الخميس، 31 يناير 2013

التشهير بالمفسدين!

يجب الأخذ في الاعتبار الجانب السيئ لتطبيق عقوبة التشهير، وألا تخضع للارتجال والعشوائية أو لردود الأفعال والانتقام، بل يجب أن تخضع لضوابط ومعايير ومبادئ وأسس علمية توضح ما ينبغي مراعاته عند تطبيقها من الأسئلة الشائعة التي تطرح بكثرة على رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد "نزاهة"، "لماذا لا يتم التشهير بالمفسدين والمسؤولين عن قضايا الفساد؟" وتكون الإجابة عن هذا التساؤل بأن: "التشهير لا يكون إلا بوجود حكم قضائي يفصل في القضية، فالمتهم بريء إلى أن تثبت إدانته"، ومع ذلك ما زال البعض يتساءل: "ماذا عن قضايا الفساد التي صدر فيها حكم قضائي بالإدانة فلماذا لا يتم التشهير بأسماء المفسدين؟".

إن قضية "عقوبة التشهير" تعد من أكثر القضايا حساسية وجدلاً في المجتمع، فكثير من الناس يرى أن "الخزي والعار" هما العاملان الرئيسان في ردع المحتال والمفسد عن ارتكاب جريمته، وبالتالي فإن عدم تفعيل هذه العقوبة يعطي فرصة للفاسد لارتكاب جريمته دون أن يعاني من النتائج، وسيبرر جريمته بحيث يعرف أن سمعته لن تتأثر، ولكن عندما يكتشف الناس والمجتمع أمره فإن هذا سيكون رادعاً قوياً بحد ذاته.

وفي المقابل أيضاً، هناك من يرى أن "عقوبة التشهير" تعد من العقوبات الشديدة والصارمة، قد تفوق في شدتها العقوبات الأخرى مثل السجن أو الفصل من الوظيفة، وبالرغم من صرامتها فإنها لا تمنع وقوع الجرائم، فهم يرون أن عقوبة الإعدام لم تمنع جرائم القتل العمد، وعقوبة السجن المؤبد لم تمنع الاتجار بالأعضاء البشرية على سبيل المثال، وبالتالي فإن عقوبة التشهير أيضاً لن تمنع جرائم الاختلاس والتزوير والرشوة.

لا شك أن العقوبات بشكل عام لها آثار نفسية واجتماعية، وتزداد حدتها في عقوبة التشهير - بالذات في المجتمعات المحافظة والدينية- التي لا تطال سمعة الفرد المسيء أو المخطئ فحسب، بل جميع أفراد أسرته ومعارفه وأصدقائه، وبالتالي قد تؤدي مثل هذه العقوبات إلى حدوث صدمات نفسية ومشاكل أسرية واجتماعية لا يدركها الكثير من الناس، لذا نجد أن القضاة يترددون في تطبيق مثل هذه العقوبة ويميلون إلى تطبيق عقوبة أخرى أخف صرامة، وربما الحكم بالبراءة تفادياً لهذه العقوبة لأن ضررها قد يكون أكثر من نفعها.

لقد أوضحت في قولي السابق بعض الآثار السلبية لعقوبة التشهير، ولا أقصد من ذلك إنكار أهمية هذا النوع من العقوبات أو الدعوة إلى عدم تطبيقها، فمن طبيعة الإنسان بوجه عام أنه يندفع نحو شهواته ورغباته ما لم يجد رادعاً يردعه عن ذلك، وعندما تغيب سلطة القانون سرعان ما تنتشر الفوضى في المجتمع، وفي هذا الصدد يقول أحد المختصين في علم الإجرام ما نصه: "إن معاقبة المجرم ظلم له ولكن في عدم معاقبته ظلم للمجتمع"، وبالتالي فإن معاقبة المجرم والمسيء أمر واجب ولا بد منه من أجل الناس، وإنما أردت بذلك توضيح الآثار السلبية لعقوبة التشهير حتى لا يساء تطبيقها أو توظف بطريقة خاطئة.

فالبعض من الناس للأسف ينظر إلى عقوبة التشهير كنوع من الإهانة للفرد المخطئ ويرى ضرورة إلحاق الأذى المعنوي والمادي بالمفسد، وذلك كنوع من الانتقام النفسي أو بعبارة أخرى نوع من (التشفي) بالغير، وهناك أيضاً من لا يفرق بين المحاكمة القضائية وإيقاع العقوبة نفسها، ناهيك عن عدم التفريق بين العقوبات والتدرج في تطبيقها على حسب الجرم المرتكب، وعليه هناك من يطالب بتطبيق عقوبة التشهير لأية قضية فساد تطرح على الرأي العام مهما كانت طبيعتها وظروفها، وبالتالي إعطاء حكم موحد وقاطع لكل تصرف مهما كانت دوافعه، وبغض النظر عن تباين الظروف والمقاصد.
بالإضافة إلى ما سبق، هناك إشكاليات إدارية عديدة تعاني منها بعض الجهات الحكومية، منها ما يتعلق بسوء الإدارة وضعف أنظمة الرقابة الداخلية وعدم وضوح وتكافؤ السلطات مع المسؤوليات، جميع هذه العوامل كفيلة بأن تؤدي إلى وجود ظلم على الموظفين المتهمين بقضايا الفساد المالي والإداري، بل كفيلة أيضاً بأن تعطي صك البراءة للمسؤول الحقيقي عن مثل هذه القضايا، وتطيح بموظف صغير لا ناقة له ولا جمل، لقد جرت العادة في العديد من الجهات الحكومية أن تركز الإجراءات الرقابية والعقوبات على الموظف بدلاً من الرقابة على العمل وتكاد تكون هذه الممارسة ثقافة إدارية سائدة، ولتوضيح الصورة أطرح المثال التالي: لنفترض أنه تم كشف عجز مالي يقدر بملايين الريالات لدى أمين الصندوق في إحدى الجهات الحكومية، فتكون التهمة لمثل هذه القضية هي الاختلاس المالي، ومهما أنكر الموظف هذه التهمة فإنها تثبت عليه، وقد يصدر بحقه حكم قضائي صارم بالسجن والتشهير معاً، فهنا تم تطبيق عقوبتين على المتهم، ولكن فيما بعد تم اكتشاف أن سبب العجز هو وجود إهمال من قبل الإدارة المالية في التقييد الدفتري لمبالغ الصندوق، وهو السبب الذي أظهر الفرق مع الرصيد الفعلي، وليتخيل معي القارئ الكريم وقع وآثار مثل هذه القضية على المتهم نفسه وعلى أسرته.

قد يعترض معترض على المثال السابق ويقول: "من الطبيعي أن نجد مظلومين في قضايا الفساد المالي والإداري، وهذا ليس مبرراً لنقد المطالبة بتطبيق عقوبة التشهير"، وهذا القول صحيح، وما أردت قوله بالتحديد إنه يجب الأخذ في الاعتبار الجانب السيئ لتطبيق هذه العقوبة، وألا تخضع للارتجال والعشوائية أو لردود الأفعال والانتقام، بل يجب أن تخضع لضوابط ومعايير ومبادئ وأسس علمية توضح ما ينبغي مراعاته عند تطبيقها.

وأخيراً ينبغي التأكيد على أن الهدف من العقوبات هو الحد من الفساد ومحاربته والحد من السلوكيات الخاطئة والمنحرفة، وبالتالي فإن العقوبة تكون موجهة إلى التصرف الخطأ لا للفرد نفسه، بالإضافة إلى تسليط الضوء على الخلل الموجود في الجهة الحكومية حتى يمكن معالجته وعدم تكرار المخالفات والأخطاء في المستقبل، فكثير من قضايا الفساد التي تم اكتشافها للأسف لم يتم الالتفات إلى مسبباتها وكيفية معالجتها وقياس آثارها الاقتصادية والاجتماعية في الوقت الذي ينبغي التركيز عليها في وقتنا الحاضر.

...............
الوطن

سطام عبدالعزيز المقرن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

أهلا بك ،
أشكر لك إطلاعك على الموضوع و أن رغبت في التعليق ،
فأرجو أن تضع إسمك ولو حتى إسما مستعارا للرد عليه عند تعدد التعليقات
كما أرجو أن نراعي أخلاقيات المسلم;حتى لانضطر لحذف التعليق
تقبل أطيب تحية
ملاحظة: يمنع منعا باتا وضع أية : روابط - إعلانات -أرقام هواتف
وسيتم الحذف فورا ..