الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام
على نبينا الكريم الأمين, وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين, أما
بعد:
فإن من دلائل نبوة رسول الإسلام والسلام بشارات مبثوثة في تضاعيف
الكتاب
المقدس لدى أهل الكتاب, وربنا جل وعلا قد بين ذلك فقال: "الذين آتيناهم الكتاب
يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون"
(البقرة: 146) وقال جل وعز: "الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون
أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون" (الأنعام: 20)
ومن براهين المعرفة بنبي الإسلام لدى أولئك
القوم بشارة على لسان موسى عليه السلام مفصلة على محمد صلى الله عليه وسلم, كذلك
على لسان غيره من أنبياء بني إسرائيل, وسنتكلم عن بشارتين من العهد القديم..
أولاً: البشارة
الموسوية: «أقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلك»
وهي بشارة على لسان موسى عليه السلام: «قال
لي الرب قد أحسنوا فيما تكلموا، أقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلك، وأجعل كلامي
في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم
به باسمي أنا أطالبه» (تثنية 18: 17ــ 21).
فهذا النص واضح في تعيين محمد صلى الله عليه وسلم،
وليس كما زعم النصارى أنه عيسى عليه السلام (أعمال 3: 22ــ 26)(1)، ويظهر ذلك
بالتأمل، وإليك بعض الإشارات والتلميحات(2).
1ــ أنه نبي «أقيم لهم نبيًا» والنصارى
يدّعون الألوهية لعيسى فكيف يكون نبيًا، _وهذا من باب إلزامهم بقولهم وإن كان
باطلاً وإلا فعيسى من سادة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام_ بل يدعي الأرثوذكس أنه
الله نفسه ــ تعالى الله عن ذلك وتقدس ــ ولو كان كما زعموا لقال: أقيم لهم نفسي
أو إلهًا..
2ــ أنه من غير بني إسرائيل «من وسط إخوتهم» أي من وسط إخوة
إسرائيل وهم أبناء عمومتهم وبنو عمومتهم هم أبناء عيسو بن إسحاق وبنو إسماعيل بن
إبراهيم، ومن المعهود في التوراة إطلاق لفظ الأخ على ابن العم «أنتم مارون بتـخم
إخوتكم بني عيسو» (تثنية 2: 4)، وفي وصف أدوم وهو من ذرية عيسو(3) «لا تكره
أدوميًا لأنه أخوك» (تثنية 23: 7) فسمّاه أخًا وأراد أنه من أبناء عمومة إسرائيل،
وبما أن أحدًا من بني عيسو لم يدع النبوة فلم يبق إلا محمد صلى
الله عليه وسلم الذي من ذرية إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام، ولاحظ قوله: «أقيم لهم»
حتى لا يتطرق الشك إليهم أن هذا النبي خاص بالعرب فقط.
كما لا يقبل في أي لغة من لغات الأمم أن بني
إسرائيل هم إخوة بني إسرائيل كما أن إخوة زيد لا يدخل فيهم زيد نفسه.
3ــ من خصائص هذا النبي أنه
مثل موسى الذي لم يقم في بني إسرائيل مثله «ولم يقم نبي في
إسرائيل مثل موسى» (تثنية 34: 10)، أي صاحب شريعة عامة متكاملة مثل موسى عليه
السلام _وإن كانت في حقيقتها أكمل لمحمد صلى الله عليه وسلم لكنها الأشبه بها من
ناحية كلية عامة _وهذه الخصلة المثلية لا تتحقق إلا في نبي الله محمد صلوات الله
وسلامه عليه، وهي ممتنعة في أخيهما المسيح عليه السلام، فهناك أوجه تشابه كبيرة
بين محمد وبين موسى لا نجدها في المسيح ابن مريم عليهم الصلاة والسلام، مثل ميلادهما
الطبيعي، وزواجهما، وكونهما صاحبي شريعة، وكل منهما بعث بالسيف على عدوه، وكلاهما
قاد أمته وملك عليها، وهذا كله غير متحقق في عيسى عليه السلام (4).
4ــ من صفات هذا النبي أنه
لا يقرأ ولا يكتب (أمي) والوحي الذي يأتيه شفاهي «وأجعل كلامي في فمه» أما المسيح فكان
قارئًا «وقام ليقرأ» (لوقا 4: 16). قال الله تعالى في القرآن العظيم واصفاً نبيه
الخاتم: "فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي" [الأعراف: 158].
5ــ أنه يتمكن من الناس
ويبلغهم كل دينه وشرعته «يكلمهم بكل ما أوصيه به» وهذا منطبق تمام الانطباق على من نزل عليه قول
الله تعالى "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام
دينا" [المائدة: 3]، وقد وصفه أخوه المسيح بذلك: «وأما المعزّي الروح القدس
الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم» (يوحنا 14: 26)
ثم تأمل ما يقوله المسيح عن نفسه وعن ما
يقوله عن المنتظر بعده في هذا الصدد: «إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا
تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم
من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به» (يوحنا 16: 12، 13) فهذا النص يبين أن هناك أمور لم يذكرها
المسيح لتلاميذه، وأن المنتظر الذي «يسمع ما يتكلم به» وهو القرآن الكريم «فهو يرشدكم» والمراد
جنس المؤمنين وليس خصوص هؤلاء التلاميذ. كل نبي قد أخذ الله عليه العهد والميثاق
لئن بعث محمد وأنت حي لتتبعنه قال تعالى: "وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما
آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقرتم
وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين" [آل
عمران: 81].
6ــ أن الذي لا يسمع لكلام
هذا النبي الذي يتكلم بكلام الله سيطالبه الله ويعاقبه «ويكون ابن الإنسان
الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه» فهو نبي واجب السمع والطاعة،
والذي لا يسمع لكلامه يعاقبه الله، وهو ما حاق بجميع أعداء نبي الله صلى الله عليه
وسلم من العرب والفرس والروم والوثنيين واليهود والنصارى، فهذا النبي هو الحجر
الصلب الذي يسحق أعداءه «الحجر الذي رفضه البناؤون هو قد صار رأس الزاوية، من قِبلِ الرب
كان هذا وهو عجيب في أعيننا. لذلك أقول لكم إن ملكوت الله ينزع منكم (أي
بني إسرائيل) ويعطي لأمة تعمل أثماره، ومن سقط عليه هذا الحجر يترضض ومن سقط
عليه هو يسحقه» (متى 21: 43، 44)(5)، وقد بشر به وبمملكته النبي دانيال عليه
السلام«يقيم إله السماوات مملكة لن تنقرض أبدًا... وهي تثبت إلى الأبد» (دانيال 2: 21ــ 45)
أما المسيح عليه السلام فلم تكن له هذه القوة والمنعة لحكمة يريدها الله الحكيم
سبحانه.
7ــ وفي آخر النبوءة الموسوية بيان أن هذا
النبي يخبر بالغيوب المستقبلية. ويصدّق الواقع كلامه بنبوءات كثيرة جدًا من
نبوءات محمد صلى الله عليه وسلم ومن ذلك وحي الله إليه بغلبة الروم للفرس في بضع
سنين ــ والبضع من الثلاث إلى العشر على الصحيح(6) ــ "الم . غلبت الروم . في
أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون . في بضع سنين" [الروم: 1ــ 4]، مع أن المعطيات الأرضية
وقتها كانت في البداية راجحة بكفة الفرس تمامًا، ففي عام (617م) كادت
دولة فارس أن تبيد دولة الروم تمامًا، ولكن وقعت المفاجأة بتحقق النبوءة المستبعدة
وقتها في أذهان غير المؤمنين بالوحي ككفار قريش الذين راهنوا أبا بكر على ذلك
فغلبهم، ففي عام (627م) هزم الرومان الفرس، ولغرابة المفاجأة
وجلالها أوفى هرقل بنذره الذي كان قد عقده إن نصره الله أن يحج لبيت المقدس ماشيًا
من حمص.
فمن هذا النبي العظيم الذي تنبأ هذه النبوءة
العالمية؟! إنه نبي الحق صلى الله عليه وسلم، وهو النبي الذي تنبأ به يعقوب
وموسى وداود وحبقوق ودانيال والمسيح وغيرهم عليهم السلام.
قال المؤرخ إدوار جين: «في ذلك الوقت حين
تنبأ القرآن بهذه النبوءة لم تكن أية نبوءة أبعد منها وقوعًا لأن السنين الاثنتي
عشر الأولى من حكومة هرقل كانت تؤذن بانتهاء الإمبراطورية الرومانية»(7).
وآية سورة الروم لعلها نزلت في حدود سنة
(618م) وقد راهن مشركو قريش أبا بكر الصديق على ذلك فكسب الرهان (8) بل الأبعد من
ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصرته الأحزاب في المدينة النبوية، وكادت
تسحق المدينة كان يبشر أصحابه بفتح اليمن وفارس والروم!! فما دارت الليالي والأيام
حتى انفقت كنوزها في سبيل الله وقد فتحت على توالي ترتيبه في بشارته، فصلى الله وبارك على هذا
النبي الصادق الكريم.
ومما يؤكد أن هذه الصفات مجتمعة لم تتوافر
في غيره من الأنبياء؛ أن اليهود قالوا ليوحنا المعمدان ــ يحيى بن زكريا عليهما
السلام ــ: «آلنبي أنت . فأجابهم لا»
(يوحنا 1: 21) أي هل أنت النبي المنتظر؟
أما المسيح عليه السلام فإنه لما رأى من
أتباعه الرغبة في أن يُملّكوه لتتحقق به النبوءة التوراتية هرب منهم للجبل لعلمه
أنه بشير ممهد لذلك النبي الخاتم صلوات الله وسلامه عليهم. وقد كان اليهود يتهكمون
بالمصلوب وينعتونه بملك اليهود ــ سخرية واستهزاءً ــ وقد كتبوا ذلك فوقه بثلاث
لغات، لحسرتهم على فوت النبي المنتظر الذي يملك رقاب الأمم.
ثانياً: بشارة أمة
الملكوت الجديد «أمة محمد صلى الله عليه وسلم».
لما بدّل بنو إسرائيل وغيّروا نزع الله
منهم النبوة والكتاب، وأعطاها لأمة أخرى ومنحها الخيرية على من سواها، فمن هذه
الأمة المصطفاة؟
إنها الأمة الأمية (العرب) الذين لم ينزل
عليهم كتاب ولم يبعث فيهم نبي ــ من عهد قريب ــ «أصغيت إلى الذين لم يسألوا
وُجِدتُ من الذين لم يطلبوني. قلت هاأنذا هاأنذا لأمة لم تسم باسمي» (إشعيا 65:
1ــ 3) إنها لم تتسم باسم الله لأنها لم تنل النبوة من قبل ــ من زمن قريب ــ
ويؤكد ذلك سفر حزقيال «إني أنا الرب وضعتُ الشجرة الرفيعة ورفعت الشجرة الوضيعة وأيبست
الشجرة الخضراء وأفرخت الشجرة اليابسة. أنا الرب تكلمت وفعلت» (حزقيال 17: 22) وهذا
ما حصل في شجرة بني إسرائيل التي حكم الله عليها بالاتضاع واليبوسة لقطع الخيرية عنهم
وتحويلها إلى أمة جديدة لم تنل النبوة من قبل أي من الفرع الإسماعيلي بعد إسماعيل
عليه السلام، أما عموم العرب فقد بعث فيهم هود وصالح وشعيب عليهم السلام، في
صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله اصطفى كنانة من ولد
إسماعيل واصطفى قريشًا من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم» (9)
قال تعالى: "وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض
كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم بعد خوفهم
أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فؤلئك هم الفاسقون" [النور:
55].
وهذه الشجرة هي التي عناها يوحنا المعمدان
ــ يحيى عليه السلام(10) ــ: «والآن قد وضعت الفأس على الشجرة فكل شجرة لا تضع ثمرًا جيدًا تقطع
وتلقى في النار. أنا أعمدكم بماء التوبة"(أي توبوا وارجعوا إلى الله لأن وقت
خيريتكم قد اقترب زواله إن لم ترجعوا إلى تعظيم الله وتحقيق دينه) "ولكن الذي يأتي بعدي هو
أقوى مني الذي لست أهلاً أن أحمل حذاءه هو سيعمدكم بالروح القدس ونار» (متى 3: 10، 11) أي
بالقرآن الكريم بالجهاد في سبيل الله تعالى، ونحو هذا في (لوقا 13: 6ــ 9).
وفي إنجيل برنابا الفريد _وهو من الأبو كريفا
أي غير المعترف به_ : «قال المسيح عليه السلام لتلاميذه ما أسعد الزمن الذي
سيأتي فيه إلى العالم.. يا محمد ليكن الله معك وليجعلني أهلًا أن أحل سير حذائك...» (برنابا 5: 44).
لقد كان المسيح عليه السلام هو الفرصة
الأخيرة لبني إسرائيل للإبقاء على الاصطفاء والاختيار لهم ــ شرعًا لا قدرًا ــ«وقال له يا سيد
اتركها هذه السنة أيضًا حتى أنقب حولها وأضع زبلا، فإن صنعت ثمرًا وإلا ففيما بعد
تقطعها» (لوقا 13: 8، 9) فقد وضع الفأس على أصل الشجرة فلما كفروا به وحاولوا قتله قطعت
الشجرة الخضراء ويبست، وأزهرت شجرة أخرى كانت يابسة لم تظهر فيها النبوات(11) من لدن إسماعيل
عليه السلام. فكانت هذه هي الأمة التي سلطها الله على بني إسرائيل كما فعل رسول الله صلى
الله عليه وسلم بيهود بني قينقاع والنضير بإجلائهم، ثم قتله وسحقه لبني قريظة حيث
قتل قرابة (700) رجل لما نقضوا العهد المؤكد معه وغدروا به في أحلك المواقف لما
استدعوا وحالفوا القبائل الوثنية على استئصال الإسلام، وإبادة خضرائه فقتل هؤلاء
ثم أجلى إخوتهم أهل خيبر وتيماء وفدك بفعله أو بوصيته. فكما أنه نبي الرحمة فهو
نبي الملحمة، وهو الضحوك القتال صلوات الله وسلامه عليه.
ولقد
بشر به وبأمته النبي حزقيال عليه السلام وبأنهم من يكون هلاك الدجال على أيديهم (على اعتبار أنه ملك
اليهود في آخر الزمان وهو المسيح الدجال الذي حذرت منه جميع الأنبياء، ويكون هلاكه
على يد هذه الأمة المحمدية التي تشرف بانضمام مسيح الهدى والإيمان عيسى ابن مريم
إليها في آخر الزمان عند نزوله ويكون هو من يقتل الدجال بحربته) «أنت أيها النجس الشرير
رئيس إسرائيل الذي قد جاء يومه في زمان إثم النهاية، هكذا قال السيد الرب انزع
العمامة وارفع التاج هذه لا تلك ارفع الوضيع وأضع الرفيع منقلبًا منقلبًا منقلبًا
أجعله (ولعل ثلاثية الانقلاب اليهودية زمانية ومكانية، فالانقلاب هو
الرجوع، فالأول طرد بني قيقناع وإجلاؤهم من المدينة، والثاني طرد بني النضير كذلك
وإجلاؤهم، والثالث إجلاء أهل خيبر وفدك وتيماء خارج جزيرة العرب على عهد عمر رضي
الله عنه بوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أخرجوا اليهود والنصارمى من جزيرة
العرب حتى لا أدع إلا مسلمًا» متفق عليه، وقال: «لا يترك بجزيرة العرب دينان»(12)
أما الرابعة (قريظة) فقد تم استئصالهم فلم يحدث انقلاب أصلًا، وعلى ذلك النمط
قتلهم في آخر الزمان على يد المسيح عليه السلام والمسلمين) "هذا لا يكون حتى
يأتي الذي له الحكم فأعطيه إياه» (حزقيال 21: 25ــ 27)، والذي له الحكم هو خاتم الأنبياء محمد بن
عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فرفعت العمامة أي نسخت الشريعة التوراتية
فالعمامة رمز للكهنة الهارونيين الموكلين بأمر الشريعة في أسباط بني إسرائيل «إلى
قدام العمامة تكون. فتكون على جبهة هارون، فيحمل هارون إثم الأقداس التي يقدسها
بنو إسرائيل.. وتصنع العمامة من بوص.. فتكون على هارون وبنيه عند دخولهم إلى خيمة
الاجتماع أو عند اقترابهم إلى المذبح للخدمة في القدس لئلا يحملوا إثمًا ويموتوا.
فريضة أبدية له ولنسله من بعده» (خروج 28: 37ــ 43)، فتنزع العمامة ويرفع التاج
وهو ملك أمة أحمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فـ "الحجر الذي رفضه
البناؤون قد صار رأسًا للزاوية . من قبل الرب كان هذا . وهو عجيب في أعيننا»(مزمور 118: 22، 23) كما
قال تعالى: "ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي
الصالحون" [الأنبياء: 105]) لكنه الآن صار حقيقة واقعة (وقد أشار لنحو ذلك
رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «إن مثلي ومثل الأنبياء
من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية، فجعل الناس
يطوفون به، ويعجبون به، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة وأنا خاتم
النبيين») (13) وقد بين المسيح عليه السلام سبب ذلك بأنهم يعملون بشريعة
الله تعالى «تعمل أثماره» (متى 21: 43).
وفي سفر التثنية ذكر أن هذه الأمة المختارة
ستغيظ بني إسرائيل، وكالعادة تسللت أيدي الأحبار الآثمة لتصم هذه الأمة المحمدية
بالغباء لتشفي غيظهم الذي لم يحن سببه بعد! «فرأى الرب ورذل من
الغيظ بنيه وبناته وقال أحجب وجهي عنهم وأنظر ماذا تكون آخرتهم... أغاظوني بأباطيلهم
فأنا أغيرهم بما ليس شعبًا بأمة غبية أغيظهم" (وقد دعانا للقول بأن المقصود
هي أمة الإسلام أن افتتاح الإصحاح التالي (33) «... وتلألأ من جبال فاران» ) وهذه الإغاظة لها شاهد
في القرآن الكريم قال تعالى: "محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار
رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من
أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستوى
على سوقه يعجب الزراع ليغيض به الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة
وأجراًعظيماً" [الفتح: 29].
أما في إشعيا فثمّت نبوءة جميلة جليلة،
ووصية إلهية لمن كان فيه بقية خير من أسباط بني إسرائيل الذين نزلوا أرض العرب أن
ينصروا ذلك الهارب (المهاجر) إلى المدينة، وأن يعينوه على مشركي قومه (ولكن الذي حدث هو
العكس كما في غزوة الأحزاب حينما ألبّت وجمعت وحزبت بنو قريظة قريشًا وغطفان على
حرب المسلمين واستئصالهم، وكما دس يهود خيبر السم في طعامه، وكما أراد اليهود
اغتياله عن طريق إلقاء الرحى عليه من سطح الدار وغير ذلك كثير، وهم لم يحفظوا وصية
الله في أنبيائهم فلم يقرّ قرارهم حتى قتلوهم ناهيك عن نبي من غيرهم _بني قيدار_وهم
غالب قريش التي هي صريح ولد إسماعيل ــ «إن كنتم تطلبون فاطلبوا
ارجعوا تعالوا، وحي من جهة بلاد العرب (وفيها مكة المكرمة) في الوعر في بلاد العرب
تبيتين يا قوافل الددانيين(الددانيون: هم سكان تيماء في شمال الحجاز (14) وهم بقية الأسباط
الإسرائيلية هناك، وفي هذا إشارة إلى جميع اليهود الذين حول المدينة ــ في الوعر
في بلاد العرب ــ ومعلوم وعورة أرض المدينة وخيبر وفدك وتيماء، وقوة حصونهم
كالنطيح والسلالم وحصون اليهود في المدينة، والمطلوب منهم في هذا النص حماية ذلك
النبي المهاجر العطشان وإيواءه ونصرته) هاتوا ماءً لملاقاة العطشان(لقد اضطر صلوات الله
وسلامه عليه في هجرته أن يسلك طريقًا غير معهودة مما زاد المسافة والمشقة عليه) يا سكان تيماء وافوا
الهارب بخبزة فإنهم من السيوف قد هربوا( وقد أذن الله تعالى بالهجرة لرسوله صلى الله
عليه وسلم من مكة إلى المدينة لما تحالف كفار قريش على اغتياله)... قال السيد في مدة
سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار» (إشعيا 21: 6ــ 16). والمراد بفناء مجد قيدار إما فتح مكة
بالأيدي المسلمة، أو غزوة بدر في السنة الثانية لأنها بداية فناء مجد مشركي قريش
وقتل سراتهم وهو أظهر للتوقيت بالسنة وهو مقارب لغزوة بدر، ولأن لفظ قريش إذا أطلق
في ذلك الوقت فإنه يختص بأهل مكة محل سكناهم، أما فتح مكة فهو عز قريش الحقيقي
بانقلابها على الشرك إلى التوحيد والإيمان. ولاحظ ذكره لاسم قيدار دون أبيه النبي
إسماعيل عليه السلام.
هذا وقد استجاب بعض أحبار اليهود لهذا النداء
الرباني ومن سادتهم وكبرائهم ابن الهيبان فقد ترك الشام ونزل
يثرب (المدينة) قبل البعثة، وكان صالحًا بارًا عالمًا كثير الصلاة، ولما حضرته
الوفاة جمع من حوله من اليهود وقال: «يا معشر يهود ما ترون أخرجني إلى أرض الجوع
والبؤس؟» فقالوا: «أنت أعلم» فقال: «فإني قدمت هذه البلدة أترقب خروج نبي قد أظل
زمانه فلا تُسبقن إليه يا معشر اليهود» ثم مات. ولما حاصر النبي صلى الله عليه
وسلم بني قريظة قال ثلاثة منهم وهم ثعلبة وأسد بن سعية وأسد بن عبير ــ وكانوا
شبابًا أحداثًا ــ: «يا بني قريظة والله إنه النبي الذي عهد إليكم فيه ابن
الهيبان» قالوا: «ليس به» قالوا: «بلى والله إنه لهو» فنزلوا وأسلموا وأحرزوا
دماءهم وأموالهم وأهلهم(15).
كذلك قاله مخيريق اليهودي حين صاح في قومه في
غزوة أحد: «يا معشر اليهود والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم حق»(16) قالوا:
«فإنه اليوم السبت» قال: «لا سبت لكم» ثم أخذ سلاحه وخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأحد
وكان يوم السبت، وعهد إلى من ورائه من قومه «إن قتلت هذا اليوم فمالي لمحمد يصنع
فيه ما أراه الله تعالى» فقاتل حتى قتل مع المسلمين، فكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: «مخيريق خير يهود»(17).
وفي
نبوءة أشعياء(18) السابقة إخبار ووصف لحال هذه الأمة المختارة الجديدة وأنها
ستُسقط أصنام بابل «فرأى رُكَّابًا أزواج فرسان، ركاب حمير، ركاب جمال... أزواج من
الفرسان فأجابه وقال سقطت بابل وجميع تماثيل آلهتها المنحوتة» (إشعيا 21: 7ــ 9) ومن المعلوم أن تماثيل
وأصنام بابل لم يهدمها ويسقطها إلا المسلمون.
وفي نبوءة إشعيائية أخرى يبشر النبي إشعيا عليه
السلام بفتوح المسلمين لفارس والروم على يد الأمة القادمة من المشرق «من أنهض من المشرق
الذي يلاقيه النصر، عند رجليه دفع أممًا أمامه، وعلى ملوك سلطه، جعلهم كالتراب
بسفيه...» (إشعيا 41: 2ــ 4).
ودليل وصف بلاد العرب بالمشرق «اصعدوا إلى
قيدار أخبروا بني المشرق» (إرميا 49: 28).
وفي ذات السفر وصف البهجة والسرور من انتصار
ذلك النبي العظيم «لترفع البرية ومدنها صوتها. الديار التي سكنها قيدار. لتترنم سكان
سالع مع رؤوس الجبال ليهتفوا(وهو هتاف الحج أو الجهاد ولا شك أن الأول مترتب على الثاني، وقد
مر التعليق على أول هذه الفقرة في مقال سابق وقد بقي فيها زيادات هامة أخرناها
لهذا الموضع) ليعطوا الرب مجدًا... هو ذا عبدي الذي أعضده (وهذا سبب ابتهاج وفرح
تلك البلاد والبقاع أي بنصر الله تعالى لمختاره) مختاري الذي سرت به
نفسي. وضعت روحي عليه (أي يؤيده بالروح القدس, وهو جبريل عليه السلام، وقد قاتل دونه في
بدر وأحد، كما ألقى الرعب في قلوب بني قريظة وزلزلهم، وكذلك القرآن الكريم روح من
الله "وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا" [الشورى: 52]) "فيخرج الحق للأمم لا
يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته" وهي من أوصافه صلى الله عليه وسلم، وفي
مسند أحمد بسنده عن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله
عنهما، فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة. فقال: «أجل،
والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن "يا أيها النبي إنا أرسلناك
شاهداً ومبشراً ونذيراً" [الأحزاب: 45] وحرزًا للأميين، وأنت عبدي ورسولي،
سميتك المتوكل، لست بفظ ولا غليظ، ولا سخاب بالأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة
ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله
إلا الله، فيفتح بها أعينًا عميًا، وآذانًا صمًا، وقلوبًا غلفًا» ووافقه كعب
الأحبار على ذلك.(19) "قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة خامدة لا يطفئ" (ومن صفاته صلى
الله عليه وسلم في تعبده أنه «إذا عمل عملاً أثبته» رواه مسلم، و«كان عمله ديمة»(20)
وكان يقول: «أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل» متفق عليه) "إلى الأمان" (وهي كلمة
مقاربة لمعنى الإسلام فكلاهما سلامة وأمان ولعلها محرفة عنها ) "ويخرج الحق. لا يكل ولا
ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته» (إشعيا 42: 1ــ 4) وفي
الحديبية لما رفضت قريش دخوله مكة ليعتمر قال: «إنا لم نجىء لقتال أحد ولكن جئنا
معتمرين... فإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا ــ أي الإسلام ــ وإلا
فقد جموا، وإن أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد
سالفتي ــ أي حتى أموت، والسالفة: صفحة العنق ــ أو لينفذن الله أمره»
وهذا في غاية الثبات واليقين والثقة بنصر الله له والعزم على الجهاد في سبيله، وإنها لكلمة تغني عن
رسائل طوال، بل إنها كلمة تغني عن معركة (21)
فمحمد صلى الله عليه وسلم هو الفاتح الذي لا
ينكسر، والذي أخرج الحق لكل أمم الأرض، قال تعالى: "هو الذي أرسل رسوله
بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً" [الفتح: 28].
وفي السفر ذاته وعيد بني إسرائيل بالنبي
الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب إن هم كفروا به «وصارت لكم رؤيا الكل
مثل كلام السفر المختوم الذي يدفعونه لعارف الكتابة قائلين اقرأ هذا، فيقول لا أستطيع لأنه
مختوم" (فالأنبياء الذين يحسنون القراءة والكتابة كالمسيح عليه
وسلم لا يعطون القرآن بل خاص بالنبي الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب صلى الله عليه
وسلم) "أو يدفع لمن لا يعرف الكتابة ويقال له اقرأ فيقول: لا أعرف الكتابة...» (إشعيا 29: 10ــ
18) في جميع الترجمات العالمية: «لا أعرف القراءة» ما عدا الترجمات
العربية!! وسبب التحريف ظاهر وهو صرف العرب عن هذه النبوءة الصريحة التي
تحققت في غار حراء لمحمد صلى الله عليه وسلم، حينما غطه جبريل عليه السلام في
بداية الوحي ثلاث مرات وهو يقول له: اقرأ، فيجيبه: «ما أنا بقارئ» وفي الثالثة يتلو
عليه أول آية من كتاب الله تعالى: "اقرأ باسم ربك الذي خلق" [العلق: 1].
رواه البخاري.
ولا زال اللفظ العبراني
لهذا السفر يقرأ: «كرا» وهي تعني القراءة ولا الكتابة. وهي إشارة إلى أول آية نزلت
على قلبه صلى الله عليه وسلم "اقرأ" [العلق: 1]، وعلى كل
حال فالكتابة والقراءة متلازمان فمن لا يكتب، فمن باب أولى أن لا يقرأ، فهل بقي
لأهل الكتاب من حجة؟!
والحمد لله رب العالمين
وصلى الله وسلم على محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
إبراهيم الدميجي
26 ذو القعدة 1433
……………
(1) «ويرسل يسوع المسيح المبشر به لكم قبل.. فإن
موسى قال للآباء إن نبيًا مثلي سيقيم لكم الرب إلهكم من إخوتكم...».
(2) ينظر: الجواب الصحيح (5/ 202، 203).
(3) وفي بعض مراجع التاريخ (عيصو).
(4) وقد وُفّق الدكتور أحمد حجازي السقا في
بيانها وسردها في كتابه (البشارات بنبي الإسلام في التوراة والإنجيل).
(5) وسيأتي شرح هذه النبوءة في موضعها إن
شاء الله تعالى.
(6) كما حقق ذلك الإمام النووي في كتاب
الإيمان من المنهاج.
(7) تاريخ سقوط وانحدار الإمبراطورية
الرومانية، أدوار جين (5/ 74)
(8) (الترمذي/ 3193)،
(9) صحيح مسلم (6077) ورواه البخاري في
تاريخه والترمذي بزيادة: «إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل» في أوله، وفيها
مقال.
(10) سنقدم بعض بشارات العهد الجديد
لاتصالها ببشارات العهد القديم.
(11) ينظر: هل بشر الكتاب المقدس بمحمد صلى
الله عليه وسلم، د. السقار ص61ــ 69.
(12) رواه أحمد (2/ 2759)
(13) متفق عليه.
(14) كما في (قاموس الكتاب المقدس) ص370
(15) الطبقات الكبرى، ابن سعد (1/ 160)،
سيرة ابن هشام (1/ 213).
(16) وهذا تنفيذ لنص الوصية في إشعيا من
مخيريق وهو من أحبار اليهود وأعلمهم بالتوراة من بني قينقاع وكان من أغناهم وكان
له سبعة حوائط أوصى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلها رسول الله صلى الله
عليه وسلم صدقة، واختلف في إسلامه ونص الواقدي على أنه أسلم وقتل شهيدًا والله
أعلم.
(17) الوفاء بأحوال المصطفى صلى الله عليه
وسلم، ابن الجوزي (1/ 58)، سيرة ابن هشام (1/ 1518).
(18) ويذكر إن أشعياء هو أحد أنبياء وملوك
بني إسرائيل، وأنه استشهد في أيام منسي بن حزقيا، حيث شقه بالمنشار نصفين. دائرة
المعارف الكتابية، مادة (أشعياء). ويقال: (إشعيا) ومثله أرمياء (إرميا).
(19) مسند أحمد (6444)
(20) البخاري (1886)
(21) وانظر: معالم
السنن، للإمام الخطابي (2/ 14).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..