( ١ )
استيقظَ من نومِهِ قبيلَ الفجر كما
يفعلُ عادةً .. فركَ بكلتا يديه بقايا النومِ المتعلقةِ بأهدابِ عيونه ..
هذا هو الصباحُ الثالث والأربعون بعد السبعمائة والألف الذي يقضيه هنا
بعيداً عن أهلهِ وسكنِه .. يعدّ الأيامَ كما يفعلُ من يحسبُ مكافأةً نقديةً
مُنحتْ له إثرَ بحثٍ قدّمه عن مكافحةِ الإرهاب .. زلّت به قدمُه..
واستجرّه رفاقٌ أغرار .. وقد أعلنَ توبته مراراً وتكراراً غيرَ أنهم لمْ
يصدّقوا كلامَه .. لا يهمّ .. فقدَ الشعورَ بالندمِ منذ زمن .. كانَ قوامُ
أحدِهم واقفاً وراءَ الباب ينتظرُ قومتَه لم يشأْ أن يقطعَ عليه النوم
..
السجين رقم ٥٠٤٥ ؟
بصوتٍ يقطعه التثاؤبُ : نعم أنا هو ..
تفضّل معنا ..
إلى أين ؟
ليس من حقّك السؤال ..
حسناً لا بأس .. تُعتبرُ هذه الطلباتُ أمراً مزعجاً للسجين .. تُنغّصُ عليه حياتَه وتقطعُ عليه استمتاعه برتابةِ السجن .. وتُخوّفه من القادم .. لقد توقفوا عن طلبهِ منذُ عشراتِ الشهور .. ما الذي جدّ ليذكروه .. حاول أن يستنطقَ من عيني الخفيرِ ـ وقد غابتْ ملامحُ وجهه المقنّعِ ـ أيَّ شيءٍ يُفيد .. غير أنّه لم يستطعْ ..
صلّى ركعتي الفجرِ سريعاً .. ثمّ عصبوا عينيه وقيّدوا رجليه ويديه .. واقتادوه برفقٍ .. استطاعَ أنْ يُحدّدَ المسافةَ تماماً من بابِ زنزانتهِ .. مائةً وأربعةً وثمانين خطوةً في الممرّ المقابلِ .. ثم انحرفَ يساراً أربعينَ خطوةٍ تقريباً .. ثمّ صعدَ ثلاثَ درجاتٍ .. تقدّم بعدها أمتاراً ثمّ سمعَ صوتَ بوابةٍ تُفتح ورجالاً يتسارّون بنبأ .. وكان صوتُ إمامِ المسجدِ الواقعِ في حرمِ السّجنِ يصلُ لسمعهِ بصعوبة .. يتلو آياتٍ من سورةِ الحجرات .. وقفَ ينتظرُ طويلاً .. ثم تقدّم أكثر من ذي قبل .. شعر بنورِ الفجرِ يغالبُ العصابَ الذي يطوّق عيونَه .. وأحسّ بنسماتِ هواءٍ تغازلُ أطرافه .. الله ما أحلى كبرياءِ الحرية .. وما أبهى الصباحاتِ النجديّة .. استمرّ في مشيه .. لم يعدْ متأكداً من حسابِ الخطى .. يفقدُ المرءُ التركيزَ حين يعتنقُ الحريّة .. لكنّهم انصرفوا به في اتجاهٍ منحرفٍ للزاويةِ اليمنى وكانت اليدُ التي تُمسك به غيرَ اليدِ الأولى .. أكثرَ نعومةً ولطفا .. استمروا في ممرّاتهم ثم فُتح بابُ مكتبٍ .. وشعرَ بهواءِ التكييف .. وشمّ رائحةَ عصيرٍ بائت .. استخدموا أصبعه في المصادقةِ على أوراقٍ لا يعرفُها .. ثمّ سمع صوتَ ختم متكرّر .. وحديثاً متبادلاً هامساً يسمعُ فيه حرفاً وتغيبُ حروف .. كان من عصبَ عينيهِ قد أحكمَ الرباطَ على أذنيه قصداً فصارَ لا يبصرُ كلامَ المتكلمين .. عجيبٌ أمرُ هذه الدائرةِ كيف تعملُ بهذا الجدّ في مثل هذا الوقتِ الخامل من اليوم .. أليس لدى موظفيها أهلٌ وأولاد ..
( ٢ )
أخذتْه يدٌ ثالثةٌ واستمرت به في مشوارِه وهو لا يعلمُ شيئا .. استقلّ مركبةً صغيرةً مكشوفةَ الأبوابِ .. كما يبدو من الهواءِ الذي يخالطُ راكبيها .. ارتاحَ قليلاً من صعوبةِ المشي في القيد .. وردَ عليه خاطر أن يكونَ متوجهاً لتنفيذِ حكمِ الإعدام .. غيرَ أنّه حمدَ الله واسترجعَ .. ودعا ربّه أن يلطفَ به .. قبلَ أنْ يتحركَ صاحبُ المركبةِ تعمّد أن يستديرَ مرةً ومرتين فَقَدَ معهما صاحبُنا شعورَ الاتجاه .. ثم انطلقَ في دربٍ طويل .. وقبلَ وصولِهم للبوابةِ الأخيرةِ من جهة السجن قال له خفيرُه وقد قرّبَ شفتيه لأذنيه "يا أخي وصلك أمر إفراج اليوم"
لم يقلْ "مبروك" ولا "ألف مبروك" ولم ينصحْه بلزومِ الطريق الصحيحِ .. ولم يبد إعجابَه بحسن سلوكِه في السجن .. فقطْ هذه الجملة " وصلك أمر إفراج اليوم " لم يصدّقْ صاحبُنا ما يُقال .. وكيف يتمّ ذلكَ وهو لا يزالُ معصوبَ العينين مقيّدَ الأطرافِ .. كانت المركبةُ قد توقفتْ وطلبوا منه الترجّل .. مشى ثلاثَ خطواتٍ فقط ثم صعدَ درجةً ودخلَ غرفة صغيرةً .. جلسَ على كرسيٍّ بها .. حلّوا قيده وفكوا عصابَ عينيه .. وقدّموا له كأسَ ماءٍ
وكيساً عليه رقم ( ٥٠٤٥ ) وبه حاجياتُه التي صودرتْ منه وقتَ القبض عليه .. طلبوا منه التحرّر من لباسِ السّجن والعودةِ للبسه ..
استغرقته لحظةُ تفكيرٍ طويلةٌ .. لم يصدّق بها الخبرَ .. وأصابه خلالها شيءٌ غريب .. لم يكن متحمساً جداً لفراقِ سجنه وأصحابِه .. ولم يكن متأكداً أن أمر الإفراج بعد كل هذه السنوات سيتم بهذه السلاسة ..
( ٣ )
غابوا عنه وتركوا له فرصةَ الخلوةِ بنفسه .. خلع لباسَ السجنِ ثم أخذَ ثوباً مكوماً من الكيسِ الذي يحملُه .. شمّه .. كان لا يزالُ محتفظاً برائحتِه الإرهابية .. لبسه فوراً وكانَ واسعاً جداً بقدر ما يشْرَكُهُ في لبسه اثنان معه .. يا الله .. كيف قستْ عليه الأيامُ وصيرته نضواً لا يستطيعُ مقاومةَ رعشةَ أطرافِه .. مدّ يديه ليلتقطَ سبحتَه ومفاتيحَه .. ومحفظتُه القديمةُ كما هي لم تتغيّر .. لم تسمنْ ولم يُصبْها الجوعُ .. وحدَهم الآدميون الذين يصارعونَ الأيامَ .. وتصرعُهم .. وبآخرِ الكيسِ وجدَ ساعتَه اليدويةَ تكفي لقيدِ كلا معصميه .. قرّر أنْ يبقيها في جيبِه .. كثيرٌ على يديه أن تبقى تشتاقُ لها وقد أدمتْها القيودُ .. الجوّال لم يعدْ موجوداً جرت العادةُ أن تتمّ مصادرتُه .. فتّش عن شيءٍ يُغطّي به رأسَه فلم يجدْ .. تذكّر أنّهم حين قبضوا عليه كان مكشوفَ الرأس ..
استوى في لُبسه الجديدِ .. ثم اقتادوه خارجاً وقد اكتفوا بعصبِ عينيه .. واستمرّوا في مشيٍ طويلٍ تتخله نقاطٌ أمنية .. حتى بلغوا بوابةَ الخروجِ .. وكانتْ سيارةُ أجرةٍ تنتظرهُ عندَ الباب ..
ودّعوه باحتفاءٍ .. وهمسَ أحدُهم في أذنه "أنا ابن عمك فلان بن فلان بلانا الله بكم وبلاكم بنا" وطلبوا منه الدعاء .. بادلهم صاحبنا الابتسامةَ وتعهّد لهم بالدعاءِ .. وانصرفَ ..
( ٤ )
هذه هي المرّةُ الأولى التي يركبُ بها السيارة بعد توقّفِ خمسِ سنواتٍ تقريباً .. كان مركبُها وثيراً أكثر من العادة .. ونوافذُها صافيةً .. وصوتُ كفراتها الهاربةِ من جحيمِ السجن يعزفُ سمفونيةَ حزنٍ عميق .. وقبل أن يُكملَ السائقُ ثلاثمائة متر مبتعداً عن البوابةِ طلبَ منه صاحبنا التوقّفَ وترجّلَ من السيارة .. ألقى النظرةَ الأخيرةَ على السّجن .. رأى بناياتٍ متراصّة تختفي خلفَ أسوارٍ عدة ويطوّقها سورٌ طويل .. اختاروا لها أن تكون في مكانٍ قصيٍّ جنوبَ المدينة .. هنا أمضى سنواتٍ من عمره .. وهناك لا يزال أحبابٌ له وأصحاب .. لهم في هدأة الليل دويٌّ بالترتيل .. وفي محتبسِ الصدور آهاتٌ وحسرات .. الليالي التي كانوا يقضونها في الحديثِ والسمَر .. والخصوماتُ التي كانت تحتدّ بينهم .. ووجباتُ الافطارِ التي تقصُر عن بعضهم فيؤثرُ بها البقية .. وانتظارُهم الواله لميعادِ الزيارات .. والمناماتُ التي يتحدثون بها كلّ صباح .. غريبةٌ أحلامُ السجناء .. تكادُ تشكّ أنهم يقتسمون نصفَ أحلامَ المدينة .. وأبو زياد الذي يوهمهم أنه يجيدُ تفسيرَ الرؤى .. وهو إنما يُحسن تعليلَ الارواح .. كان صاحبُنا ينظرُ لسائقِ الأجرة على أنّه مخبرٌ متنكرٌ .. وكان السائقُ الغريبُ لا يعرفُ شيئاً مما يدورُ حوله .. فقط توقّفَ له أحدُهم على الطريقِ السريع .. واقتادَه لهذا المكان .. وطلبَ منه حملَ هذا الشخصِ للمكانِ الذي يريد .. ولو صحّ أن القبورَ تبعثُ أهلها لكان يظنّه واحداً من أهلِ القبور .. أثوابُه قديمةٌ جداً وبها رائحةُ التراب .. وعيناهُ تتردّدُ في كلّ اتجاه .. ودموعُه تخالطُ الغبارَ الواقفَ على أهدابِه فتُشكّل شيئاً كـماءِ الطينِ يسري على خديه .. وهو يمسحه بأكمامه ..
" هل مات لك قريبٌ ؟" يسأل السائقُ باستغراب ..
لم يلتفتْ لسؤالهِ واستمرّ في نظرتِه الأخيرةِ للسجن .. قدمُه اليسرى على الأرض .. واليمنى على عتبةِ بابِ السيارة .. وهو متكيءٌ بساعديه على سقفها .. وعيناهُ مكتظّة بالدمع ..
نزلَ إليه السائقُ وأقنعه بالركوب .. وأحسنَ مواساته .. وأقفلَ البابَ جيداً حتى لا يتمكّن من العودةِ لفعله .. وكان السؤالُ " إلى أين تريد " وكان الجوابُ مختصراً وبتنهيدةٍ كادتْ أن تغيبَ في جوفهِ فلا تظهرَ أبداً ...
( حيّ السويدي !!! )
( ٥ )
انطلقَ سائقُ الأجرةِ باتجاه الشّمال .. حتى إذا وصلَ الطريقَ الدائريّ انحرفَ باتجاه الغرب .. ومضى بطريقه وقد أدارَ المذياعَ لقطعِ رتابةِ الجوّ الحزينِ .. كانت الإذاعةُ تنقل صلاةَ الاستسقاءِ من المسجدِ الحرامِ والخطيبُ يقول : " وكيف نرجو قطر السماء ولا زالت المظالمُ فينا تقسو على أرواحِ المظلومين " وصاحبُنا يتابعُ بإنصات .. اليومَ هو يومُ الاثنين .. وحركةُ سيرِ الطلبة لمدارسهم قد غصّتْ بها طرقاتُ الرياض .. وبقيتْ سيارةُ الأجرةِ تزحفُ في سيرٍ طويل .. استمرّ صاحبنا في تفكيره .. وأخذه هاجسٌ طويلٌ تذكّرَ فيه كيف أن شبيبةً من أبناءِ هذا الوطن .. سوّل لهم الشيطانُ فرأوا أن الخروجَ على الجماعةِ محمودٌ .. وتحوّلتْ بعضُ شوارعِ العاصمةِ الرياض لمواجهاتٍ حربية استُخدمتْ فيها الأسلحةُ والرشّاشاتُ وكأنها مقاطعةٌ في أفغانستان .. زملاؤه الذين قتلوا في المواجهاتِ .. والآخرون الذين كانوا يرتّبون أنفَسهم في مجموعاتٍ للإطاحةِ بالأمريكان وعملائِهم .. والشحنُ الكبيرُ الذي كانوا يتلقّونه من منتدياتِ الانترنت وساحاتِ الحوار وقناةِ الجزيرة .. وتفجيرُ مؤسساتِ الدولة .. وإعلانُ الحربِ على الجهاتِ الأمنية .. كيفَ انطلتْ عليهم الحيلةُ .. وكيف اعتقدوا تكفيرَ أخصامِهم .. ومن الذي سوّل لهمْ أنّ العلماءَ متخاذلون .. وأنّهم هم وحدَهم القادرون على تخليصِ الإسلامِ من شوكةِ أعدائه .. والدروسُ والمساجدُ وحلقُ القرآن وخطباءُ الجوامع والقضاةُ والدعاةُ ورجالُ الحسبة كلّهم هل عميتْ عنهم الحقائقُ .. هل كانت الحياةُ كريهةً لهذه الدرجة .. وهل عمّ الكفرُ الدنيا لتصبحَ بلادُ الحرمين ذاتُها دولةً من دُوله .. لا يدري ولا يصدّقُ كيف كانت تلك الأفكارُ تتداول حينها .. ومن كان السببَ في التغريرِ بشبابِ الوطن .. ثمّ لمَ القسوةُ عليه وعلى مئاتٍ من أمثالِه لم يكنْ لهم ذنبٌ سوى أن القدرَ اختارَهم ليتعرّفوا على مجموعةٍ من أولائك أو يتعاطفوا معهمْ بحكم الصداقةِ والقرابة .. وهل تصلحُ المفرداتُ التي اتهموهم بها للبقاءِ بالسجن عدةَ سنوات ..
هل حدثتكَ نفسُك بالجهادِ .. نعم
وجدنا بجوالك مقطعاً لحديث خاصٍ لزعيم تنظيمِ القاعدة .. نعم وهو مذاعٌ بقناةِ الجزيرة
سبقَ أن تدرّبت على ركوبِ الخيل .. نعم
تلقيتَ اتصالاً من شخصٍ ذاهبٍ للعراق .. نعم .. كان صديقي ودعوت الله له أن يرزقَه الشهادةَ
وقف شخصٌ على بابِ مسجدكم يطلب التبرعاتِ وأعطيتَه .. نعم كان كلّ الناس يصنعونَ ذلك
هل سبقَ أن استخدمتَ سلاحاً نارياً .. نعم في رحلةِ صيدٍ ومرح مع أبناءِ خالتي
لم شاركت في عزاء فلانٍ قتيلِ الإرهاب .. كان العزاءُ لأهله ليس له .. وبين أسرتنا وأسرتِهم ودٌ قديم وصلة تحتم عليّ فعل ذلك ..
كانت إجاباتُه تلك كفيلةً باتهامه وإحالتِه للقاضي الذي صدّق اعترافَه بحملِ أفكارٍ ضالّة .. ونصرةِ مطلوبين أمنياً .. والإعدادِ الغير مشروع للجهاد .. والمشاركةِ في جمع أموالٍ لجهاتٍ محظورة ..
حسناً أيّها السادة .. تستطيعون أن تجعلوا منها جريمةً تستحقّ الإعدام .. وتستطيعون أن تقرأوها في سياقِ أجواءٍ اجتماعية وفكرية عمّت الديارَ فتغضوا الطرْف .. أنا والله أحبّ هذا الوطنَ .. وأحترم علمائَه وولاتَه .. ولا أحبّ أن تعصفَ به فتنةٌ .. والديّ وزوجتي وثلاثةُ أطفالي يعيشونَ على ثراه .. هل تستحقّ جنايتي أن أغيبَ عن طفلي ذي الستةِ أشهر .. ويدخلُ الآنَ عامه الخامسَ وعيني لم تبصرْ عينه .. كيف حال أمّه التي كانت لأطفالي الأبَ والأم .. وبذلتْ من روحِها ووقتِها وجهدِها في سبيل رعايتهم .. واحتبستْ أهاتِ الألم والقهرِ في جوفها لتعيش .. وتدثّرتْ بالكفاف .. لماذا يُطلق الحبلُ على الغاربِ لرجالِ الأمنِ أن يفتّشوا كما يحلوا لهم .. وينتهكوا حرمةَ بيتي وأغراضي ويتلصّصوا على كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ مخالفين الأوامرَ برعايةِ حرمةِ البيوت والإنسان .. وما الحالُ الوحيدةُ التي حُوسب فيها أحدُ رجال الضبطِ على تجاوزِ مهامّه .. هل كان رجالُ الحسبة وحدهم هم الذين يساءلون .. وكيف يمكنُ أن يكونُ التحقيقُ نظامياً وهو ينتهكُ نصوصَ نطام الإجراءات الجزائية الذي اجتمع عليه أعضاءُ مجلسِ الشورى والوزراء .. المادة الرابعة والستون : للمتهمِ حقّ الاستعانة بوكيلٍ أو محام لحضورِ التحقيق .. المادةُ الثانية بعد المائة : يجبُ أن يتمّ الاستجوابُ في حالٍ لا تأثيرَ فيها على إرادة المتهم في إبداءِ أقواله .. المادةُ السادسة عشرة بعد المائة : يبلّغُ فوراً كلّ من يقبض عليه أو يوقف بأسبابِ القبضِ عليه أو توقيفه ويكونُ له حقّ الاتصال بمن يراه لإبلاغه ..
( ٦ )
انتهتْ خطبةُ الحرم فجأةً .. ولم يكنْ بعدَها صلاةٌ .. كانت الذكرياتُ تجوب بخاطرِ صاحبنا ولا تريدُ أن تهدأ .. اقتربوا من مخرجِ خمسة وعشرين .. سأله السائقُ " أين الطريق" رفع بصرَه للأمام وتأمّل اسمَ الطريق ( طريق عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما )
كانت عيناه قد ازدحمتا بالدمعِ من جديد .. لم يعدْ يتبيّن الحروفَ كثيرا .. سأل السائقَ هل هذا طريق عائشة فأجاب نعم .. أمرَه أن يذهبَ معه ذاتَ اليمين .. حتى إذا وصلوا الإشارةَ عادَ مرةً أخرى باتجاه الطريقِ الدائري .. وبين بنكِ الراجحي ومحطّة البنزين كان الشارعُ الذي يدخل بهم في اتجاهِ الغرب .. حتّى إذا بلغوا منتهاه انحرفوا يميناً .. وقبلَ أن يصلوا للجامعِ الواقفِ على ناصيةِ الشارعِ توقفوا أمامَ بيتٍ جميل .. كانت شوارعُ الأحياءِ قد بعثتْ زحامَها للطرقِ الرئيسيةِ .. واكتنفها هدوءٌ تام .. إلا من عاملِ نظافةٍ يؤدي وظيفته برتابةٍ بالغة .. أو عصفورٍ يغازل عصفورةً يلاحقها بين الأشجار ..
( ٧ )
هناكَ في داخل البيتِ كانت الزوجةُ الصابرةُ جالسةً في الصالة تقلّب صحيفةً يومية بعد أن ودّعتْ صغارَها لمدارسِهم .. وتتناولُ قهوةَ الصباح .. وعلى غير المعتادِ فاجأها طرْقٌ لبابِ المنزل .. تجاهلته أولَ الأمر .. غيرَ أنّه كان طرقاً منتظماً وواثقا .. وبنغمِ رسولٍ بشير .. خفق قلبُها واتجهت للهاتف تجيب .. وكان الصوتُ الذي لا تُخطأه أبداً يقولُ لها " الحمد لله على نعمائه أنا فلان يا حبيبتي "
عقدت الدهشةُ لسانَها فلم تستطعْ أن تجيبَ .. وبقيتْ أصابُعها جامدةً فترةً قبلَ أن تستطيعَ الضغطَ على الجهازِ آذنةً له بالدخول .. وانصرفتْ تجرّ أقدامها جرّا حتى دخلت غرفَتها وأغلقتْ عليها البابَ وغابتْ في نوبةِ بكاءٍ و نحيب ..
دخل صاحبنا دارَه وكأنّ على كتفيه أحمالَ الدنيا .. وقشعريرةٌ تسري في جسدهِ .. وحشدُ ذكرياتٍ صاخبٌ يشتّت ذهنه .. ويبعثُ في نفسه الحنين ..
حتى إذا وصلَ لبابِ غرفتها سمعَ نشيجَها من وراءِ الباب .. حاول طمأنتها وبقيَ يسلّيها وهي لا تستجيب .. عادَ لمكانها في الصالة .. وجد جريدتَها مفتوحةً على صفحةٍ عنوانُها :
( الوطنُ يستبشرُ بسلامةِ الملك )
وقد كتبتْ هي تحته سطراً بخطّ يدها : "اللهمّ أطلْ عمرَه على طاعتك .. واحرُسه من كلّ مكروه .. وارفعْ به عنّا المظلمة .. واكتبْ على يده فرجاً ومخرجاً لزوجي الحبيب"
أمسكَ القلمَ برفق وأتمّ العبارة : ولعمومِ أبناءِ الوطنِ المخطئين النادمين والمظلومين ..
السجين رقم ٥٠٤٥ ؟
بصوتٍ يقطعه التثاؤبُ : نعم أنا هو ..
تفضّل معنا ..
إلى أين ؟
ليس من حقّك السؤال ..
حسناً لا بأس .. تُعتبرُ هذه الطلباتُ أمراً مزعجاً للسجين .. تُنغّصُ عليه حياتَه وتقطعُ عليه استمتاعه برتابةِ السجن .. وتُخوّفه من القادم .. لقد توقفوا عن طلبهِ منذُ عشراتِ الشهور .. ما الذي جدّ ليذكروه .. حاول أن يستنطقَ من عيني الخفيرِ ـ وقد غابتْ ملامحُ وجهه المقنّعِ ـ أيَّ شيءٍ يُفيد .. غير أنّه لم يستطعْ ..
صلّى ركعتي الفجرِ سريعاً .. ثمّ عصبوا عينيه وقيّدوا رجليه ويديه .. واقتادوه برفقٍ .. استطاعَ أنْ يُحدّدَ المسافةَ تماماً من بابِ زنزانتهِ .. مائةً وأربعةً وثمانين خطوةً في الممرّ المقابلِ .. ثم انحرفَ يساراً أربعينَ خطوةٍ تقريباً .. ثمّ صعدَ ثلاثَ درجاتٍ .. تقدّم بعدها أمتاراً ثمّ سمعَ صوتَ بوابةٍ تُفتح ورجالاً يتسارّون بنبأ .. وكان صوتُ إمامِ المسجدِ الواقعِ في حرمِ السّجنِ يصلُ لسمعهِ بصعوبة .. يتلو آياتٍ من سورةِ الحجرات .. وقفَ ينتظرُ طويلاً .. ثم تقدّم أكثر من ذي قبل .. شعر بنورِ الفجرِ يغالبُ العصابَ الذي يطوّق عيونَه .. وأحسّ بنسماتِ هواءٍ تغازلُ أطرافه .. الله ما أحلى كبرياءِ الحرية .. وما أبهى الصباحاتِ النجديّة .. استمرّ في مشيه .. لم يعدْ متأكداً من حسابِ الخطى .. يفقدُ المرءُ التركيزَ حين يعتنقُ الحريّة .. لكنّهم انصرفوا به في اتجاهٍ منحرفٍ للزاويةِ اليمنى وكانت اليدُ التي تُمسك به غيرَ اليدِ الأولى .. أكثرَ نعومةً ولطفا .. استمروا في ممرّاتهم ثم فُتح بابُ مكتبٍ .. وشعرَ بهواءِ التكييف .. وشمّ رائحةَ عصيرٍ بائت .. استخدموا أصبعه في المصادقةِ على أوراقٍ لا يعرفُها .. ثمّ سمع صوتَ ختم متكرّر .. وحديثاً متبادلاً هامساً يسمعُ فيه حرفاً وتغيبُ حروف .. كان من عصبَ عينيهِ قد أحكمَ الرباطَ على أذنيه قصداً فصارَ لا يبصرُ كلامَ المتكلمين .. عجيبٌ أمرُ هذه الدائرةِ كيف تعملُ بهذا الجدّ في مثل هذا الوقتِ الخامل من اليوم .. أليس لدى موظفيها أهلٌ وأولاد ..
( ٢ )
أخذتْه يدٌ ثالثةٌ واستمرت به في مشوارِه وهو لا يعلمُ شيئا .. استقلّ مركبةً صغيرةً مكشوفةَ الأبوابِ .. كما يبدو من الهواءِ الذي يخالطُ راكبيها .. ارتاحَ قليلاً من صعوبةِ المشي في القيد .. وردَ عليه خاطر أن يكونَ متوجهاً لتنفيذِ حكمِ الإعدام .. غيرَ أنّه حمدَ الله واسترجعَ .. ودعا ربّه أن يلطفَ به .. قبلَ أنْ يتحركَ صاحبُ المركبةِ تعمّد أن يستديرَ مرةً ومرتين فَقَدَ معهما صاحبُنا شعورَ الاتجاه .. ثم انطلقَ في دربٍ طويل .. وقبلَ وصولِهم للبوابةِ الأخيرةِ من جهة السجن قال له خفيرُه وقد قرّبَ شفتيه لأذنيه "يا أخي وصلك أمر إفراج اليوم"
لم يقلْ "مبروك" ولا "ألف مبروك" ولم ينصحْه بلزومِ الطريق الصحيحِ .. ولم يبد إعجابَه بحسن سلوكِه في السجن .. فقطْ هذه الجملة " وصلك أمر إفراج اليوم " لم يصدّقْ صاحبُنا ما يُقال .. وكيف يتمّ ذلكَ وهو لا يزالُ معصوبَ العينين مقيّدَ الأطرافِ .. كانت المركبةُ قد توقفتْ وطلبوا منه الترجّل .. مشى ثلاثَ خطواتٍ فقط ثم صعدَ درجةً ودخلَ غرفة صغيرةً .. جلسَ على كرسيٍّ بها .. حلّوا قيده وفكوا عصابَ عينيه .. وقدّموا له كأسَ ماءٍ
وكيساً عليه رقم ( ٥٠٤٥ ) وبه حاجياتُه التي صودرتْ منه وقتَ القبض عليه .. طلبوا منه التحرّر من لباسِ السّجن والعودةِ للبسه ..
استغرقته لحظةُ تفكيرٍ طويلةٌ .. لم يصدّق بها الخبرَ .. وأصابه خلالها شيءٌ غريب .. لم يكن متحمساً جداً لفراقِ سجنه وأصحابِه .. ولم يكن متأكداً أن أمر الإفراج بعد كل هذه السنوات سيتم بهذه السلاسة ..
( ٣ )
غابوا عنه وتركوا له فرصةَ الخلوةِ بنفسه .. خلع لباسَ السجنِ ثم أخذَ ثوباً مكوماً من الكيسِ الذي يحملُه .. شمّه .. كان لا يزالُ محتفظاً برائحتِه الإرهابية .. لبسه فوراً وكانَ واسعاً جداً بقدر ما يشْرَكُهُ في لبسه اثنان معه .. يا الله .. كيف قستْ عليه الأيامُ وصيرته نضواً لا يستطيعُ مقاومةَ رعشةَ أطرافِه .. مدّ يديه ليلتقطَ سبحتَه ومفاتيحَه .. ومحفظتُه القديمةُ كما هي لم تتغيّر .. لم تسمنْ ولم يُصبْها الجوعُ .. وحدَهم الآدميون الذين يصارعونَ الأيامَ .. وتصرعُهم .. وبآخرِ الكيسِ وجدَ ساعتَه اليدويةَ تكفي لقيدِ كلا معصميه .. قرّر أنْ يبقيها في جيبِه .. كثيرٌ على يديه أن تبقى تشتاقُ لها وقد أدمتْها القيودُ .. الجوّال لم يعدْ موجوداً جرت العادةُ أن تتمّ مصادرتُه .. فتّش عن شيءٍ يُغطّي به رأسَه فلم يجدْ .. تذكّر أنّهم حين قبضوا عليه كان مكشوفَ الرأس ..
استوى في لُبسه الجديدِ .. ثم اقتادوه خارجاً وقد اكتفوا بعصبِ عينيه .. واستمرّوا في مشيٍ طويلٍ تتخله نقاطٌ أمنية .. حتى بلغوا بوابةَ الخروجِ .. وكانتْ سيارةُ أجرةٍ تنتظرهُ عندَ الباب ..
ودّعوه باحتفاءٍ .. وهمسَ أحدُهم في أذنه "أنا ابن عمك فلان بن فلان بلانا الله بكم وبلاكم بنا" وطلبوا منه الدعاء .. بادلهم صاحبنا الابتسامةَ وتعهّد لهم بالدعاءِ .. وانصرفَ ..
( ٤ )
هذه هي المرّةُ الأولى التي يركبُ بها السيارة بعد توقّفِ خمسِ سنواتٍ تقريباً .. كان مركبُها وثيراً أكثر من العادة .. ونوافذُها صافيةً .. وصوتُ كفراتها الهاربةِ من جحيمِ السجن يعزفُ سمفونيةَ حزنٍ عميق .. وقبل أن يُكملَ السائقُ ثلاثمائة متر مبتعداً عن البوابةِ طلبَ منه صاحبنا التوقّفَ وترجّلَ من السيارة .. ألقى النظرةَ الأخيرةَ على السّجن .. رأى بناياتٍ متراصّة تختفي خلفَ أسوارٍ عدة ويطوّقها سورٌ طويل .. اختاروا لها أن تكون في مكانٍ قصيٍّ جنوبَ المدينة .. هنا أمضى سنواتٍ من عمره .. وهناك لا يزال أحبابٌ له وأصحاب .. لهم في هدأة الليل دويٌّ بالترتيل .. وفي محتبسِ الصدور آهاتٌ وحسرات .. الليالي التي كانوا يقضونها في الحديثِ والسمَر .. والخصوماتُ التي كانت تحتدّ بينهم .. ووجباتُ الافطارِ التي تقصُر عن بعضهم فيؤثرُ بها البقية .. وانتظارُهم الواله لميعادِ الزيارات .. والمناماتُ التي يتحدثون بها كلّ صباح .. غريبةٌ أحلامُ السجناء .. تكادُ تشكّ أنهم يقتسمون نصفَ أحلامَ المدينة .. وأبو زياد الذي يوهمهم أنه يجيدُ تفسيرَ الرؤى .. وهو إنما يُحسن تعليلَ الارواح .. كان صاحبُنا ينظرُ لسائقِ الأجرة على أنّه مخبرٌ متنكرٌ .. وكان السائقُ الغريبُ لا يعرفُ شيئاً مما يدورُ حوله .. فقط توقّفَ له أحدُهم على الطريقِ السريع .. واقتادَه لهذا المكان .. وطلبَ منه حملَ هذا الشخصِ للمكانِ الذي يريد .. ولو صحّ أن القبورَ تبعثُ أهلها لكان يظنّه واحداً من أهلِ القبور .. أثوابُه قديمةٌ جداً وبها رائحةُ التراب .. وعيناهُ تتردّدُ في كلّ اتجاه .. ودموعُه تخالطُ الغبارَ الواقفَ على أهدابِه فتُشكّل شيئاً كـماءِ الطينِ يسري على خديه .. وهو يمسحه بأكمامه ..
" هل مات لك قريبٌ ؟" يسأل السائقُ باستغراب ..
لم يلتفتْ لسؤالهِ واستمرّ في نظرتِه الأخيرةِ للسجن .. قدمُه اليسرى على الأرض .. واليمنى على عتبةِ بابِ السيارة .. وهو متكيءٌ بساعديه على سقفها .. وعيناهُ مكتظّة بالدمع ..
نزلَ إليه السائقُ وأقنعه بالركوب .. وأحسنَ مواساته .. وأقفلَ البابَ جيداً حتى لا يتمكّن من العودةِ لفعله .. وكان السؤالُ " إلى أين تريد " وكان الجوابُ مختصراً وبتنهيدةٍ كادتْ أن تغيبَ في جوفهِ فلا تظهرَ أبداً ...
( حيّ السويدي !!! )
( ٥ )
انطلقَ سائقُ الأجرةِ باتجاه الشّمال .. حتى إذا وصلَ الطريقَ الدائريّ انحرفَ باتجاه الغرب .. ومضى بطريقه وقد أدارَ المذياعَ لقطعِ رتابةِ الجوّ الحزينِ .. كانت الإذاعةُ تنقل صلاةَ الاستسقاءِ من المسجدِ الحرامِ والخطيبُ يقول : " وكيف نرجو قطر السماء ولا زالت المظالمُ فينا تقسو على أرواحِ المظلومين " وصاحبُنا يتابعُ بإنصات .. اليومَ هو يومُ الاثنين .. وحركةُ سيرِ الطلبة لمدارسهم قد غصّتْ بها طرقاتُ الرياض .. وبقيتْ سيارةُ الأجرةِ تزحفُ في سيرٍ طويل .. استمرّ صاحبنا في تفكيره .. وأخذه هاجسٌ طويلٌ تذكّرَ فيه كيف أن شبيبةً من أبناءِ هذا الوطن .. سوّل لهم الشيطانُ فرأوا أن الخروجَ على الجماعةِ محمودٌ .. وتحوّلتْ بعضُ شوارعِ العاصمةِ الرياض لمواجهاتٍ حربية استُخدمتْ فيها الأسلحةُ والرشّاشاتُ وكأنها مقاطعةٌ في أفغانستان .. زملاؤه الذين قتلوا في المواجهاتِ .. والآخرون الذين كانوا يرتّبون أنفَسهم في مجموعاتٍ للإطاحةِ بالأمريكان وعملائِهم .. والشحنُ الكبيرُ الذي كانوا يتلقّونه من منتدياتِ الانترنت وساحاتِ الحوار وقناةِ الجزيرة .. وتفجيرُ مؤسساتِ الدولة .. وإعلانُ الحربِ على الجهاتِ الأمنية .. كيفَ انطلتْ عليهم الحيلةُ .. وكيف اعتقدوا تكفيرَ أخصامِهم .. ومن الذي سوّل لهمْ أنّ العلماءَ متخاذلون .. وأنّهم هم وحدَهم القادرون على تخليصِ الإسلامِ من شوكةِ أعدائه .. والدروسُ والمساجدُ وحلقُ القرآن وخطباءُ الجوامع والقضاةُ والدعاةُ ورجالُ الحسبة كلّهم هل عميتْ عنهم الحقائقُ .. هل كانت الحياةُ كريهةً لهذه الدرجة .. وهل عمّ الكفرُ الدنيا لتصبحَ بلادُ الحرمين ذاتُها دولةً من دُوله .. لا يدري ولا يصدّقُ كيف كانت تلك الأفكارُ تتداول حينها .. ومن كان السببَ في التغريرِ بشبابِ الوطن .. ثمّ لمَ القسوةُ عليه وعلى مئاتٍ من أمثالِه لم يكنْ لهم ذنبٌ سوى أن القدرَ اختارَهم ليتعرّفوا على مجموعةٍ من أولائك أو يتعاطفوا معهمْ بحكم الصداقةِ والقرابة .. وهل تصلحُ المفرداتُ التي اتهموهم بها للبقاءِ بالسجن عدةَ سنوات ..
هل حدثتكَ نفسُك بالجهادِ .. نعم
وجدنا بجوالك مقطعاً لحديث خاصٍ لزعيم تنظيمِ القاعدة .. نعم وهو مذاعٌ بقناةِ الجزيرة
سبقَ أن تدرّبت على ركوبِ الخيل .. نعم
تلقيتَ اتصالاً من شخصٍ ذاهبٍ للعراق .. نعم .. كان صديقي ودعوت الله له أن يرزقَه الشهادةَ
وقف شخصٌ على بابِ مسجدكم يطلب التبرعاتِ وأعطيتَه .. نعم كان كلّ الناس يصنعونَ ذلك
هل سبقَ أن استخدمتَ سلاحاً نارياً .. نعم في رحلةِ صيدٍ ومرح مع أبناءِ خالتي
لم شاركت في عزاء فلانٍ قتيلِ الإرهاب .. كان العزاءُ لأهله ليس له .. وبين أسرتنا وأسرتِهم ودٌ قديم وصلة تحتم عليّ فعل ذلك ..
كانت إجاباتُه تلك كفيلةً باتهامه وإحالتِه للقاضي الذي صدّق اعترافَه بحملِ أفكارٍ ضالّة .. ونصرةِ مطلوبين أمنياً .. والإعدادِ الغير مشروع للجهاد .. والمشاركةِ في جمع أموالٍ لجهاتٍ محظورة ..
حسناً أيّها السادة .. تستطيعون أن تجعلوا منها جريمةً تستحقّ الإعدام .. وتستطيعون أن تقرأوها في سياقِ أجواءٍ اجتماعية وفكرية عمّت الديارَ فتغضوا الطرْف .. أنا والله أحبّ هذا الوطنَ .. وأحترم علمائَه وولاتَه .. ولا أحبّ أن تعصفَ به فتنةٌ .. والديّ وزوجتي وثلاثةُ أطفالي يعيشونَ على ثراه .. هل تستحقّ جنايتي أن أغيبَ عن طفلي ذي الستةِ أشهر .. ويدخلُ الآنَ عامه الخامسَ وعيني لم تبصرْ عينه .. كيف حال أمّه التي كانت لأطفالي الأبَ والأم .. وبذلتْ من روحِها ووقتِها وجهدِها في سبيل رعايتهم .. واحتبستْ أهاتِ الألم والقهرِ في جوفها لتعيش .. وتدثّرتْ بالكفاف .. لماذا يُطلق الحبلُ على الغاربِ لرجالِ الأمنِ أن يفتّشوا كما يحلوا لهم .. وينتهكوا حرمةَ بيتي وأغراضي ويتلصّصوا على كلّ صغيرةٍ وكبيرةٍ مخالفين الأوامرَ برعايةِ حرمةِ البيوت والإنسان .. وما الحالُ الوحيدةُ التي حُوسب فيها أحدُ رجال الضبطِ على تجاوزِ مهامّه .. هل كان رجالُ الحسبة وحدهم هم الذين يساءلون .. وكيف يمكنُ أن يكونُ التحقيقُ نظامياً وهو ينتهكُ نصوصَ نطام الإجراءات الجزائية الذي اجتمع عليه أعضاءُ مجلسِ الشورى والوزراء .. المادة الرابعة والستون : للمتهمِ حقّ الاستعانة بوكيلٍ أو محام لحضورِ التحقيق .. المادةُ الثانية بعد المائة : يجبُ أن يتمّ الاستجوابُ في حالٍ لا تأثيرَ فيها على إرادة المتهم في إبداءِ أقواله .. المادةُ السادسة عشرة بعد المائة : يبلّغُ فوراً كلّ من يقبض عليه أو يوقف بأسبابِ القبضِ عليه أو توقيفه ويكونُ له حقّ الاتصال بمن يراه لإبلاغه ..
( ٦ )
انتهتْ خطبةُ الحرم فجأةً .. ولم يكنْ بعدَها صلاةٌ .. كانت الذكرياتُ تجوب بخاطرِ صاحبنا ولا تريدُ أن تهدأ .. اقتربوا من مخرجِ خمسة وعشرين .. سأله السائقُ " أين الطريق" رفع بصرَه للأمام وتأمّل اسمَ الطريق ( طريق عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنهما )
كانت عيناه قد ازدحمتا بالدمعِ من جديد .. لم يعدْ يتبيّن الحروفَ كثيرا .. سأل السائقَ هل هذا طريق عائشة فأجاب نعم .. أمرَه أن يذهبَ معه ذاتَ اليمين .. حتى إذا وصلوا الإشارةَ عادَ مرةً أخرى باتجاه الطريقِ الدائري .. وبين بنكِ الراجحي ومحطّة البنزين كان الشارعُ الذي يدخل بهم في اتجاهِ الغرب .. حتّى إذا بلغوا منتهاه انحرفوا يميناً .. وقبلَ أن يصلوا للجامعِ الواقفِ على ناصيةِ الشارعِ توقفوا أمامَ بيتٍ جميل .. كانت شوارعُ الأحياءِ قد بعثتْ زحامَها للطرقِ الرئيسيةِ .. واكتنفها هدوءٌ تام .. إلا من عاملِ نظافةٍ يؤدي وظيفته برتابةٍ بالغة .. أو عصفورٍ يغازل عصفورةً يلاحقها بين الأشجار ..
( ٧ )
هناكَ في داخل البيتِ كانت الزوجةُ الصابرةُ جالسةً في الصالة تقلّب صحيفةً يومية بعد أن ودّعتْ صغارَها لمدارسِهم .. وتتناولُ قهوةَ الصباح .. وعلى غير المعتادِ فاجأها طرْقٌ لبابِ المنزل .. تجاهلته أولَ الأمر .. غيرَ أنّه كان طرقاً منتظماً وواثقا .. وبنغمِ رسولٍ بشير .. خفق قلبُها واتجهت للهاتف تجيب .. وكان الصوتُ الذي لا تُخطأه أبداً يقولُ لها " الحمد لله على نعمائه أنا فلان يا حبيبتي "
عقدت الدهشةُ لسانَها فلم تستطعْ أن تجيبَ .. وبقيتْ أصابُعها جامدةً فترةً قبلَ أن تستطيعَ الضغطَ على الجهازِ آذنةً له بالدخول .. وانصرفتْ تجرّ أقدامها جرّا حتى دخلت غرفَتها وأغلقتْ عليها البابَ وغابتْ في نوبةِ بكاءٍ و نحيب ..
دخل صاحبنا دارَه وكأنّ على كتفيه أحمالَ الدنيا .. وقشعريرةٌ تسري في جسدهِ .. وحشدُ ذكرياتٍ صاخبٌ يشتّت ذهنه .. ويبعثُ في نفسه الحنين ..
حتى إذا وصلَ لبابِ غرفتها سمعَ نشيجَها من وراءِ الباب .. حاول طمأنتها وبقيَ يسلّيها وهي لا تستجيب .. عادَ لمكانها في الصالة .. وجد جريدتَها مفتوحةً على صفحةٍ عنوانُها :
( الوطنُ يستبشرُ بسلامةِ الملك )
وقد كتبتْ هي تحته سطراً بخطّ يدها : "اللهمّ أطلْ عمرَه على طاعتك .. واحرُسه من كلّ مكروه .. وارفعْ به عنّا المظلمة .. واكتبْ على يده فرجاً ومخرجاً لزوجي الحبيب"
أمسكَ القلمَ برفق وأتمّ العبارة : ولعمومِ أبناءِ الوطنِ المخطئين النادمين والمظلومين ..
طالب بن عبد الله آل طالب
عاشوراء / ١٤٣٤
عاشوراء / ١٤٣٤
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..