معادلة قد يختلف معي الكثير حولها..
هل الأولى تحفيظ الطلاب القرآن الكريم، أم زرع التدبر والفَهم لآيات الله،
حتى لو كان ذلك على حساب تقليل الحفظ؟.. أيهما أقرب في إقناع المتلقي
بعظمة الله وربوبيته ورحمته وقدرته ومشيئته.. مجرد نصوص تحفظ؟ أم التأمل
والتفكر الذي هو المحك الأساسي الموصل للإيمان بالله؟ وانعكاس ذلك إيجاباً
على خلجات النفس وجوارحها بما يحقق العبودية لله.
إن المتأمل في مناهج مدارس تحفيظ القرآن الكريم وحلقات التحفيظ يعلم
يقيناً أنها تميل في المقام الأول لترسيخ مفهوم الحفظ للقرآن الكريم، في
حين أن المطلب الأساس هو التدبُّر والفَهم والاتعاظ والعمل بما أُنزل به
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ
وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}.. ومن هذه القاعدة الأساسية في
القرآن الكريم نبع تساؤلي السابق.
ويمكن الرجوع للقرآن الكريم لمعرفة عدد الآيات التي أُمرنا فيها بالتدبر
والتفكّر وبين الآيات التي تدعو لحفظه!! كما أن المصطفى صلوات الله وسلامه
عليه يقول "خيرُكم من تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَه"، والتعلم يستدعي الفَهم
والتدبُّر.
ولتتضح الصورة بشكل أعمق.. دعوني أضرب مثالاً لطفل لم يتجاوز عمره
السادسة، فأيهم أقرب لفهمه واستيعابه، أن نُحفّظه سورة التكاثر على ما فيها
من تهديد ووعيد، قد لا تستوعبه تلك الفئة العمرية، أم الأولى أن نجعله
يتدبَّر ويتبصَّر في قصة إبراهيم عليه السلام في سورة الأنعام عند مناظرته
قومه عن الإله؟.. فتارة يراه في كوكب، ثم أخرى في القمر، ثم تارة يراه في
الشمس فهذا أكبر، إلى أن يقول {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، في
سياق سلس مؤثر ومقنع حول حقيقة الرب، ثم بعد ذلك نطلب منه حفظها؟.. ثم
لنتأمل وقْعَ قصة إبراهيم عليه السلام في سورة الأنبياء مع قومه وأصنامهم
التي هم لها عاكفون، وكيف كاد لها وكسَّرها، ثم رجوع قومه لأنفسهم وإيمانهم
بسوء سبيلهم بعد مشاهدتهم لذلك، ثم تداعيهم لإحراقه عليه السلام، وكيف
أنجاه الله.. في تسلسل منطقي غاية في الإقناع يرسخ توحيد الربوبية
والألوهية.. تصوروا معي ما هو أثر ذلك في قناعات الطفل الإيمانية عندما
يقوم المعلّم بشرح تلك القصص العظيمة بتدبُّر وتمعُّن ثم يُطلب منه حفظ
آياتها؟ أليس ذلك أكثر وقعاً على النفس في الإيمان بالله وتوحيده؟.. وعندما
يستوعب ويفهم المتلقي الآيات ويتأملها فسيكون أمر الحفظ هيناً عليه.
ولنا في منهج الصحابة - رضوان الله عليهم - أسوة حسنة، فها هو ابن مسعود -
رضي الله عنه - يقول: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى
يعرف معانيهن والعمل بهن".
مدارس تحفيظ القرآن الكريم ودور التحفيظ فيهما الخير الكثير، إلا أن
المجال واسع لتطوير آلية التعليم فيها، وتبني استراتيجية التدبر والفَهم
أولاً ثم الحفظ ثانياً؛ لتتمكن من تخريج جيل يجمع بين حفظه القرآن الكريم
وتدبره له؛ ما يشكل لدينا فرداً يمتلك إيماناً عميقاً بدينه، وسلوكاً
متشبعاً بقيم الإسلام وثوابته.
وأقتنص هنا ـ وبشيء من الاختصار ـ بعضاً من كلامٍ نفيسٍ لابن القيم - رحمه
الله - حول ذلك: "ليس شــيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده من تدبر القرآن
وجمع الفكر على معاني آياته، فإنها تُطْلع العبد على معالم الخير والشر
بحذافيرها، وعلى طرقاتهما وأسبابهما وثمراتهما ومآل أهلهما.. وتُثبت قواعد
الإيمان في قلبه، وتُرِيَه صورة الدنيا والآخرة والجنة والنار في قلبه..
وتُعرّفه ذاته - سبحانه وتعالى - وأسماءه وصفاته وأفعاله وما يحبه وما
يبغضه وصراطه الموصل إليه، وقواطيع الطريق وآفاته.. فتشهده الآخرة حتى كأنه
فيها، وتغيبه عن الدنيا حتى كأنه ليس فيها.. وتعطيه فرقاناً ونوراً
يُفرِّق به بين الهدى والضلال، وتعطيه قوة في قلبه وحياة واسعة وانشراحاً
وبهجة وسروراً.. فــلا تزال معانيه تهديه فـي ظُلم الآراء والمذاهب إلى
سواء السبيل".
فهل سنرى من مدارس تحفيظ القرآن وحلقات التحفيظ توجُّهاً نحو هذه الاستراتيجية التي تبني لنا جيلاً واعياً وليس مجرد وعاء حافظ؟
17 ربيع الأول 1434-2013-01-2910:43 AM
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..