الأحد، 18 نوفمبر 2012

الأعشى يمدح رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم

يعد الأعشى من شعراء الجاهلية المبرّزين، وقد عرف أنه كان يتكسب بالشعر يمدح به سادات العرب، كما تقول الروايات: إنه جاب الجزيرة العربية ونزل على ساداتها من أشراف العرب مادحًا لهم، نائلاً من عطائهم.

 ولما ظهرت دعوة الإسلام وهاجر رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - إلى المدينة، يذكر الرواة أن الأعشى خرج قاصدًا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليمدحه على ما جرى من عادته مع أشراف العرب، وكان - على ما يبدو - قد أعد قصيدة في مدحه - صلَّى الله عليه وسلَّم - فلقيه أبو سفيان بن حرب، وثناه عن الوصول إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وقال لأهل مكة: اتقوا لسان الأعشى؛ فإنه ذاهب يمدح محمدًا، فجمعت له قريش مائة من الإبل عطاء له؛ على أن يرجع عن الوصول إلى المدينة، كما أخبروه أن محمدًا يحرِّم الخمر، فقال: أتروَّى منها سنة ثم أعود.

 ورجع الأعشى، فمات في نفس العام، ورويت هذه القصيدة عنه.

 ولقد شكك فريق من النقاد في نسبة هذه القصيدة إلى الأعشى، ولكن فريقًا آخر من النقاد يصحح نسبتها إليه، وهو ما نميل إليه.

 وقبل أن نتناول القصيدة بالعرض والتحليل، نعرضها كاملة بين يدي القارئ.



القصيدة:
(1) مدخل
حال الأعشى مع الدَّهر
أَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاكَ لَيْلَةَ أَرْمَدَا
وَبِتَّ كَمَا بَاتَ السَّلِيمُ مُسَهَّدَا
وَمَا ذَاكَ مِنْ عِشْقِ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا
تَنَاسَيْتَ قَبْلَ اليَوْمِ خُلَّةَ مَهْدَدَا
وَلَكِنْ أَرَى الدَّهْرَ الَّذِي هُوَ خَائِنٌ
إِذَا أَصْلَحَتْ كَفَّاي عَادَ فَأَفْسَدَا
شَبَابٌ وَشَيْبٌ وَافْتِقَارٌ وَثَرْوَةٌ
فَلِلَّهِ هَذَا الدَّهْرُ كَيْفَ تَرَدَّدَا
وَمَا زِلْتُ أَبْغِي الْمَالَ مُذْ أَنَا يَافِعٌ
وَلِيدًا وَكَهْلاً حِينَ شِبْتُ وَأَمْرَدَا
وَأَبْتَذِلُ العِيسَ الْمَرَاقِيلَ تَغْتَلِي
مَسَافَةَ مَا بَيْنَ النُّجَيْرِ فَصَرْخَدَا
أَلاَ أَيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ يَمَّمَتْ
فَإِنَّ لَهَا فِي أَهْلِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا
فَإِنْ تَسْأَلِي عَنِّي فَيَا رُبَّ سَائِلٍ
حَفِيٍّ عَنِ الأَعْشَى بِهِ حَيْثُ أَصْعَدَا


(2) وصف الناقة
فَأَمَّا إِذَا مَا أَدْلَجَتْ فَتَرَى لَهَا
رَقِيبَيْنِ: جَدْيًا لاَ يَغِيبُ وَفَرْقَدَا
وَفِيهَا إِذَا مَا هَجَّرَتْ عَجْرَفِيَّةٌ
إِذَا خِلْتَ حِرْبَاءَ الظَّهِيرَةِ أَصْيَدَا
أَجْدَّتْ بِرِجْلَيْهَا النَّجَاءَ وَرَاجَعَتْ
يَدَاهَا خِنَافًا لَيِّنًا غَيْرَ أَحْرَدَا
فَآلَيْتُ لاَ أَرْثِي لَهَا مِنْ كَلاَلَةٍ
وَلاَ مِنْ حَفًى حَتَّى تَزُورَ مُحَمَّدَا


(3) مدح وبيانٌ لخطوط الرسالة والتشريع
مَتَى مَا تُنِيخِي عِنْدَ بَابِ ابْنِ هَاشِمٍ
تُرِيحِي وَتَلْقَيْ مِنْ فَوَاضِلِهِ نَدَى
نَبِيٌّ يَرَى مَا لاَ يَرَوْنَ وَذِكْرُهُ
أَغَارَ لَعَمْرِي فِي البِلاَدِ وَأَنْجَدَا
لَهُ صَدَقَاتٌ مَا تَغِيبُ وَنَائِلٌ
وَلَيْسَ عَطَاءُ اليَوْمِ مَانِعَهُ غَدَا
أَجِدَّكَ لَمْ تَسْمَعْ وَصَاةَ مُحَمَّدٍ
نَبِيِّ الإِلَهِ حَيْثُ أَوْصَى وَأَشْهَدَا
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى
وَلاَقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا
نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لاَ تَكُونَ كَمِثْلِهِ
فَتُرْصِدَ لِلمَوْتِ الَّذِي كَانَ أَرْصَدَا
فَإِيَّاكَ وَالْمَيْتَاتِ لاَ تَقْرَبَنَّهَا
وَلاَ تَأْخُذَنْ سَهْمًا حَدِيدًا لِتَفْصِدَا
وَلاَ النُّصُبَ الْمَنْصُوبَ لاَ تَنْسُكَنَّهُ
وَلاَ تَعْبُدِ الأَوْثَانَ وَاللهَ فَاعْبُدَا
وَذَا الرَّحِمِ القُرْبَى فَلاَ تَقْطَعَنَّهُ
لِعَاقِبَةٍ وَلاَ الأَسِيرَ الْمُقَيَّدَا
وَصَلِّ عَلَى حِينِ العَشِيَّاتِ وَالضُّحَى
وَلاَ تَحْمَدِ الشَّيْطَانَ وَاللهَ فَاحْمَدَا
وَلاَ السَّائِلَ الْمَحْرُومَ لا تَتْرُكَنَّهُ
لِعَاقِبَةٍ وَلاَ الأَسِيرَ الْمُقَيَّدَا
وَلاَ تَسْخَرَنْ مِنْ بَائِسٍ ذِي ضَرَارَةٍ
وَلاَ تَحْسَبَنَّ الْمَالَ لِلمَرْءِ مُخْلِدَا
وَلا تَقْرَبَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا
عَلَيْكَ حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا



(2)

هو ميمونُ بن قيسٍ، وُلِد في قرية (منفوحة) من اليمامة، في قومه بني قيسِ بن ثعلبة، وهم بطنٌ من بطون بكرِ بن وائل بن ربيعة، عُرِفوا بالفصاحة، فنشأ الأعشى على سنَنِ فصاحتهم، وقد لُقِّب بالأعشى؛ لأنَّه كان أعشى العينَيْن، وكُنِي بأبي بصير؛ تفاؤلاً له بشفاء بصَرِه، وقيل: بل كُنِي بذلك؛ لنفاذ بصيرته، ولقد أُطلق عليه لقب "صناجة العرب"؛ حيث كان يتغنَّى بشِعْره، ولِما كان لشعره من حسٍّ موسيقي ونغمٍ مرهف تميَّز به على شعراء الجاهليَّة.



وكان الأعشى في أوَّل أمرِه راوِيةً لِخاله المسيَّب بن علس أحد شعراء بكرٍ المقدَّمين، ولَما توثَّقت شاعريَّتُه شرع يَطوف في البلاد بين العراق والشام، يمدح المَناذِرَة والغساسنة وأُمراء العرب؛ طلبًا للنَّوال والعطاء، وقد قيل: إنَّه زار بلاد الفرس وأرْضَ النَّبط، ونجران، وبلاد حِمْير، على أنَّ هناك رواياتٍ بالغَتْ فذكَرَت أنَّه وصل في رحلاته إلى الحبشة.



ولقد كانت هذه الرحلات عاملاً من عوامل توسيع أفُقِه الشِّعري وإمداده بثقافة تاريخيَّة، فأورد في شعره بعضَ أخبار قبائل العرب البائدة، وملوك فارس؛ يقول الأعشى:
وَقَدْ طُفْتُ لِلمَالِ آفَاقَهُ
عُمَانَ فَحِمْصَ فَأُورَى شَلَمْ
أَتَيْتُ النَّجَاشِيَّ فِي أَرْضِهِ
وَأَرْضَ النَّبِيطِ وَأَرْضَ العَجَمْ
فَنَجْرَانَ فَالسَّرْوَ مِنْ حِمْيَرٍ
فَأَيَّ مَرَامٍ لَهُ لَمْ أَرُمْ



يقول عنه الدكتور شوقي ضيف: "والأعشى في شعره لا يَعيش لمديح السَّادة والأشراف، وأخْذِ نوالهم فحَسْب؛ بل هو يعيش أيضًا لقبيلته ومُنازعاتها الكبيرة مع بكرٍ ضدَّ الفرس؛ ففي ديوانه مطوَّلةٌ يهدِّدهم فيها، ويتوعَّدهم كما يتوعَّد مَن يقف معهم من العرب مثل إياد، وهو يعيش كذلك في مُنازعات قبيلته مع بني شيبان، فيتعرَّض بالوعيد والتهديد ليزيدَ بنِ مسهرٍ الشيباني، على نحو ما تصوِّر ذلك معلَّقتُه، فإذا حدثَتْ مُنازعات صُغرى بين عشيرته وأبناء عمومتِهم من عشائرِ قيس بن ثعلبة ناصرها، ذاكرًا ما بينهم وبينها من أواصر الرَّحم، على نحو ما نرى في قصائده التي وجَّهها إلى بني جَحْدر وبني عبدان، وقد اصطدم عند الأخيرين بشاعرهم جُهُنَّام، فتهاجيا طويلاً"[1].



ويواصل الدكتور شوقي ضيف حديثَه عن الأعشى، فيقول: "ويُقال: إنَّه لما سمع بالرَّسول - صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم - وانتصاراته وانتشارِ دعوته، رغب في الوفود عليه ومديحه، وعلمَتْ قريشٌ بذلك فتعرَّضت له تَمْنعُه، وكان مما قاله له أبو سفيان بنُ حرب: إنَّه يَنْهاك عن خِلالٍ ويُحرِّمها عليك، وكلها بك رافِق، ولك مُوافق، قال: وما هنَّ؟ فقال أبو سفيان: الزِّنا والقمار والرِّبا والخمر؛ فعدَل عن وِجهتِه، وأهدَتْه قريشٌ مائةً من الإبل، فأخذها، وانطلق إلى بلده معرِضًا عن الرسول ودعوته؛ فلما كان بقاع منفوحة، رمى به بعيره، فقتله سنة 629 للميلاد"[2].



لقد اشتَهَر الأعشى شهرةً عظيمة، وكان لشعره تأثيرٌ عظيم، حتَّى لقد عدَّه ابن سلاَّمٍ الجُمَحيُّ في الطَّبقة الأولى من الطبقات العَشر لِفُحول الشُّعراء بعد امرئ القيس والنَّابغة وزُهَير، كما أنَّ للنُّقاد القدامى أقوالاً فيه، تدلُّ على عظيم منزلتِه الشِّعرية لديهم، ويُكْثِر الأعشى من وصف الصحراء، ووصف النَّاقة، وهذا طبيعيٌّ؛ لكثرة رحلاته وأسفاره، وهو في الموضوع يَجْري على عادة الجاهليِّين؛ فيُصوِّر الأودية وما يجري فيها من ظلامٍ، أو سموم، أو مياه أمطار، كما يصوِّر طرقها الوعثة، ورمالَها ومَناهلها، ووحشتها، وعزيف الجن ليلاً بها، يقول في معلقته:
وَبَلدَةٍ مِثْلِ ظَهْرِ التُّرْسِ مُوحِشَةٍ
لِلجِنِّ بِاللَّيْلِ فِي حَافَاتِهَا زَجَلُ
لاَ يَتَنَمَّى لَهَا بِالقَيْظِ يَرْكَبُهَا
إِلاَّ الَّذِينَ لَهُمْ فِيمَا أَتَوْا مَهَلُ
جَاوَزْتُهَا بِطَلِيحٍ جَسْرَةٍ سُرُحٍ
فِي مِرْفَقَيْهَا إِذَا اسْتَعْرَضْتَهَا فَتَلُ



وفي قصيدة أخرى يصور فلاة مقفرة، فيقول:
وَفَلاةٍ كَأَنَّهَا ظَهْرُ تُرْسٍ
لَيْسَ إِلاَّ الرَّجِيعَ فِيهِا عَلاَقُ
قَدْ تَجَاوَزْتُهَا وَتَحْتِي مَرُوحٌ
عَنْتَريسٌ نَعَّابَةٌ مِعْنَاقُ
عِرْمِسٌ تَرْجُمُ الإِكَامَ بِأَخْفَا
فٍ صِلاَبٍ مِنْهَا الْحَصَى أَفْلاقُ



ولقد أجاد كذلك في وصف الخَمْر، بل هي موضوعُه الذي تميَّز به حتَّى قيل: إنه أشعَرُ الطَّبقة الأولى إذا طرب، يقول الأعشى:
وَكَأْسٍ شَرِبْتُ عَلَى لَذَّةٍ
وَأُخْرَى تَدَاوَيْتُ مِنْهَا بِهَا
لِكَيْ يَعْلَمَ النَّاسُ أَنِّي امْرُؤٌ
أَتَيْتُ الْمَعِيشَةَ مِنْ بَابِهَا



والآن إلى استعراض قصيدته في مدح النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم.



(3)

يبدأ الأعشى هذه القصيدةَ على غير عادته في قصائده كلِّها، على مدار ديوانه؛ إذْ مُقدِّماته كلُّها خمريَّة أو غزَلِيَّة، يتخلَّلُها وصفُ النَّاقة والسُّرى في الصَّحراء على ظهور العِيس، ولكنَّنا في هذه القصيدة نجده كأنَّما يودِّع عهد الهوى والخمر، وينظر نظرةَ الحكيم المجرِّب، ويشكو حاله المسهَّد؛ حيث لم تغمض عيناه؛ بسبب ما أصابَها من الرَّمَد النَّاتج عن طول السَّهر والسُّهد لا بسبب الصَّبابة والهوى، ولكن بسبب ما خرج به من معرفته بالدَّهر الذي إذا أصلح شيئًا عاد فأفسده:
أَلَمْ تَغْتَمِضْ عَيْنَاكَ لَيْلَةَ أَرْمَدَا
وَبِتَّ كَمَا بَاتَ السَّلِيمُ مُسَهَّدَا
وَمَا ذَاكَ مِنْ عِشْقِ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا
تَنَاسَيْتَ قَبْلَ اليَوْمِ خُلَّةَ مَهْدَدَا
وَلَكِنْ أَرَى الدَّهْرَ الَّذِي هُوَ خَائِنٌ
إِذَا أَصْلَحَتْ كَفَّاي عَادَ فَأَفْسَدَا



إنَّ صاحبته (مَهْدَد) قد تَناسى خُلَّتَها التي كانت بينه وبينها، فهو وإن كان مسهَّدًا إلاَّ أن ذلك ليس بسبب العشق، كما كان حاله من قبل؛ وإنَّما بسبب ما يراه من تقلُّب الدَّهر به، ومن أمورٍ يريد صَلاحها فيفسدها الدهر.



ثم يتأمَّل حالة الأضداد التي تنطوي عليها الحياةُ وينطوي عليها الدَّهر، الذي يتقلَّب الإنسانُ فيه بين شيبٍ وشباب، وغِنًى وافتِقار، كل ذلك يأخذه إلى السُّهد، حينما يتقلَّبُ هذه الأحوالَ المتقلِّبة المتردِّدة من أحوال الدهر:
شَبَابٌ وَشَيْبٌ وَافْتِقَارٌ وَثَرْوَةٌ
فَلِلَّهِ هَذَا الدَّهْرُ كَيْفَ تَرَدَّدَا

 

إنَّنا نلمح بريق الحكمة يلمع في أبيات الأعشى؛ حيث لم نعتَدْ على ذلك كثيرًا في قصائده الأُخَر، التي يتقاسَمُها المديح والخمر والغزَل، ووَصْف النَّاقة والسَّفر في دروب الصحراء.



ثم إنه كأنَّما يندم على ما كان عليه حالُه طولَ دهْرِه من سفرٍ في طلب المال بالمديح، والسَّير بين مناطق الجزيرة من سيِّد إلى سيِّد، يطلب عند الجميع الغنى والمُؤانسة والثَّروة والصُّحبة، يقول الأعشى:
وَمَا زِلْتُ أَبْغِى الْمَالَ مُذْ أَنَا يَافِعٌ
وَلِيدًا وَكَهْلاً حِينَ شِبْتُ وَأَمْرَدَا
وَأَبْتَذِلُ العِيسَ الْمَرَاقِيلَ تَغْتَلِي
مَسَافَةَ مَا بَيْنَ النُّجَيْرِ فَصَرْخَدَا



والنُّجَيْرُ وصرخد موضِعان، لعلَّ الأعشى قد مرَّ بهما في سفراته الطِّوال.



لقد مرَّ به عمرُه مذْ كان يافعًا وحتَّى صار كهلاً قد شابت ناصيتُه في طلب المال، ثم ها هو اليوم يُخاطب صاحبته:
فَإِنْ تَسْأَلِي عَنِّي فَيَا رُبَّ سَائِلٍ
حَفِيٍّ عَنِ الأَعْشَى بِهِ حَيْثُ أَصْعَدَا



عند هذا البيت ينتهي شوط القصيدة الأوَّل، وهو المدخل للقصيدة، وهو مدخلٌ يَتناسب تمامًا مع موضوع القصيدة؛ حيث لم يَعُد للشَّاعر أربٌ في مال، وصار مسهَّدًا؛ لأنَّه يطلب اليقين الذي يحلُّ به طلاسم الدَّهر:

"شَبَابٌ وَشَيْبٌ وَافْتِقَارٌ وَثَرْوَةٌ"



إنَّه يجد هذا اليقين قد تجسَّد في يثرب؛ حيث النبيُّ الذي يرى ما لا يَراه غيره - صلَّى الله عليه وسلَّم - فهو سائرٌ إليه:
أَلاَ أَيُّهَذَا السَّائِلِي أَيْنَ يَمَّمَتْ
فَإِنَّ لَهَا فِي أَهْلِ يَثْرِبَ مَوْعِدَا



وهو يصف سيره المُتسارع بناقتِه، ويُراعي النُّجوم في سفره، ويراقبها طوال الطَّريق إلى غايته:
فَأَمَّا إِذَا مَا أَدْلَجَتْ فَتَرَى لَهَا
رَقِيبَيْنِ: جَدْيًا لاَ يَغِيبُ وَفَرْقَدَا



والجَدْي والفرقد من النُّجوم التي يراها السَّائر ليلاً في دروب الصَّحراء، وهما كما يصوِّرهما الأعشى كأنَّما يَرْقبان ناقته وهي تسير، فإذا طلع النَّهار واشتدَّ حرُّ الظهيرة، فلها مع ذلك إسراعٌ في السَّير؛ لأنَّها تريد بلوغَ غايتها حيث تصل اللَّيل بالنهار في سيرها:
وَفِيهَا إِذَا مَا هَجَّرَتْ عَجْرَفِيَّةٌ
إِذَا خِلْتَ حِرْبَاءَ الظَّهِيرَةِ أَصْيَدَا



ثم يصف سيرَها إذْ تجدُّ برجليها وتراجع بيديها وهو يشدُّ خناقها، ولا يشفق عليها، ولا يَرْثي لها؛ لِما بها من الكَلال والتَّعب حافية القدمين حتى تبلغ الغاية، وتصل إلى محمَّد - صلَّى الله عليه وسلَّم -:
أَجْدَّتْ بِرِجْلَيْهَا النَّجَاءَ وَرَاجَعَتْ
يَدَاهَا خِنَافًا لَيِّنًا غَيْرَ أَحْرَدَا
فَآلَيْتُ لاَ أَرْثِي لَهَا مِنْ كَلاَلَةٍ
وَلاَ مِنْ حَفًى حَتَّى تَزُورَ مُحَمَّدَا



وهنا يَنتهي المقطع الثَّاني بأمنيةِ بلوغ الغاية، ووصوله إلى محمَّدٍ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثم في المقطع الثالث، وهو اثنا عشر بيتًا - نِصْف عددَ أبيات القصيدة تقريبًا - يصف النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - ويصف رسالتَه، والقِيَمَ التي احتوتها هذه الرسالة والمنهج، يقول الأعشى مخاطبًا ناقته:
مَتَى مَا تُنِيخِي عِنْدَ بَابِ ابْنِ هَاشِمٍ
تُرِيحِي وَتَلْقَيْ مِنْ فَوَاضِلِهِ نَدَى



وفي هذا البيت يَربط بين المقطع السَّابق ومقطعِ وصْفِ النبِيِّ ومَدْحه، ووصف الرِّسالة، وهنا نلحظ نَفْس طريقة كعب بن زُهير في ربطه بين أجزاء القصيدة؛ حتَّى تبدو وَحْدة نفسيَّة وشعورية واحدة؛ فهو من خلال بيتٍ واحد ينتقل من غرَضٍ إلى غرض، ولعلَّها نفس طريقة الشُّعراء الجاهليِّين والمُخضرَمين في رَبْط عناصر القصيدة وشدِّ بنائها في وَحْدةٍ واحدة، فيبدأ الأعشى بذِكْر أخَصِّ صفات النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو ما اصطفاه الله به من الوحي والرِّسالة والنبوَّة؛ "نَبِيٌّ يَرَى مَا لاَ يَرَوْنَ" أو "مَا لا تَرَوْن"، كما في الرِّواية الأخرى للقصيدة.



ثم يبدأ على عادته في مَدْح ممدوحيه بما له مِن حُسن الخصال وجميل الصِّفات، فيذكر منها:

• ذِكْر النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي شمل البلاد كلَّها في جزيرة العرب:

... وَذِكْرُهُ = أَغَارَ لَعَمْرِي فِي البِلادِ وَأَنْجَدَا



• صدقاته الكثيرة:

لَهُ صَدَقَاتٌ لاَ تَغِيبُ

• عطاؤه: "ونائل".



• العطاء المتكرِّر كلَّ وقت:

وَلَيْسَ عَطَاءُ اليَوْمِ مَانِعَهُ غَدَا



وهذه الصِّفات التي يركِّز عليها الأعشى تتَماشى تمامًا مع تكوينه النَّفسي الذي يجلُّ العطاء، ويمدح لأجله، فيتخيَّر من بين صفات النبِيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بعد صفة النبوَّة والرِّسالة، وبعد صفة حُسْن الذِّكر في البلاد - يتخيَّر صفة العطاء التي تهمُّ الأعشى، والتي خرج إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو ينطوي عليها ويسعى لها.



وهذا يؤكِّد أنَّ هذه القصيدة من شِعر الأعشى فعلاً، وليست منحولةً عليه، وتتناسب تمامًا مع ما ينطوي عليه من سعيٍ إلى العطاء، يطلبه بالشِّعر، يمدح به؛ لينال العطاء، وتَدْحَض هذه الأبياتُ قولَ من يرى أنَّ القصيدة منحولة، ولعلَّه أدَّاها وانطلق بها مؤملاً أن يُلْقِيها بين يدي النبيِّ؛ لينال عطاءه، فلمَّا وجد العطاء عند أهل مكَّة، قنع به ورجع.



وبعد ذكر صفات النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يَشْرع في بيان خطوط الرِّسالة التي جاء بها النبيُّ:
أَجِدَّكَ لَمْ تَسْمَعْ وَصَاةَ مُحَمَّدٍ
نَبِيِّ الإِلَهِ حَيْثُ أَوْصَى وَأَشْهَدَا
إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزَادٍ مِنَ التُّقَى
وَلاَقَيْتَ بَعْدَ الْمَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا
نَدِمْتَ عَلَى أَنْ لاَ تَكُونَ كَمِثْلِهِ
فَتُرْصِدَ لِلمَوْتِ الَّذِي كَانَ أَرْصَدَا



ثم يَذْكر بعض خطوط التَّشريع الإسلاميِّ التي كانت جديدةً على أهل الجاهليَّة مما وصل علمُه إلى الأعشى، وكلُّها ترجع إلى معاني آياتٍ من القرآن، ومن ذلك:

• تحريم الميتة:
فَإِيَّاكَ وَالْمَيْتَاتِ لاَ تَقْرَبَنَّهَا
وَلاَ تَأْخُذَنْ سَهْمًا حَدِيدًا لِتَفْصِدَا



• تحريم الذَّبح على النُّصب، وعبادة الأصنام، والقيام بتوحيد الله تعالى، والصلاة، ومعاداة الشيطان، وحمد الله تعالى:
وَلاَ النُّصُبَ الْمَنْصُوبَ لاَ تَنْسُكَنَّهُ
وَلاَ تَعْبُدِ الأَوْثَانَ وَاللهَ فَاعْبُدَا
وَصَلِّ عَلَى حِينِ العَشِيَّاتِ وَالضُّحَى
وَلاَ تَحْمَدِ الشَّيْطَانَ وَاللهَ فَاحْمَدَا



• إعطاء السائل والمحروم، والأسير المقيَّد.



• عدم السُّخرية من الضُّعفاء والبؤساء.



• العفاف والبُعد عن الفَحْشاء، والأخذ بشريعة الزَّواج بديلاً عن الخنا الذي كان سائدًا في الجاهليَّة:
وَلاَ السَّائِلَ الْمَحْرُومَ لا تَتْرُكَنَّهُ
                                        لِعَاقِبَةٍ وَلاَ الأَسِيرَ الْمُقَيَّدَا
وَلاَ تَسْخَرَنْ مِنْ بَائِسٍ ذِي ضَرَارَةٍ
                                   وَلاَ تَحْسَبَنَّ الْمَالَ لِلمَرْءِ مُخْلِدَا
وَلا تَقْرَبَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا
                            عَلَيْكَ حَرَامٌ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا



وهكذا تنتهي القصيدة التي شكَّك عددٌ من النُّقاد في نِسْبتها للأعشى، ومنهم الدكتور "شوقي ضيف"، الذي يقول عنها: "وواضِحٌ من هذا كلِّه أن القصيدة منتحَلة، وهي لا تتَّفِق في شيءٍ ونفسيَّةَ الأعشى، وما كان ليسمع القرآن، ويؤمن بتعاليمه على هذا النَّحو، ثم ينصرف عن رسوله الكريم، ونحن لا نشكُّ في هذه القصيدة فقط، بل نشكُّ في القصائد الأخرى التي تردِّد معاني الإسلام ومثاليته الخلقيَّة"[3].



على أنَّ الدكتور "حلمي القاعود" يرى رأيًا آخَر؛ إذْ يقول: "وإن كنتُ أميل إلى عدِّ القصيدة من شعر الأعشى؛ لأكثرَ مِن سبب، منها: أنَّ معظم النُّقاد والمؤرِّخين قد نسبوها إلى الأعشى، ومنهم ابن هشام وابن قتيبة والمعرِّي، ومنها أنَّ حبَّ الأعشى للمال والذي عبَّر عنه بوضوحٍ في القصيدة"[4].



إنَّ هذه القصيدة في نظرنا من شعر الأعشى، وهي تمثِّل رؤية شاعرٍ جاهلي للإسلام وللدَّعوة وصاحبِها، ويتبدَّى من خلال تحليل بنائها الداخليِّ وذِكْر الأعشى المال فيها حتَّى وهو ينظر إليه كنوعٍ من الصَّدقات والعطاء الذي جاء به الإسلام.



كما أنَّ تحليل القصيدة من حيث بناؤُها الفنِّيُّ يلحظ فيه نَفْس البِناء الذي سار عليه شعرُ الأعشى، مع التحوُّل في المضامين الذي يُدْرِك من خلاله الأعشى أنَّه ليس أمام ممدوحٍ كبقيَّة الممدوحين، ولكنَّه أمام "نَبِيٌّ يَرَى مَا لاَ يَرَوْنَ"، ومن هنا ظهرَتْ خطوط الرِّسالة الإسلاميَّة كما سمع عنها الأعشى واضحةً في بناء القصيدة.

[1] "العصر الجاهلي"، د. شوقي ضيف، ص 337.

[2] "العصر الجاهلي"، د. شوقي ضيف، ص 337.

[3] "العصر الجاهلي"، د. شوقي ضيف، ص 342.

[4] "محمد في الشعر الحديث"، د. حلمي محمد القاعود، ص 34.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..