جمعني وإياه لقاء وهو الخبير في القضايا والمحاكم وأحوال الناس وإصلاح ذات البين
فلان ملتزم ولكنه يضرب زوجته بلا رحمه وقضيتها لدينا بالمحكمة
ثم عرج وقائل فلان المتدين يحرم أهل بيته من المصروف والنفقة وهم في حال لا
يصدقه أحد وهم صابرون محتسبون لا يريدون أن يشكوه إلى بلاط القضاء !! ثم
سلهم بعينه إلى السماء وقال :
لقد اتصلت بي مساء أمس امرأة مسنة تبكي وتشكي من عدم رؤيتها أحفادها من سنوات
بسبب أن أمهم التي تدرس البنات الشريعة وأمور الدين وفضائل صلة الرحم قد منعتهم من ذلك !!
لم يتوقف هذا الحديث ذو الشجون على هذا العتبة بل كان حديثاً متصاعداً في ما يندى له الجبين
من المظالم والمغارم و السلوكيات والتصرفات التي لا أشك أنه لا يقدم عليها
من يعلم أنه سيقف أمام ملك الملوك ذات يوم حيث كل نفس بما كسبت رهينة.
هذا الرصد الطويل للمسلكيات التي يقوم بها من يوصفون مجازاً بالمتدينين
يحتاج إلى أفق أوسع للنظر وإعطاء الأحكام وتفسير السلوك وقراءة الحالات وتوصيف الممارسات .
أدركت في قرارة نفسي أن فكرة التدين مشوشة في أذهان العامة
حيث يغلب عليها الحكم المظهري على الناس فقط وهو في تقديري حكم متعجل يحتاج إلى تفكر وتبصر .
وتعود الإشكالية في نظري للصورة الذهنية المفتقدة للدقة لوصف المتدين وصفاته
حيث مازالت تسيطر على الناس فكرة التدين الشكلي
وأنه هو المعيار الوحيد للحكم على الانسان بفضائل التدين وحمائد السلوك الراقي والرشيد للإنسان المسلم القريب من الله عزفي علاه .
ضلت فكرة التدين الشكلي حاضرة في عقول الناس وهي معيار الحكم في العمل والتجارة والزواج والتقديم في الصلاة
وربما قيادة الناس وتوجيههم في نوائب الحياة وعوارض الزمن
و هذا طبيعي في مجتمعات إسلامية الهوية والمرجعية
ولكن الذي لا اره طبيعياً ان يكون الحكم متعجلاً على الآخرين بهذا الطريقة التي تتناقض مع الأناة المحمودة شرعاً .
وهذه الأحكام لها آثارها المستقبلية في تناقض الجوهر الداخلي مع السمت الخارجي
وهنا يكون الانفصام واضح بين جوهر الشريعة ومقاصدها العظيمة وبين سلوك الإنسان الطبيعي
الذي يجب أن تتطابق جوارحه مع ما يستقر في جنانه وروحه من قيم ومعتقدات وأفكار حاكمة .
وعليه فصورة التدين السامية تم اختراقها من خلال بعض ضعاف النفوس الذي لا يبحثون إلا عن الانتفاع أو القبول الاجتماعي
أو تسير الاعمال أو مجارات السائد العام للمجتمع
وعليه أصبح قناع التدين مشكلة كبرى يعاني منها المجتمع الذي عرف بأنه مجتمع يغلب عليه الطيبة والسماحة وحسن الظن
وهي سمات ايجابية لو جمعت مع العمق في التفكير والحكمة في التحرير والتقرير .
ويبرز لنا في هذا السياق العام النص الشهير لحديث رسول صلى الله عليه وسلم
" إن الله لا ينظر إلى صوركم و أموالكم ولكن ينظر قلوبكم وأعمالكم "
رواه مسلم
وهذا طرح يجب أن يكون موجهاً للمسلمين ومرشد لهم في هذا الأمر الحساس والدقيق من حياتهم
التي جاء الإسلام ليكون منهج حياة ونظام عمل وخارطة طريق وإطاراً عاماً لمعيشة البشر بتفاصيلها وكلياتها .
وهذا النص تحديداً يؤكد بما لا يدع مجال للشك أن الفكرة المركزية للتدين هي التدين العميق الراسخ في ضمائر الناس وعقولهم
والملهم لسلوكياتهم وأفعالهم الحاكم لضمائرهم
والمعزز لأعمالهم ومبادراتهم الايجابية والمجدية المرتقي بمعيشتهم المهذب لنزواتهم وأهوائهم والمصلح لأنفسهم .
تدين يرتقي بالإنسان ومن حوله , ويقربهم إلى الله زلفى
وليست عباءة ترتدى متى شاء الإنسان وتخلع متى شاء
بكل أسف حيث يتحول التدين الشكلي إلى عادة أكثر منها أيمان واقتناع واختيار .
وهذه هي الصورة الحقيقية التي يجب في نظري أن نرسمها للمتدين الحق
فهو مظهر وجوهر قول وعمل
ولا يتم الأول إلا ببقاء الثاني واستقراره ورسوخه في جنبات النفس ودهاليز الضمير .
وهنا يطرق المخيلة سؤال عابر للقارات وهو عن
أسباب انتشار التدين الشكلي على حساب التدين الجوهري ؟؟
فهل لأن الأول أسهل من الثاني وأهون على النفس
أم لأن فكرة التدين الحقيقي لم تصل إلى عقول الناس
وقلوبهم وضمائرهم بشكل صحيح ومناسب وملائم للنفس البشرية التي تحب التدرج في الصلاح والإصلاح
و هل نحن نخير في دين الله أم نجبر
وهل هي ضريبة المجتمعات التقليدية أو أنه ضيق أفق الحرية الشخصية لعب دور في تنميط الناس
وجعلهم نسخاً من بعضهم البعض رغم أن اختلاف التنوع يعد من ضرورات الحياة وفيه يكون التكامل البشري .
وبعد أن نعود للشارع الاسلامي وماذا يريد من الإنسان
فتقف أمامنا على سبيل المثال لا الحصر فكرة التقوى
والتي وضعها الدين معياراً مهماً للصلاح والتدين
وهي فكرة يخالط فيها الباطن الظاهر
ولكن الثاني يلغب على الأول وهو أساس له ومنطلق لأعماله ومخرجاته .
وهنا أعتقد أن إصلاح المجتمعات وإطلاق فاعليتها وقدراتها يتطلب عملاً أعمق في حقل القناعات والمعتقدات أكثر من الوعظ فقط
والذي
له أثر كبير ولكنه قصير الأجل شأنه شأن أي خطاب عاطفي وهنا تبرز قيمة
التوازن بين خطاب العقل والعاطفة في ميادين الدعوة إلى الله
وهي التي ولا شك تصنع النموذج الإسلامي الحضاري للإنسان
القوي في فكرة والمطمئن في روحه والمتصالح مع نفسه والمتسق مع حياته والمتعايش مع المتغيرات من حوله .
إن فكرة التدين فكرة عظيمة في المحتوى والمعاني
ولكنها ظلمت عندما تعاطينا معها بسطحية
وظلمت مرة أخرى عندما حُولت إلى أشكال وملابس وازياء مفرغة من أي مضمون سامي .
وهي لعمري أنها فكرة عظيمة ملهمة نستطيع من خلالها أن نبهر العالم بأخلاقنا ورقينا ونجاحنا في أعمالنا ومشاريع حياتنا
وصدق جنانا وتطابق دواخلنا من ظاهرنا الذي هو عنواننا الذي يقرأه الناس من أول وهلة .
إن المشروع النهضوي والحضاري الإسلامي معلق بجيل يتعاطى مع الدين على أنه
وقود الحياة ودستور للعمل ونظام بشري ملهم و حاكم أكثر من كونه طقوس يومية
يتعامل البعض معها على أنها عبئ أكثر من كونها جرعات يومية لبناء الانسان المسلم النموذجي
الذي اراده الله ونفخ فيه من روحه واعطاه فرصة العيش والحياة على هذا الكوكب .
هل نفكر قليلاً أن التدين الحقيقي يجعلنا أقل ظلماً وأكثر عدلاً
أكثر سماحة وأقل غلاً , أكثر حباً وأقل حقداً , أكثر وسطية وأقل تشدداً أكثر إيماننا وأقل ارتباك
تدين يٌعمل العقل ويتأمل النص , تدين يوازن بين الروح والعقل والجسد , تدين
يعمر الدنيا ويستثمر عيشها ويجعل من رحلة الحياة وقود الفوز لرحلة السرمد في الآخرة .
هل نجعل من التدين جوهره ومظهرة باعثاً للأمل فينا والتوازن والسعادة والتألق
هل نجعل من التدين الحقيقي باعثاً للصدق والجد والمثابرة والكفاح .
في أيامنا هذه بالذات نحن نحتاج إلى
أن نفكر كثيراً في سؤال كبير علينا أن نسأله أنفسنا وهو
ما هو الإنسان الذي أراده الله أن يكون خليفته في الأرض وهل انت ذلك الإنسان الذي أراده الله ؟؟
.....
سلطان بن عبدالرحمن العثيم
مستشار ومدرب معتمد في التنمية البشرية والتطوير CCT
باحث في الفكر الإسلامي والسيرة النبوية الشريفة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..