشعر والأدب، فأنا لا أجيد السباحة كثيراً في هذا المجال، ولذا أتركه لفرسان وفارسات الكلمة في هذين المجلسين، مع تذوقي للأدب والشعر واعتزازي بكل مطارحاتهم ومداخلاتهم الشعرية والأدبية.

حديثي هنا هو عن جوانب تدخل في مجال كشف صفحات مطوية عن " تاريخ عنيزة القديمة " ، ولذلك فالحديث عن هذين الشاعرين الكبيرين هو كالعادة في كل ما أكتب: من منظور تاريخي بحت ومن باب معرفة سواليف وعلوم الأولين التي يقل أن نجدها أو نسمع عنها، أوأحياناً نسمع عنها مشوشة أو منعزلة عن بعضها وظروفها دون رابط كأنها جزرمعزولة عما حولها. فأحاول هنا التوضيح وترتيب الأحداث والأخبارمع التعليق عليها وإعطائها قالباً يجعلها مشوقة ومفهومة تنسجم مع إطارها التاريخي وظروف أهل عنيزة في ذلك الزمان.

لن أتناول الموضوع بالأسلوب التقليدي الذي هو ترجمة حياة كل منهما لأن هذه تقريباً معروفة ومتيسرة لمن أرادها وقد تكون في مكان آخر من هذا المجلس، فبعض ما ينشر لم أتابعه نظراً لكثرة موضوعات ومنتديات " مجلس عنيزة " الذي أتمنى له بجميع منتدياته نمواً وتطوراً إلى الأحسن والأفضل.

محمد العبد الله القاضي عاش بين عامي 1224 و 1285هـ (1809- 1868م )
شاعر عنيزة المشهور له لون معين في الشعر، واشتهربالكرم ونبل الأخلاق، كان واسع الثقافة والإطلاع في زمانه والعلاقات المتعددة مع أناس من داخل وخارج عنيزة بشكل يتناقض أحياناً مع ما يتوقعه أهل عنيزة منه لما هو معروف عنه من حب وطنه عنيزة وانتمائه لها ولكنه استطاع شخصياً أن يوائم بين كل ذلك ولم يجد تناقضاً كما سنلاحظ.

علاقة صداقة قوية مع طلال بن رشيد:

من هذه العلاقات الغريبة علاقته الحميمة بواحد من أشهرأعداء أهل القصيم وعنيزة بالذات من آل رشيد وهو الأمير طلال بن عبد الله بن رشيد ( الذي تولى بعد أبيه مؤسس إمارة آل رشيد وتوفي طلال 1282هـ 1865م منتحراً نتيجة يأسه من مرض لا يرجى برؤه كما قيل.) كانت علاقة صداقة بين الرجلين تجاوزت ظروف تلك الأيام المشحونة بالعداوات والتوتر وقفزت على الحروب المتبادلة بين القصيم وحائل ولم تتأثربها. كانت فترة شهرة القاضي والخياط فترة مضطربة سبق أن أشرت بشيء من التفصيل أثناء الحديث عن " بقعا" و "المليدا" إلى جوانب متعددة من هذا التوتر والإضطراب في العلاقات بين القصيم وحائل لا داعي لإعادة شيء منها.

المهم أن الصديقين الشاعر محمد القاضي والأميرطلال بن رشيد كانا يتبادلان الأخبار والأشعار والهدايا.

عن تبادل الهدايا بينهما تروى قصة طريفة:
يحكى عن محمد القاضي أن طلال بن رشيد مرة من المرات أهدى له كبريت ( وكانت الكباريت جديدة غير معروفة في نجد) حيث إن طلال وصله ثلاثة كباريت هدية من تركيا فأهدى لصديقه القاضي واحداً منها من شدة غلاه عنده. كانت عادة الناس إذا أرادوا يولعون النار إنهم يقبسون يعني يقدحون النار قدحاً بوسائل بدائية ومتعبة، ولذلك يحاول معظم الأهالي إنه يبقى جمرمن الليل تحت الرماد يولعون منه الفجر، واللي ما يبقى عنده شيء يطق على الجيران يسألهم إن كان عنهم شيء يولعون منه أحياناً يلقى وأحياناً ما يلقى، وكانت معاناة شديدة وخاصة وقت الشتاء. كان للقاضي صاحب لهم عادة يتقهوون مع بعض بعد الفجر، أخذ محمد القاضي معه عودين من الكبريت الجديد، ويوم راح لصاحبه وإذا هو يحرث بالرماد يدور الجمر ولكن ما لقى شيء ذاك اليوم. قال له محمد وش تعطين إن ولعت لك الضو من عود الحطب؟ قال صاحبه أعطيك داري ولكن ما تقدر، وشلون تشب من عود حطب لحاله؟ قال القاضي عطني العود وكان مخفي عود الكبريت بين أصابعه ومدخلها بكمه ما يشوفها رفيقه ولا خطرعلى بال رفيقه إن فيه شيء جديد يسمى كبريت. ضغط القاضي عود الكبريت على عود الحطب عند الطرف وشخطه بالوجارفولعت النار وصاحبه يطالع مستغرب وأخذ القاضي الخوصة أو السعفة وقربها للعود وعلى طول ولعت وحطها على الحطب. صاحبه ظن هذا سحر وحط يده على النار ما هو مصدق فالتهبت ورفعها بسرعة وهو يقول أنا أشهد إن هذي معجزة والله لو انك يا محمد ادعيت النبوة فأنا أول من يصدقك فمات القاضي من الضحك، ولا أخبره بالحقيقة إلا بعدين.

للقاضي قصائد يمدح فيها طلال بن رشيد منها قصيدة مشهورة يقول فيها :
طلال لو قلبك حجر أو حديدي ........أمداه من حامي وطيس الوغى ذاب
......................
وكسيت نجد بثوب عز جديدي .........وسلبت روح عداك يا أعز الأقراب
.............................
تلقى الخطوب ببأس ليث شديدي........ وعزايم عزت على عمرو وشهاب
أحيت شجاعة خالد بن الوليدي ..........وانست مقالات لابازيد وذياب

الخ...... والقصيدة طويلة.

جعلت هذه القصيدة أهل عنيزة يزعلون ويشرهون ويتأثرون كيف إن القاضي يمدح عدوهم اللدود الذي يقاتلهم مراراً وقتل منهم ناس، تأثر الأمير زامل وناس كثيرين، كذلك تأثر بحماس شديد من يمكن أن نطلق عليه بحق شاعر " الحماسة " في عنيزة علي الخياط.
قال الخياط من شدة شرهته على القاضي:
علام هرجك يا زبادة يزيدي ..........ضد مدح ضده ولا سرالأقراب
طلال ما له من مديحك مزيدي.......نجم ظهرعزاى لربعه إذا غاب

>> زباده لقب اشتهر به الشاعر محمد القاضي رحمه الله<<

ولكن كما أشرت أعلاه، فـ: محمد العبد الله القاضي لم يعرف عنه أنه خان بلده عنيزة أو رغب عنها ولم ينتقل منها فقد كان مضرب المثل في الكرم والضيافة وحسن المعاملة، كما أن علاقته مع طلال بن رشيد كانت على رؤوس الأشهاد ليست خافية على أحد بمعنى أنها لم تكن في الخفاء بحيث يوالي آل رشيد ضد بلده، بل على العكس كانت صداقة رجل لرجل يقدر كل منهما الآخربغض النظرعن الأمورالأخرى السياسية والعسكرية، لأن طلال رحمه الله نفس الشيء وجد أناساً في حائل كانوا لا يرتاحون لمصادقته للقاضي القصيمي.
ولقد قال القاضي رحمة الله عليه قصائد عصماء في مدح عنيزة وأهلها، من ضمنها هذه الأبيات في واحدة من قصائده المشهورة:
.....................................
.......................................
دار لنا واد الرمه هو شماله........... غربيه الضاحي وشرقيه الجال
دار لنا دار السعد والشكالة .......... ما ساقت الخاوة للاول ولا التال
دار لنجد مشرع كم عنى له.......... لا جى ومحتاج وراج ونزال
حموا حماها بالمراجل رجاله......... لين أوحشوا من جا لجاله بالأفعال
الخ......... هذه القصيدة في حبه واعتزازه بعنيزة.

الشاعر الثاني المشهور في تلك الفترة التي تحدثنا عنها والذي يعرفه الجميع هو شاعر الحماسة الحربية بحق في تلك الظروف التي كانت تمر بها عنيزة على وجه الخصوص والمنطقة على وجه العموم، / علي بن رشيد الخياط/
فكما مر بنا في الكلام على" بقعا " وظروفها و" المليدا " وظروفها الخ كانت الحروب شبه مستمرة، ويحتاج الدفاع عن الوطن لأناس يزيدون حماسة الرجال ويبرزون قيمة بلدهم وأهمية الدفاع عنها بالغالي والنفيس وقد كان الشاعر الخياط أحد أبرز هؤلاء إن لم يكن هو أشهرهم جميعاً. ولا أدل على ذلك من قصائده التي يتغنى بها القاصي والداني في حبه لبلده عنيزة واستماتته في حمايتها بالنفس والنفيس.
ولست هنا للتأريخ للخياط وشعره الحماسي، فقد كتب عنه الكثير وقصائده في حروب عنيزة مع من هاجمها مشهورة جداً، ذكرت في هذا المنتدى وغيره.

إنما أشير إلى بعض ملاحظات يندر أن تذكر.
أولها:
ما ذكرته في الحلقة الأولى من غضبه على الشاعر محمد العبد الله القاضي حين مدح طلال بن رشيد عدو عنيزة وأهلها وقد ذكرت ما قال.
ثانياً:
وهذه قليل من يعرفها عنه رحمه الله، وهي أنه كان يمتلك مخزناً كبيراً مليئاً بأصناف الأسلحة من سيوف ودروع ورماح وبنادق مختلفة الأنواع الخ، كان قد جعلها مبذولة لمن يحتاج من أهل عنيزة وقت الحروب. كما أنه أوقفها وجعلها ( سبيل ) لبلده عنيزة واحتياجاتها متى ما ابتليت بالحروب، لا يورث ولا يباع ولا يوهب من بعده ولا يخرج شيء منها خارج أسوارعنيزة لغير الحرب دفاعاً عنها.
والحقيقة أن من يتأمل هذه الوصية يجد إخلاصاً منقطع النظير من قبل علي الخياط لهذا البلد الذي افنى عمره في حبه وخدمته وأراد أن يستمر في حماسه لخدمتها بعد موته.

ثالثاً:
استمر هذا المخزن الموقوف على خدمة عنيزة أكثرمن سبعين عاماً، حتى فقد بعدها قيمته والحاجة إليه بعد سنين من الأمن والإستقرار. اضطر أحد أحفاد الخياط واسمه /علي العبد الرحمن الخياط / عام 1374هـ إلى أن يستفتي العلماء في مسألة بيع هذا الوقف ونقل قيمته وريعه بجعلها وقفاً على المستحق من ذرية الموصي فأفتوه بذلك.
يذكر الرواة بأن الحراج في سوق عنيزة على محتويات هذا المخزن استمر ثلاثة أيام. وقد بيعت في هذا الحراج بندقية الشاعر (علي) شخصياً المشهورة التي قال فيها:

لي بندق ترمي اللحم لو هو بعيد.........ما وقفت بالسوق مع دلالها

وقد وقفت مع دلالها في يوم من الأيام بعد سنين طويلة وهذا ما لم يخطر ببال الشاعر حين قال ما قال، فسبحان مغيرالأحوال!!!
رابعاً:
وهذا الشيء الذي يحزن في نهاية الخياط رحمة الله عليه. فقد حصل بينه وبين الأمير زامل رحمه الله فيما بعد خلاف واشتد عليه زامل ولم يتمكن الخياط من إرضائه، فاضطرمكرها لمغادرة بلده وحبيبته عنيزة عام 1306هـ إلى بريدة، وقد انتقل من عنيزة وهو يحمل مرارة ما بعدها مرارة، حتى أنه قال بعد أن حمل أمتعته على الإبل يخاطب داره التي تركها غصباً عنه لأنه لا يقدرعلى حملها معه:

يا دار لو الزمل تقوى تشيلك........ لشد بك من ديرة جزت منها
الهد بالفاروع ما يستوي لك......... والبيع ما كل يقدر ثمنها.

فالمحزن جداً هنا ما قاله في البيت الأول:"
لشد بك من ديرة جزت منها "
فهذا الخياط الذي هام بحب عنيزة واستمات في الدفاع عنها وبذل في سبيلها الكثير، وعرض نفسه لأن يخاطبه قبل سنوات أحد شعراء العارض المعادين أثناء حرب كون المطر، بقوله:
جيناك يا الخياط يا عفن العبيد
هاهو يأتي يوم يقول رغماً عنه بأنه جاز عن أو من عنيزة!!!

ومن تفهم ظروفه وقتها لن يلومه، وقد مات في بريدة رحمه الله بعد استقراره فيها بفترة قصيرة.

وهناك قصة أخرى طويلة تروى بشأن سمعة بندقية الخياط المشهورة وكيف أنها إذا ذكرت ذكر الخياط حيث طار صيته وصيتها في البلدان، وكانت سمعتها الطيبة مصدرشرف ووجاهة لأولاده وأهل عنيزة وخدمتهم فيما بعد، إنما نتركها خشية الإطالة.

من الصادر: كل ما كتب عن الشاعرين القاضي والخياط، والروايات الشفهية، وكذلك مخطوطة " النجم اللامع" لـ: محمد العلي العبيد، ( في أماكن متفرقة)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..