في هذه الظروف التي يكثر
فيها الحديث عن المظاهرات وحدت أن الكثيرين أبدوا
رأيهم ا في حكمها بين مجيز ومانع لكن أكثرهم –كما بدا لي - انطلق
في حكمه من قناعة مسبقة لا قناعة أنتجها بحثه , ورصدوا لذلك أحاديث نبوية وقواعد
شرعية لم أتصور بعد وجهاً بيِّناً لمطابقتها لمواضع استدلالهم وخرجت بانطباع : أن
أكثر تلك الاستدلالات يبدوا التكلف فيها ظاهراً .
شئٌ مهم في تقديري بحثت
عنه في كلِّ ما قرأته من فتاوى في هذه الجزئية لكنني لم أجده , ولعله وُجِد في
الأعمال التي لم أقرأها وهي أكثر بكثير مما قرأت , لهذا أعتذر ممن لم أقرأ ما
كتبوا ويرون أنهم أجابوا بوضوح عن هذا الشئ المهم الذي كنت أبحث عنه .
كنت أبحث عن إجابة لسؤال
مُلحٍ في ذهني , وهو : هل المظاهرات إرادة تعبير أم إرادة تغيير؟
جواب هذا السؤال هو الذي
لم أجده واضحاً فيما قرأت من فتاوى عن المظاهرات , مع أنني أزعم أنه مهم جداً إن
لم أقل ضروري لإبداء رأيٍ بهذا الشأن لا
من الناحية الشرعية وحسب بل من الناحية القانونية في الاصطلاح الديمقراطي ومن
الناحية الأخلاقية أيضا.
أحد من قرأت له ذكر في
مقدمة فتواه أن المظاهرات وسيلة للتعبير وللتغيير وللضغط على الحكومات , فجمع بين
هذه الأغراض الثلاثة ثم أصدر فيها حُكماً واحداً , وكأنه لا يرى أن التفريق في
الأغراض مؤثِّرٌ في تغيير الحكم .
وآخر انطلق في حديثه من
كونها وسيلة للتعبير لكن سياق كلامه في التقرير يُخالف ذلك فهو يتحدث عن التغيير
لا مجرد التعبير.
وهذا مما أعُدُّه خلطا لا
يمكن معه الوصول إلى رأيٍ دقيقٍ في المسألة .
وبما أن المظاهرات هي من
الناحية العملية جاءتنا من الغرب الديمقراطي وجدت من المناسب أن أراجع مفهومهم هم
لها , وهل يعُدُّونها من باب الرأي أو التغيير , وهل لهذا التفريق أثر عندهم أم لا
؟ .
قمت لأجل الإجابة على هذا
السؤال باستعراض عدد من الدساتير الأوربية عبر شبكة قانونيي الشرق http://dostor.eastlaws.com/ فوجدتها متفقة على
أن المظاهرات حق في التعبير , ولهذا اتفقت جميع القوانين على والمواثيق الدولية
لحقوق الإنسان على حق الدول في وضع قانون ينظم هذه المظاهرات والتجمعات السلمية ,
ولا يوجد أي وثيقة دولية أو قانون يُطلق الحق في المسيرات والتظاهرات دون تقيد بالنظام
, بل إن جميع هذه المواثيق تتفق على حق الدول في منع أي تجاوز في التظاهر لحدود ما
هو مصرح به .
ومن أشهر هذه المواثيق :
العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والاقتصادية , والاتفاقية الأوربية ,
والاتفاقية الأمريكية , والميثاق الإفريقي (بنجول ).
ويُمكِنُنا الاقتصار في ضرب
الأمثلة على نص المادة 21 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية , تقول المادة
:( يكون الحق في التجمع السلمي معترفا به. ولا يجوز أن يوضع من القيود على
ممارسة هذا الحق إلا تلك التي تفرض طبقا للقانون وتشكل تدابير ضرورية، في مجتمع
ديمقراطي، لصيانة الأمن القومي أو السلامة العامة أو النظام العام أو حماية الصحة
العامة أو الآداب العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم) .
وفي هذه المادة نصٌ على
الأحكام التالية :
1- أن القانون مُخَوَّل لفرض قيود على التجمع .
2- أن هذا التجمع يجب أن لا يتنافى مع مبادئ الديمقراطية , ومعنى ذلك
أنه لا يُشَكِّل فرضاً لوجهة نظر المتظاهرين , وهو المعنى الذي تؤكده الجملة
الأخيرة من المادة (أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم)
3- أن القوانين التي تُفرض على المُتظاهرين يجب أن تراعي حماية الأمن
القومي والسلامة العامة والنظام العام والصحة العامة .
إذاً فهناك إجماع دولي
على عدم قانونية التظاهر خارج حدود القانون , وقد أكد هذا الإجماع العهد الدولي المتقدم
الإشارة إليه حيث جاء نصه :(فيما تمنح جميع معاهدات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية للأفراد الحق في حرية الاشتراك في الجمعيات والتجمع السلمي، فهي تتيح للدول فرض قيود معينة على تلك الحقوق للأسباب وبالشروط المحددة فيه) , وهذا النص يؤكد على إجماعين للمواثيق الدولية : أحدهما : على
حرية الأفراد في التجمع السلمي , الآخر : تقييد هذه الحرية بالقيود القانونية
بالأسباب والشروط المحددة في كل قانون .
أما إلى أي حد يمكن للدولة
أن تقف في وجه المظاهرات المخالفة للضوابط القانونية , فقد بينه الفصل الخامس عشر من
دليل التدريب على رصد حقوق الإنسان والصادر عن مفوضية حقوق الإنسان سنة 2001 حيث
جاء في الفقرة 8 من البند ج تحت عنوان : معيير استعمال القوة من جانب الموظفين
المكلفين بإنفاذ القوانين , ما نصه :(
تتمتع
عموما
السلطات
المحلية والوطنية على السواء بسلطة السيطرة على المظاهرات لصالح استعادة النظام العام. ويوجد لدى قوات الشرطة في بعض البلدان بما فيها القارة الأوروبية
واليابان
والولايات
المتحدة
الأمريكية
فرق
شبه
عسكرية
متخصصة
في السيطرة
على
الشغب،
وهي
فرق
مدربة
للتعامل
مع
المظاهرات(
إذاً فالغرب الديمقراطي يقر استخدام القوة لمنع خروج المظاهرات عن
ضوابطها القانونية , بل ولديهم قُوات خاصة للمظاهرات .
ولمعرفة هل يسمح النظام الدولي باستعمال القوة ضد المتظاهرين بشكل غير
قانوني , نقرأ المادة 12 من المبادئ الأساسية لاستعمال القوة من جانب الموظفين
المكلفين بحفظ القوانين , وهذه المبادئ اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة لمنع الجريمة
سنة 1990 تقول المادة 12:(
حيث
إن لكل شخص الحق في المشاركة في التجمعات القانونية والسلمية
طبقا للمبادئ المنصوص عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، تعترف الحكومات والوكالات والموظفون
المكلفون بإنفاذ القوانين بأنه لا يجوز استعمال القوة والأسلحة النارية إلا طبقا للمبدأين 13و14)
ومع الاستمرار في قراءة المبادئ وننظر في المبدأين 13و14 الذين تمت
الإشارة إليهما نجد أن المبدأ 13 يُقرر أن الأصل عدم استخدام القوة لكنه ينتهي إلى
جواز استعمالها في الحد الحد الأدنى الضروري (في
تفريق التجمعات التي تكون غير قانونية ولكنها لا تتسم بالعنف، يتفادى الموظفون المكلفون بإنفاذ القوانين استعمال القوة، أو، حيثما لا يكون ذلك ممكنا عمليا، يقيدون استعمالها إلى الحد الأدنى الضروري)
أما المادة 14 من مبادئ استعمال القوة من الموظفين المكلفين بحفظ
القوانين , فإنها تعالج مسألة إطلاق النار على المتظاهرين بشكل غير نظامي والذين
استخدموا العنف في تظاهراتهم , فتنص على أن استعمال الأعيرة النارية في تلك الحالة
ليس هو الأصل لكنه مع ذلك يجوز في أشد الحالات ضرورة , وهذا نص المبدأ (في
تفريق التجمعات التي تتسم بالعنف،لا يجوز للموظفين المكلفين بإنفاذ القوانين استعمال الأسلحة النارية إلا إذا آان استعمال وسائل أقل خطورة غير عملي وألا تستعمل إلا في أضيق الحدود الضرورية)
هذه النظرة السريعة , في
المصادر الحقوقية الدولية تُنتِج لنا حكماً قانونياً وهو أن المواثيق الدولية
تعتبر التظاهر حقاً متى كان وسيلة للتعبير , أما حين يتجاوز هذا الأمر فيُصبح
وسيلة للتغيير فإنه لا يُعد حقاً , لأنه يكون حينذاك مُتجاواً حدود القانون الذي
نصَّت المواثيق على وُجُوب انضباطها به .
وهذا ما يُفسر لنا القمع
الذي تمارسه الدول الغربية على المتظاهرين حين يتجاوزون حدود الإذن ابلمظاهرة أو
حدود ما نُظِّمَت المظاهرة من أجله .
وحين نفرِّق في الفتوى بين
ما كان وسيلة للتغيير وما كان وسيلة للتعبير , فإننا نكون قد جمعنا بين آراء
المُجيزين والمانعين للمظاهرات من علماء الشريعة .
فحين يسمح نظام دولة ما
بالتظاهر في الحدود التي لا تتجاوز حدَّ التعبير عن مطلب مباح شرعاً , وفي الإطار
القانوني الذي ارتضته تلك الدولة كي يحول دون تشكيل ضرر على الأمن القومي والسلامة
العامة والأمن الوطني والأمن الصحي والآداب العامة وحقوق الآخرين كما هو تعبير
المادة 21 من العهد الدولي سالفة الذكر, فإن التظاهر حين ذاك لا مانع منه شرعاً بل
هو وسيلة تعبير جسدية كما أن كتابة المقالات والخطب وسيلتا تعبير قولية وهما أي المقالات والخطب مرتبطتان أيضا بحماية
المصالح , فمتى ما كانت الكتابة والخطابة غير منضبطتين بضوابط الشرع أو مؤديتان
إلى ما تقدم من التعديات أو شئ منها فإنها لا تجوز .
أما حين يكون التظاهر
ممنوعاً في نظام دولة ما , أو كانت مطالب المتظاهرين غير مباحة شرعاً كتحليل محرم
أو تحريم مباح , أو كانت خارجة عن مقصد التعبير إلى مقصد التغيير , أو خارجة عن
الترتيبات القانونية لذلك البلد ومؤدية بذلك إلى ما تقدم من مفاسد فإنها تكون
محرمة .
ودليل الإباحة في المسألة
الأولى هو أصل الإباحة الشرعي متأيداً بإذن النظام .
أما دليل التحريم في
الثانية , فهو الأصل في وجوب الالتزام بالنظام , المُعبر عنه في كتاب الله تعالى
بطاعة أولي الأمر (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر
منكم )وأصل منع المفاسد (ولا تبغ الفساد في الأرض).
هذا والحمد لله رب
العالمين
محمد بن إبراهيم السعيدي
مكة في18/12/1433هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..