السبت، 1 ديسمبر 2012

أولادي يضيعون من بين يدي

السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أنا امرأةٌ عربيَّةٌ أعيش في فرنسا، مُشكلتي تَكمُن في أولادي؛ فلديَّ بنتٌ عمرها 18 سنة، تحبُّ
الاستقلالية، وتحب أن ترتدي ما تريد مِن الثياب غير الساترة! وتضع الزينة في وجهها، وتصاحب بنات وشباب السوء!
ذات مرَّة قام أخوها الأكبر بالتحدُّث معها، وإفهامها أنها مسلمة وعربية، وهذه الصفاتُ لا تليق بها، فاشتدَّ الكلامُ بينهما إلى حدِّ أنها ذهبتْ إلى الشرطة، واشتكتْ أخاها! فأقْسَمَ أنه لن ينصحها أبدًا، وقال لي: فلتفعلْ ما تشاء، لا دخلَ لي بها؛ فأنا أُعاني منها كثيرًا؛ حتى إني أدعو عليها في صلاتي بأن تموتَ لأرتاح منها!
كذلك لديَّ ابنٌ في منتصف العشرينيات يُصاحب هو أيضًا أصحاب السوء، وهو عصبيٌّ جدًّا، مرة يكون هادئًا، ومرة يكون كالمجنون؛ يتكلَّم مع نفسِه تارة، ويضحك تارة؛ فأدخلتُه عدَّة مرات المستشفى، فأخبرني طبيبُه النفسيُّ أن عنده مرض "انفصام في الشخصية"!
أرجوكم ساعدوني، وأعطوني اقتراحاتٍ لهذه الأمور، أريد أن أنقذ ابنتي وابني؛ فأنا أراهما يضيعان مني أمام عيني.

وأخيرًا تقبَّلوا مني فائق التقدير والاحتِرام، وجزاكم الله خيرًا.

الجواب
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الموفِّق للصواب
وهو المستعان

أيتها الأم الكريمة، قيل: "إنَّ رجلًا تَزَوَّجَ امرأةً وله أمٌّ كبيرة، فقالت المرأة للزوج: لا أنا ولا أنتَ حتى تُخْرِجَ هذه العجوز عنا، فلما أكثرتْ عليه احْتَمَلَها على عنقِه ليلًا، ثم أتى بها واديًا كثيرَ السِّباع، فرَمَى بها فيه، ثم تنكَّر لها، فمرَّ بها وهي تبكي، فقال: ما يُبكِيكِ يا عجوز؟ قالتْ: طرَحني ابني ها هنا وذَهَب، وأنا أخاف أن يفترسَه الأسدُ! فقال لها: تبكين له، وقد فَعَل بكِ ما فعل؟ هلَّا تدعين عليه؟ قالتْ: تأبَى له ذلك بنات أَلْبُبِي! قالوا: بنات أَلْبُب؛ عُروقٌ في القلب تكون منها الرِّقَّةُ"؛ [مجمع الأمثال"؛ لأبي الفضل النيسابوري]، فأين ذهبتْ رقَّة قلب الأم حين دعا ابنُكِ على ابنتكِ وثمرة قلبكِ بالموت في الصلاة؟!
يرحم الله نوحًا - عليه وعلى نبينا الحبيب الصلاة والسلام - فإنه حين رأى ابنَه غارقًا مع الكافرين، رفع يديه، ودعا: ﴿ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [هود: 45]، وأنتِ تتركينه يدعو على أخته المراهقة، وهي مؤمنة بالله؟! فاتقي الله، وادعي لابنتكِ بالهداية والصلاح، وعسى الله أن يهديَها لما يُرشِدُها، ويَصرِفها عما يُوبِقها، ويقر عينكِ ببرِّها وصلاح أمرها، آمين.
وبعد:
فإنَّ الفتيات في عمر ابنتكِ يَتَهَيَّأْنَ ليُصبِحن أمهات مربِّيات، لا أن يُعامَلْنَ معاملة الأطفال! وفي الدول الغربية يُعطَى المراهِق جملةً من الامتيازات والحقوق إذا أتتْ عليه ثماني عشرة سنة، مما يُشعِره بالحريَّة والاستقلاليَّة والخصوصيَّة، فأرجو أن تراعي هذه النقطة كثيرًا، وسألخِّص في بضعِ نقاطٍ أُسلوبَ التعامُل الأمثَل مع الفتيات في سنِّ ابنتكِ، وعسى الله أن ينفعَكِ بها، وبه التوفيق:
أولًا: التربية شاقَّة، تحتاج إلى الصبرِ الجميل، وضبط النفس عند الغضَب، والتربية في بلاد غير المسلمين مِن مصائب المسلمين التي يُسأل اللهُ الأجرَ عليها! فَانْوِي التعبُّد بتربية هذه البُنَيَّة، والصبر على تأديبها وتقويمِ اعوجاجها، واسأليه - تعالى - أن يُعِينكِ، ويُثِيبكِ، وألَّا يَحرِمكِ نصيبَكِ مِنَ الأجر، ومتى رَأَى الله منكِ صدقَ النية في التربية؛ أَعانكِ عليها، ويسَّر لكِ ما تعسَّر مِنَ التأديب والتوجيه والإرشاد.
ثانيًا: تُشير الدراسات العلمية الحديثة إلى حقيقة فسيولوجية مهمة، عن عدم اكتمال نمو الفصِّ الجبهي الأمامي في أدمغة المراهقين، وهو جزء مِنَ الدماغ مسؤولٌ عن التخطيط والسيطرة على الدوافع، والقدرة على الانتباه والاهتمام، الأمر الذي مِنْ شأنه أن يفسِّر لنا سبب "طيش" المراهقين، وعدم قدرتِهم على ضبْطِ سُلوكِهم وتصرُّفاتهم، واتخاذهم لقراراتٍ حاسمةٍ ومصيريةٍ بشكل غير مدروس، من هنا أرى أهمية التثقيف الفسيولوجي والنفسي والتربوي المتعلِّق بسنِّ المراهقة؛ فسيساعدكِ الأمر على تفهُّم أسباب المشكلات، ودوافع السلوك الطائش عند ابنتكِ.
ثالثًا: مِنَ المهم أن تتعامَلي مع ابنتكِ باعتبارها صديقةً أو حتى ضيفة! فمقامُها في البيت لن يطولَ - بمشيئة الله تعالى - إذ لا بدَّ أن يأتي يومٌ تُغَادِرُكم فيه إلى بيتِها، وأسرتها الصغيرة!
رابعًا: احرصي على إبقاء قنواتِ الحِوار مفتوحةً بينكِ وبين ابنتكِ، أَعنِي الحوار المُثْمِر لا الجدال السقيم، وأَصغِي إلى مشكلاتها بعَطْفٍ، وتفهَّمي مَشاعرها الإيجابيَّة والسلبية كما تفعل الصديقاتُ الحميماتُ، فهذا الذي سيُدْنِيها منكِ، ويجعل نُصْحَكِ لها مَقْبولًا.
خامسًا: احترمي استقلاليتَها؛ فالاستقلاليةُ حاجةٌ نفسيَّةٌ مُلِحَّة في سنِّ المراهقة، لكن ينبغي التفريق بين الاستقلاليَّة المحمودة وتجاوُز الحدود الشرعية؛ فالاستقلاليَّةُ التي أَعْنِيها تتعلَّق بالتفضيلات الحياتيَّة، والاجتماعيَّة، والفكريَّة، والذوق، والخُصوصيَّة، أمَّا الحدود الشرعيَّةُ فخطٌّ أحمر يجب عدم التعدِّي عليه، وهذا ما ينبغي أن تَشْرَحِيه لابنتكِ، فمِنْ حقِّها - وهي أنثى - أن تَلبَس أجمل الثياب، وتضع الزينة في وجهِها في البيت، وعند زيارة الصديقات، لكن في الشارع يجب أن تَحتَشِمَ، وتَرْتَدِيَ الحجاب الساتر، ومِن حقها أيضًا أن تُجَالِس مَن تشاء مِنْ صديقاتها، لكن ليس من حقِّها المخادنة وصُحبة الشباب! وهكذا.
سادسًا: استعملي ذكاءكِ لفَهْم احتياجات ابنتكِ ومشاعرها، مِنْ خلال قراءة أفعالها، لا مِنْ خلال ما تقولُه لكِ؛ فالمراهقون متكتِّمون جدًّا حول أمورهم الخاصة، بَيْدَ أنه مِنَ السهل كَشْفُ مشاعرهم الحقيقية، وخواطرهم التي تدور في أذهانهم، مِنْ خلال تفضيلاتهم الغنائية والسينمائية، فكلماتُ الأغاني المفضَّلة على سبيلِ المثال تُسَاعِد كثيرًا على فَهْم الحالة الشعورية التي يمرُّ بها المراهِقُ، فكُونِي حسَّاسة وذكية لفَهْمِ ابنتكِ، واقتربي منها، وشجِّعيها على البَوْح دون خوفٍ مِنَ التهديد بالعقاب، أو التجريح بالكلام.
سابعًا: تجاوزي مُؤَقَّتًا عن بعض الأمور التي يُمكِنكِ التغاضي عنها؛ حتى تكسبيها وتستميلي قلْبَها وعقْلَها، ولا تشددي في المسائل الخِلَافية شرعًا، واستعيضي عن المراقَبَة والمحاسبة والمساءلة بتقوية الرقيب الداخلي والوازع الديني، وأن الله يرى ويسمع، وعزِّزي فيها الشعور بالغربة الدِّينيَّة، وحبِّبي إليها الجزاء العظيم على حِفْظ هُوِيَّتها الإسلامية في بلدٍ يحارب المسلمات العفيفات كفرنسا!
ثامنًا: اقضي بعض الوقت في صحبة ابنتكِ خارج المنزل للتسوُّق، والتنزه حول البيت، وتناول العشاء في المطعم، فمِنْ شأن هذه الأمور الصغيرة أن تُثمِر عَلاقة ناضجة وصحيَّة بينكِ وبينها.
تاسعًا: تذكَّري أن عالمكِ مختلفٌ جدًّا عن عالم ابنتكِ؛ فعالم الفتيات وَرْدِيُّ اللون، مُشبَع بالأحلام والأماني، ومُحتقن بأخطاء التفكير، ولكي تفهميه فعليكِ أن تسبحي فيه، وتسبري أغواره، بمُشاركة ابنتكِ بعضَ اهتماماتها التي يصلح أن تجرِّبيها بنفسكِ، وكوني لها الحضنَ الدافئَ الذي يحتوي مشاعرَها، ويَحمِيها من أن ترمي بنفسها في أحضان الهوى والهواء!
عاشرًا: لكل أسرةٍ قواعدُها وأنظمتُها فيما يتعلَّق بمواعيد النوم، والخروج مِنَ المنزل، ومشاهدة التلفاز، وتصفُّح الشبكة، ونوع العقوبات والمكافآت، ونحو ذلك، والخطأُ التربويُّ الذي وقعتِ فيه - سيدتنا الفاضلة - أنكِ لم تُؤَسِّسي لأبنائكِ منذ طفولتهم القواعدَ التي يجب عليهم الالتزام بها، مِن هنا ينبغي وَضْعُ القواعد ورَسْم الحدود قدْر الإمكان، وفرضُها على الجميع دون تفريق بين البنين والبنات، باستثناء الابن الفصامي - عافاه الله - فهذه حالةٌ مَرَضِيَّة يجب مراعاتها بشكلٍ مختلفٍ، وقد كتبتُ جوابًا مفَصَّلًا عن كيفيَّةِ التعامل مع مرضى الذهان كالفصاميين؛ فأرجو أن تتفَضَّلي مَشْكُورةً بمتابعتنا على الألوكة للاستفادة مما كُتِب لغيركِ وفيه نفعكِ، ولا بأس على ابنكِ الكريم، طهور - إن شاء الله تعالى.

والله - سبحانه وتعالى - أعلم بالصواب، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة

 
أ. عائشة الحكمي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..